نصّان مجهولان لجبران لم تنشرا في مجموعته الكاملة

TT

* « الفكر »

كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولد من فكر واحد او من حاسة واحدة في داخل الانسان. كل ما نراه اليوم من اعمال الاجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكرا خفيا في عقل رجل او عاطفة لطيفة في صدر امرأة.

الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة، كانت فكرا خياليا مرتعشا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف من الرجال. الحروب الموجعة التي ثلت العروش وضربت الممالك كانت خاطرا يتمايل في رأس رجل واحد. التعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية، كانت ميلا شعريا في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه.

فكر واحد اقام الاهرام، وعاطفة واحدة خربت طروادة، وخاطر واحد اوجد مجد الاسلام، وكلمة واحدة احرقت مكتبة الاسكندرية.

فكر واحد يجيئك في سكينة الليل ويسير بك الى المجد او الى الجنون. نظرة واحدة من اطراف اجفان امرأة تجعلك اسعد الناس. كلمة واحدة تخرج من بين شفتي رجل تصيّرك غنيا بعد الفقر او فقيرا بعد الغنى.

«رسالة من جبران إلى أمين الغريّب»

يا اخي امين .. هذه آخر كلمة اقولها لك وانت في هذه البلاد. كلمة صغيرة صادرة من قدس اقداس القلب.

مع تنهيدة شوق وابتسامة امل. كن معافى في كل ساعة، من كل يوم، من كل شهر. تمتع بالاشياء الجميلة اينما رأيتها وابق خيالاتها وصداها في قلبك الى حين رجوعك الى محبيك ومريديك.

قابل عشاق «المهاجر» في مصر ولبنان وسورية، واتلُ على مسامعهم حديث اخوانهم المهاجرين، وانشر امامهم ما طوت المسافة الشاسعة الفاصلة بين قلوبنا وقلوبهم، ومكن تلك العرى التي توثق قلوب قلوبنا بقلوب قلوبهم، قف على احدى قمم لبنان صباحا وتأمل في طلوع الشمس وانسكاب شعاعها الذهبي على القرى والاودية.

وابق هذه الصورة السماوية على لوح صدرك لكي نراها عندما تعود الينا. تلطف واجر ذكر الحنين الذي في ارواحنا وتمنيات قلوبنا امام الناشئة اللبنانية. اخبر رجال لبنان وسورية العتيدين بان جميع افكارنا وعواطفنا واحلامنا لا تخرج وتتطاير من رؤوسنا وصدورنا الا لتسبح طائرة نحوهم.

عندما تبلغ بك الباخرة بيروت قف على مقدمها وانظر نحو صنين وفم الميزاب. وحيّ عنا الجدود النائمين تحت اطباق الثرى والاباء والاخوان العائشين فوقه.

اذكر جدنا واجتهادنا في الاجتماعات العامة والخاصة، قل هم يشتعلون بزرع البذور في اميركا لكي يستغلوها يوما في لبنان وسورية، اذكر اسمي امام محبي «المهاجر» في مصر ولبنان وسورية لعل اسمي يصير ذا نغمة لطيفة اذ يجتاز مسامعهم.

بوسطن ـ 18 شباط 1900