محمود درويش يحيي أول أمسية في عهد حماس

مفاجأة مصطفى أخميس باغتت الشاعر عند دخوله والخروج

TT

لشخص يولي أهمية للرموز والدلالات، كما هو حال محمود درويش، فإن وقوفه في نفس المكان مرتين، بفاصل ستة أعوام، حفلت بالانقلابات والمتغيرات، يعني له الكثير. وهو ما حدث أخيراً، في «جامعة بيت لحم» ذات الأجواء الليبرالية، في أول ظهور صاخب لدرويش في عهد حكومة حماس، والمناسبة أمسية شعرية نادرة، كما وصفها هو نفسه، برعاية وزارة الثقافة الفلسطينية بقيادتها الحمساوية الجديدة.

جاء جمهور محمود درويش مبكرا إلى القاعة، وكل واحد ارتدى ملابسه الجميلة، ووضع العطور المفضلة. وتأبطت السيدات أذرع رجالهن. وحتى جمهور صغار السن، كان يدرك انه في حضرة مناسبة من النوع الذي لا يتكرر.

قدّر الحضور الكبير بنحو ثلاثة آلاف. وقبل بداية الأمسية احتج المئات، على متابعتها عبر شاشة في قاعة مجاورة، واستجاب المنظمون لمطلبهم، وأدخلوا القاعة الرئيسية، التي وصلها درويش برفقة يحي يخلف، وزير الثقافة الفلسطيني السابق، والمنفذ الأمين لسياسة ياسر عرفات، لكنه فوجئ، بمجرد أن جلس، بفتاتين ورجل كبير السن، كل منهم مد له يدا وبها كتاب. وتبين أن الفتاتين أرادتا أن يوقع لهما درويش أحد دواوينه. أما الرجل الذي لا شك أن درويش احتار بأمره، فاسمه مصطفى اخميس، تجاوز الثمانين، وكان قياديا في تنظيم فلسطيني راديكالي، يتخذ من العاصمة السورية مقرا له، ولكنه بعد اتفاق أوسلو، أعلن انشقاقه عن التنظيم وعاد إلى الوطن مع صديقه ياسر عرفات، الذي منحه الأموال، نكاية بالتنظيم المعارض، على الأرجح، ليؤسس حزبا جديدا. ومنذ سنوات أصدر الرجل كتابا ضخما، وضع صورته على غلافه وعنوانا يشير إلى أن الصهيونية والنازية شيء واحد، وأهدى نسخة إلى عرفات. وخلال اقتحام القوات الإسرائيلية لمقر عرفات عام 2002، وإعلانها العثور على وثائق خطيرة تدين رئيس السلطة الراحل، كان من بينها كتاب اخميس هذا، الذي احب تقديم نسخة منه لدرويش. لكن منظمي الحفل أبعدوا الثلاثة. وقدمت الأكاديمية فيرا بابون، درويش، قائلة، ان جماليات شعره، ستنسي الحضور ألم الجدار، ووصفته بأنه سفير القضية، وأمير القصيدة الفلسطينية، وخاطبته بحماس مؤثر «يومك اليوم، ليس كسائر الأيام، أنت اليوم في إمارة السلام، والمحبة الإلهية، يا أمير أشعارنا، قف على هذا المنبر الذي تلتقي فيه رسالة الأرض برسالة السلام، يا رسول الكلمة».

وقدم عازف عود ألحانا لقصائد لدرويش، الذي ما ان اعتلى المنصة، حتى اندلعت عاصفة تصفيق، أخجلته ووردت خديه فخاطب الجمهور، شاكراً بشكل خاص الذين اجتازوا الحواجز العسكرية، ليحضروا الأمسية التي أهداها إلى روح الراحل محمد الماغوط.

وقال درويش، انه درج على البدء بقصيدة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» التي وصفها بأنها نشيده الخاص، الذي يحث الشبان الفلسطينيين على حب الحياة وليس ازدراء البقاء.

وكانت القصيدة الثانية «فكّر بغيرك»، إيثارية كلاسيكية مستهلكة، بقالب فني لافت، ربما لو ضمنها شاعر آخر غير درويش قصائده، لما حظيت بنجاح. وأنشد درويش للوطن، والأرض، والموت، محاولاً أن يلفت انتباه الجمهور إلى بعض المقاطع بالتأكيد الصوتي عليها.

وأخيرا قال درويش: «أريد أن انشد للحب، أريد أن ارضي كل الأذواق»، وخصص ما تبقى من أمسيته لأناشيد عن الجميلات، ومفردات الفراق والوصل والحلم.

وعندما تعب الشاعر بعد ساعتين، وقف الجمهور يودعه بعاصفة تصفيق، وكاد يغادر غير ان عريفة الحفل نادته لأن جهتين تريدان تكريمه، فعاد ليتسلم درعين، لكنه فوجئ بالرجل الذي داهمه في بداية الأمسية، يقفز إلى المسرح، ويقدم له كتابه عن النازية والصهيونية، ويمسك يده ويرفعها ملوحا على طريقة الزعماء السياسيين، ثم يخاطبه بكلمات آمرة بالحذر من الصهيونية، لتنتهي الأمسية كما بدأت بمفاجأة الرجل المباغت مصطفى اخميس.

وكانت تلك الأمسية فرصة لدرويش ليذكر آخر مرة كان فيها في جامعة بيت لحم عام 1999، لتوزيع جوائز للثقافة والعلوم والآداب، بحضور ورعاية رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات. ودرويش هو من تولى رئاسة لجنة الجوائز، ويعتقد انه كان عمليا يحدد مستحقيها من داخل الوطن وخارجه.

وكاد الحفل يومها أن يتحول إلى تهريج، خصوصا عندما قدم الشاعر سميح القاسم، الذي فاز بإحدى الجوائز، كلمة طويلة، بدت كمشهد مسرحي ممل، لجأ فيه القاسم إلى الصوت، وحركات اليدين والرأس، في وصلة غزل طويلة لعرفات، الذي نهض من مقعده، وناول القاسم، مسدسه الشهير الذي يضعه على جنبه طالبا منه، أن يستخدمه ضده، إن رأى أن عرفات قد حاد عن الطريق المستقيم.

واستدعى المشهد ضحكات الجمهور، حتى جاء دور درويش ليلقي كلمته، فصمتت القاعة، لتسمعه يحذر من مصير بائس للسلطة إذا استمرت في سياستها الداخلية الفوضوية والقمعية، وسجل موقفا للتاريخ بحضور عرفات الذي تبرم من الكلمة. لكن الأحداث أثبتت صدق نبوءة الشاعر، الذي وبخلاف الشعراء الفلسطينيين المكرسين، الذين خافوا الاقتراب من المواضيع الوطنية، تجرأ وكتب، في غمرة انتفاضة الأقصى عن محمد الدرة، وعن دم الولد «الذي زاد عن حاجة الأنبياء»، ثم كتب مطولة «حالة حصار»، ليكون مع جمهوره، في اتفاق غير مكتوب، ويطوران معا تجربة شعرية نادرة، وليعطي مثلا عن كيف يصبح بعض الشعراء كبارا، في حين يسقط شعراء كثر عندما يظنون أنفسهم أكبر من الجمهور ومن الشعر نفسه.