الياباني إيكيزاوا ناتسوكي: من يخبرني عن أصدقائي الذين التقيتُهم في العراق؟!

روائي وشاعر مشاغب كتبه قيد الترجمة إلى العربية

TT

تعززت رغبتي في لقاء الروائي والشاعر الياباني الكبير «إيكيزاوا ناتسوكي»، بعد أن قرأتُ له العديد من رواياته ومجموعاته القصصية، وعرفت مواقفه الرافضة للوصاية الأميركية، والسياسة العسكرتارية لليمين المُحافظ الحاكم في بلده. لا بل ان ناتسوكي يدير موقعا إلكترونيا هاما يدبج فيه نصوصه السياسية والفكرية، وألَّف كتاباً عن العراق عنوانه «على جسر صغير بالعراق».

اللقاء بالكاتب إيكيزاوا ناتسوكي (مواليد 1945، متخصص في العلوم الفيزيائية، وعاش في اليونان ما بين 1975 و1978)، فرصة للتقرب من أجواء الأدب الياباني وطريقة تفكير كُتّابه. والرجل من أشد المعادين للوجود الأميركي في بلده، خاصة في جزيرة أوكيناوا، وتأتي فضائح المارينز المتكررة (الجنسية والأخلاقية) لتمنحه هالة كبيرة في اليابان. موقفه السياسي الواضح والصريح، على شاكلة مواطنه الحائز على نوبل للأدب «كونزابورو أُوي»، يجعله يختلف عن كتاب يابانيين مهمين، مثل «هاروكي موراكامي»، الذي قال مؤخرا، لمجلة «ترانسفوج» الفرنسية، تعليقاً على خطاب «أوي»، بمناسبة حصوله على نوبل: «ليس عندي أصدقاء، وحتى أُوي، الذي ينتمي إلى الحرس القديم لليسار ليس قريبا مني. أنا بعيد من مواقفهم السياسية. لقد خََبَرْتُ ثورة 1968 ـ 1969، وأصبت بخيبة شديدة من هؤلاء اليساريين قصيري النظر والذين لا يملكون خيالا. فابتعدتُ عنهم».

ذهبتُ إلى مكان اللقاء في منطقة Chatelet الباريسية، قبل الموعد بساعة. وقررت أن أتمشى، ثم لمحتُ بالقرب مني رجلا أشبه براهب بوذي. قلتُ في نفسي: «إنّه هو!»، ابتعدتُ عنه متجها إلى مكان الموعد، وحين وصلتُ إلى المقهى، فوجئت به جالسا مع زوجته الصحافية اليابانية توموكو هيروسي، ويابانية شابة تدرس الأدب الفرنسي في جامعة السُّوربون.

السلام عليكم، قلت لهم. إذ كنتُ واثقا من أنهما (الكاتبُ وزوجته) سيفهمان هذه الجملة.

وعليكم السلام. أجاباني معا، ولو أنّ الزوجة أكثر تعبيرية من الروائي الذي لا يُجيب إلا بكلمات محسوبة جدا.

كتب في مؤلفه: «على جسر صغير بالعراق»: «قررتُ التوجه إلى العراق، بهدف زيارة مواقعها الأركيولوجية. فأنا أشتغل، منذ سنوات، على نشر سلسلة مقالات عن حضارات العالَم من خلال آثارها وأطلالها، ولهذا السبب سافرتُ إلى العديد من الدول». وكتب أيضاً: «وصلتُ إلى بغداد متأخرا في الليل، وفي الصباح بعد استيقاظي تجولتُ في شوارعها وأُصبت بالدهشة من الهدوء الذي يعمّ. من بغداد قمت بجولة استغرقت أسبوعين من الموصل شمالا إلى الناصرية جنوبا. لي طريقتي الخاصة في اكتشاف بلدٍ ما، تتجلى في تركيزي الخاصّ على التغذية».

الكتاب يغصّ بوصف أشياء قد لا يتوقف عندها المسافر العادي، أو الرحالة الغربي. وينتهي بهذه العبارات المؤثرة: «عدتُ من العراق منذ سبعة أسابيع. كنتُ في مدينة الموصل يوم بزوغ هلال شهر رمضان. الخبراء الأمميون كانوا على أهبة المغادرة، ولكن الوضع في العراق كان متوترا. والحكومة الأميركية كانت دائما مستعدة للعثور على أيّ تبرير للهجوم. «إيزيس» سفينة الحرب اليابانية الأكثر تطورا انطلقت إلى الخليج الفارسي. هكذا فاليابان، من دون أدنى نقاش عمومي، قررت الانخراط في الحرب. في هذا الكتاب أردت أن أتحدث عن هؤلاء العراقيين الذين سيلقون حتفهم في هذه الحرب، إن وقعتْ. وعلى خلاف الحرب الكونية الثانية، فالأمر لا يتعلق هنا بحرب بين قوتين كبيرتين. في الناصرية لمحت رجلا يصبغ باللونين الأخضر والأبيض كتلا إسمنتية في مفترق طريق، ومن سيارتي، لم أنظر إليه إلا لثوان قليلة، ولكني احتفظتُ بذكرى دقيقة ومحددة عن يده وهي تمسك بالفرشاة. أيّ كائن بشري في العالم يفعل نفس الشيء، ألا وهو إجهاد النفس من أجل بناء حياة جميلة وهادئة من أجل الذات والعائلة والأقرباء. شخصيا، كنتُ أعتقد أنه يمكن تجنب الحرب».

سألته، انطلاقا من خاتمة الكتاب: «هل كنتَ متفائلا أكثر من اللازم؟»، قال لي، بنوع من الخجل: «ربما! لكن من يعرف الأميركيين لن يتفاجأ. لقد فعلوا نفس الشيء معنا في اليابان».

يُضمّن الكاتب الياباني مؤلفه الصغير، مجمل ما يعرفه عن العراق والعالم العربي. ولعله استقى بعض معلوماته من المستشرق الياباني «ياسي نوتاهارا» (صدرت بعض الترجمات له عن دار الجمل)، إذ يقوله عنه: «إنه صديقي. أقرأه باستمرار. وقد كتبتُ دراسة وافية عن كتابه عن الأدب العربي في صحيفة «أساهي تشينبون» الواسعة الانتشار».

لا يتوقف إيكيزاوا عن الحديث عن طيبة العراقيين. وفي لحظة ما فاجأني بطلب غريب: «هل تستطيع مساعدتي في معرفة ما إذا كان أصدقائي الذين التقيتُهم هناك، ما زالوا على قيد الحياة؟»، قلت له، بأن الحرب لما تَزَل مستعرة، فكيف لي أن ألبي طلبه!

في بغداد، وفي شارع المتنبي تحديدا، عثر إيكيزاوا على كتاب لمواطنه «تاكاهاشي هيديهيكو»، وهو عن رحلته إلى العراق قبل أكثر من عشرين سنة: «أحسستُ، في الحال، بأنه يمكن أن يكون مُفيدا لي. لأنه يصف بدقة الحياة اليومية ويتحدث عن المواقع التاريخية والثقافة العراقية».

سألته عن أنشطته الجديدة؟ قال إنه يكرس وقتا طويلا للإشراف على موقعه الالكتروني www.cafeimpala.com وسينتهي قريبا من نشر ترجمته اليابانية الجديدة لرواية «الأمير الصغير» لسانت إكزوبيري، وكتابات أخرى، وهو مترجم للشعر اليوناني المعاصر.

الحديث مع إيكيزاوا ممتع، وطاقته في الإنصات لا مثيل لها، كما أن تواضعه جعلني أفرغ الكثير مما في جعبتي من إعجاب بثقافة بلده، ومن حزن عميق على حالتنا.

وأنا أودعه، وأشد على يده (اليابانيون عموما لا يصافحون. يكتفون بطأطأة رؤوسهم احتراما)، لم أنس أن أقول له: «لعلّ صحيفة «الشرق الأوسط» تطلب من كل الذين التقيت بهم أثناء سفرك إلى العراق، بالطبع ممن لا يزالون على قيد الحياة منهم، أن يُطمئِنُوك على حياتهم!».

* كتابان يصدران قريبا بالعربية للياباني إيكيزاوا ناتسوكي، ترجمة محمد المزديوي:

«على جسر بالعراق» من «المركز الثقافي العربي»، ومجموعة قصصية من «دار الجمل»