75 عاماً على رحيل جبران خليل جبران والمغالطات تلف حياته

تلميذ نجيب في «مدرسة الحكمة» ولم يكتب في جريدة «الهدى»

TT

منذ ثلاثة أرباع القرن، رحل جبران خليل جبران، وطوال السنوات الـ 75 أعلن معظم الصحافيين والباحثين والخطباء عدة معلومات واستنتاجات مغلوطة حول شخصية جبران وأعماله. ومن المتوقع، أن يكرر بعض المحتفلين، تلك المعلومات، في الصحف والندوات والمهرجانات التي تقام هذا العام، بمناسبة مرور 75 عاما على وفاة جبران، ولذلك، ووفاء لذكراه هنا محاولة لتصويب بعض ما يروى ويتناقل.

اذا كان تكريم الأدباء واجباً ومفيداً لأنه يحرّض على الابداع، خصوصاً وان جبران خليل جبران، كان مبدعاً بامتياز، ومحارباً شرساً للتقليد والتقاليد، على حد تعبيره... فإن التكريم يتحول الى اساءة، حين يتداول بعض المكرِّمين معلومات خاطئة واحكاماً غير دقيقة، كالتي تُتداول منذ رحيل جبران، والمتوقع ان يستمر تداولها خلال هذا العام.

لقد انبثق مؤخراً عن منبر جبران للأبحاث والدراسات في مركز ابحاث التراث التابع لجامعة ميريلاند الاميركية، ما سمي «الاتحاد العالمي لدراسة حياة جبران وآثاره». واذا كنت آمل من الاتحاد ان يقيم ورشة ابحاث تقدّم حياة جبران وآثاره كما كانت بلا تزوير او اساطير، فإني احاول، في هذه العجالة، تصويب الاخطاء التي تحفل بها بعض الابحاث التي تناولت علاقة جبران بمدرسة «الحكمة» وجريدة «الهدى».

في تقديمه لمجموعة جبران العربية، يقول ميخائيل نعيمة ان عميد الرابطة القلمية «عاد ـ من بوسطن ـ ليدرس في مدرسة الحكمة البيروتية بين 1896 و1901». وهذه المعلومة وردت في الصفحتين 185 و556 من كتاب (this Man From Lebanon) لبربارا يونغ، احدى صديقات جبران. ويروي نقيب الصحافة اللبنانية الاسبق في لبنان، وديع عقل، انه وجبران، «كانا على مقعد التحصيل في مدرسة الحكمة المارونية تلميذين متجاورين». ويضيف ان جبران «كان يرسم صورة امرأة عارية... مر الخوري منصور من ورائنا وحانت منه التفاتة الى الرسم، فاستله، ثم أمسك بأذن جبران وغمزها وقال له معنّفاً: أهذا عملك يا شرير؟ ثم فرض عليه قصاصاً بأن يكتب خمسمائة سطر وقت اللعب. وصدع جبران لأمر الناظر». (مجلة جوبيتير، تموز/يوليو 1936). ولكن جميل جبر، في كتابه «جبران»، نقلا عن حبيب مسعود في مؤلفه «جبران حياً وميتاً»، أكد ان جبران عُرف بسرعة الادراك، بقدر ما عرف بعناده واستقلاله بالرأي. ويُروى من هذا القبيل ان مدير المعهد طلب اليه يوماً ان يقص شعره، وكان كثيفاً مسترسلاً حتى نقرته، فرفض وكاد يترك المدرسة لو لم يترك لهواه. ففرض نفسه على التلاميذ والمعلمين جميعاً. (النهار العربي والدولي، 9 شباط /فبراير1981).

ويشير رفيقا الدراسة، داود سعادة ويوسف الحويك الى «إعراض جبران عن بعض الدروس النظامية التي لم ترق له، فينصرف الى الرسم في قاعة الصف». (كتاب «محاضرات في جبران»، لانطوان غطاس كرم، ص 29).

والأسئلة الآن: أحقاً، التحق جبران بمدرسة الحكمة عام 1896، وبقي فيها ست سنوات؟ وهل كان جبران متمردا على إداريي المدرسة ومعلميها؟ أم كان ملتزماً بالقوانين ومطيعاً للمدير والناظر وسائر الهيئة الادارية والتعليمية؟ وأخيراً، هل التحق جبران بالصفوف وتابع الدروس أسوة بسائر الطلاب؟ أم هو تصرف وفق مزاجه، كما تقول مرويات زملائه في المدرسة، وأستاذه الخوري يوسف الحداد الذي وافق جبران حين قال له: «دعني أحضر عندك، لا أسأل ولا أُسأل»؟.

باستثناء الدكتور انطون غطاس كرم وقلة من الباحثين، فإن معظم الذين كتبوا عن جبران، ارتكزوا على المرويات، ولم يفتشوا على المراجع المكتوبة الصحيحة والدقيقة. فالدكتور كرم عاد الى مكتبة جبران في متحف بشري، وقرأ في الصفحة الاخيرة من احد الكتب الانكليزية التي اصطحبها جبران معه، هذه العبارة التي كتبها بالعربية: «قد وصلت الى بيروت في 3 أغسطس/ آب 1898». (محاضرات في جبران ـ ص 26).

تبقى الأسئلة الأخرى المتمحورة حول تمرد جبران أو طاعته، وتفوقه، وعدد السنوات التي أمضاها في المدرسة التي أسسها المؤرخ المطران يوسف الدبس، فإن الكتب التي كانت تصدرها إدارة المدرسة في نهاية كل عام دراسي، وتضمّنها لوائح بأسماء الطلاب المجدين، تحتضن الجواب الحاسم. يفيد الكتاب الصادر في عام 1899، وهي السنة الأولى لجبران في «الحكمة»، ان وديع عقل كان طالبا في المدرسة، ولكنه لم يكن في صف جبران، كما يزعم. ويستنتج من اللوائح التي تتضمن أسماء المتفوقين والمواد التي سجلوا تفوقا فيها، ومستوى الصفوف، وأسماء القرى أو المدن التي جاؤوا منها، ان جبران كان مواظبا على كل الدروس، وخاضعا للنظام، ومتفوقا في معظم الحصص. وتفيد الصفحات 149، 150، 151، انه نال الجائزة الاولى في مادة «النجاح». وفي «الاجتهاد» استحق الجائزة الثانية. وفي «تصريف الأفعال» تبوأ المرتبة الخامسة. ووصل الى المرتبة السادسة في «الاستظهار»، وحاز على الجائزة الاولى في «الخط»، وجاء سابعاً في «التعليم المسيحي».

قبل الانتقال الى سنة جبران المدرسية الثالثة، لا بأس من تسجيل ملاحظتين: الاولى، ان تفوق جبران لم ينجم عن اجتهاده فقط، بل عن مواهبه أيضا. ذلك انه كان بخلاف زملائه في الصف، جديدا في المدرسة، وضعيفا باللغة العربية حيث كانت كتاباته أقرب الى العامية. الملاحظة الثانية، ان حيازته على المرتبة السابعة في التعليم الديني، يدعو الى الاستنتاج انه لم يكن مقتنعا بالمفاهيم الدينية الرسمية، وقد تجلى ذلك في نتاجه اللاحق، مما أغضب رجال الدين المسيحي، كما بات معروفا.

في السجل الصادر في تموز 1901، ورد اسم جبران ست مرات. وفي اللائحة الخاصة بـ «حسن السلوك» ورد اسم جبران في أسفلها، وبعد تسعة أسماء. وهنا أيضا نتبيّن ملامح عدم قناعة جبران بالاسلوب التربوي التقليدي الذي كان متبعا آنذاك. ونال جبران المرتبة الرابعة في موضوع الخط العربي، ثم قفز الى المرتبة الاولى في المواد الأربع التالية: «النجاح» و«الانشاء» و«المراسلات» و«اللغة». وإذا كان مستغربا عدم حيازة جبران المرتبة الاولى في الخط، فإن تفوقه في «المراسلات» يفسّر كمية الرسائل الكبيرة التي خطّها منذ تخرجه حتى رحيله، وصياغته لها، بحيث تُنقل من ارشيف المرسلة اليه، الى صفحات كتاب خاص بالرسائل الجبرانية.

ولما كان معظم الباحثين مجمعين على ان جبران غادر مدرسة «الحكمة» ولبنان وعاد الى بوسطن في عام 1901، فإنني أقلب الصفحة على جريدة «الهدى» وصاحبها المثير للجدل نعوم مكرزل.

يؤكد بعض الباحثين والصحافيين والخطباء، ان الريحاني وجبران، أغرقا صفحات إعداد الجريدة العربية النيويوركية بنتاجهما. واذا كانت المعلومة صحيحة بالنسبة للريحاني الذي نشر بعض بواكير نتاجه في «الهدى»، فإنها مغلوطة تماما بالنسبة لجبران. فقد عرضت مجلدات «الهدى» عددا كبيرا، منذ صدورها في 22 شباط 1897 حتى رحيل جبران في 10 نيسان 1931، فلم أعثر إلا على خطاب لجبران بعنوان «وظائف الصحافة». وكان طبيعيا ان ينشر الخطاب في «الهدى» لأنه ألقي في احتفال اليوبيل الفضي لها. وبالعكس، فإن جبران نشر باكورة نتاجه في جريدة «المهاجر» العربية النيويوركية المنافسة «للهدى» منذ عام 1904 حتى 1908. والجدير ان التراشق الاعلامي لم ينقطع بين صاحب «المهاجر» امين الغريب وصاحب «الهدى».

صحيح ان المكرزل حاول إغراء جبران براتب جيد اذا هو ترك «المهاجر» والتحق بـ «الهدى». ولكن المحاولة فشلت. واثر توقّف «المهاجر»، استأنف جبران نشر مقالاته الادبية والسياسية في جريدتي «مرآة الغرب» و«السائح». ولم تكن الحملات المتبادلة بين نعوم مكرزل من جهة، وصاحبي الدوريتين المذكورتين نجيب دياب وعبد المسيح حداد، من جهة مقابلة، أقل ضراوة. بل ان القصف المكرزلي قد طال جبران نفسه. وعلى سبيل المثال، قال المكرزل في سياق هجومه على مسؤولي «لجنة تحرير سورية وجبل لبنان»: «أما جبران، فليس لأحد حق عليه. هو يبكي. ويحب أن يبكي علنا. وبالرغم من سلامة قلبه، لا يستطيع أن يكون مستقلا. ولا يكون غير تابع. مع انه بغنى عن الزمرة كلها». («الهدى» 9 أغسطس 1917).

وكان المكرزل قد تهكم على «خيالات» جبران في سياق وصفه لأحد مهرجانات اللجنة، فقال: «قام جبران، وأخذ يرسم صورة قلمية، صوّر للناس فيها، انهم عاشوا في جوف الافعوان التركي خمسة قرون ولم يهضمهم». («الهدى» 8 أغسطس 1917). وفي عدد ثالث من «الهدى»، وصف المكرزل جبران بهذه الكلمات التحقيرية: «هذا قصير، ناحل القوام، له طول شعر شمشمون، ولكن ليس قوته. واذا كانت الحرب في هذه الأيام تقوم على الكلام، فبذلك يحارب، ولكنه يصطنع قنابل كلامه. اذ هو يتناول القهوة قبل ان ينهض من سريره صباحا». («الهدى» 11 أغسطس 1917).

ومع ذلك، فإن رئيس تحرير «المشارق»، جوزف الخوري طوق، الذي أصدر عشرات الكتب عن جبران، لم يكتف بالموافقة على المعلومة المغلوطة، ولكنه أعاد نشر مقالة «رؤيا» المنشورة في جريدة «المهاجر»، والمعاد نشرها في كتاب «دمعة وابتسامة»، في عدد مجلته الخاص بجبران، وقد توّجها بهذه العبارة: «أول مقالة كتبها جبران... نشرت عام 1900 في جريدة الهدى». وبالطبع، لم تكن «رؤيا» باكورة مقالات جبران. ناهيك من أنه بدأ ينشر في «المهاجر» في عام 1904.