عوالم لو تأملناها لعدنا أطفالا نجري والحلوى تتساقط من جيوبنا

افترقا منذ الولادة والتقيا بعد خمسين سنة في معرض للنحت

TT

يتميز المشهد التشكيلي في المغرب بالتعددية الفنية في مجال يغلب عليه عادة الرسم بمفهومه المتداول، غير أن أشكالا أخرى تهاجر علاماتها الراقصة منه إلى أجناس مغايرة تعضد دينامية الفنون البصرية المحلية التي يسمها التحول، والتقاطع والتطعيم بأنساق رمزية ومواد لها كلمتها في مستقبل الثقافة البصرية المغربية المعاصرة.

وفي هذا السياق، تنظم «دار الفنون» في الدار البيضاء، معرضا طريفا للنحت لكل من الفنانين، المغربي عبد الكريم الوزاني والبلجيكي يان لينكانت، تتعانق فيه العين المغربية بأختها البلجيكية، في تناغم سيميائي متجدد الرؤية والأبعاد.

ولد عبد الكريم الوزاني بتطوان سنة 1954، ودرس بمدرسة الفنون الجميلة، بمسقط رأسه وفي باريس. واستطاع هذا الفنان أن يبتكر جغرافيا سحرية في الفن التشكيلي الحديث بالمغرب، تتمثل في روح طفولية عجيبة تسكن منحوتاته ولوحاته. إنه صانع ألعاب مستقبلية لا مثيل لها إلا في رؤوس أطفال سعداء يلعبون بمتعة خالصة في برية البشرية المطلقة. إذ يستعمل الفنان لخلق هذه العوالم الاستثنائية المعدن والجبص اللذين يلبسهما طبقة سميكة من الأكريليك، مما يضفي على منحوتاته حركية قوية تذهب بالمشاهد بعيدا في تجاويف ذاكرة بيضاء تنعشها فرحة الحركات الأولى التي يقوم بها الطفل تلقائيا لاكتشاف دوار العالم اللذيذ. هذه الحركية البصرية، تعيد ابتكار مفهوم الفضاء نفسه بكسر أحادية أبعاده ووضعها في سيرورة حواس تتشكل في البناء الدائب للنظر. فيتقاطع تركيب اللعب مع الألوان الحارة كالأحمر والأصفر والأخضر أو الأبيض، كأنه طفل يحلم بألوان الجنة أو على الأصح، يقتفي آثار عوالم خرافية لا توجد سوى في مخيلة ملائكة الوزاني الصغار. عوالم تطير فيها الأسماك وتدور فيها عجلات دراجات عملاقة تلتحم بكائنات بشرية تصغر وتكبر، حسب بهجة المنحوتة المعروضة في القاعة أو في حديقة الفنون. إنها مدينة ألعاب سحرية تلوي عنق الرأسمال الذي ينخر مدن الألعاب التي يدفن فيها الأطفال أحياء في نهاية كل الأسبوع. فكيف التقى عبد الكريم بأخيه يان؟

«لقائي بيان شيء لا يصدق. تصوروا أخوين توأمين افترقا منذ الولادة ليلتقيا بعد خمسين سنة. ففي نحته أجد نفسي، مع بعض الفروقات التي تعود بالتأكيد إلى اختلاف الثقافة».

تسكن الأخوة اللحم والدم وأسرار الزجاج. لذلك يعترف يان لينكناغت قائلا: «كان الزجاج يفتنني منذ الصغر، لذلك لم يخطر على بالي أبدا أن أشتغل على مادة أخرى غيره. إنه مرادف للبقاء، بالنسبة لي، ومن دونه كنت سأشعر فعلا بالضياع». يتناقض مزاج الفنان الانطوائي مع الحيوية المفرطة التي تفيض من منحوتاته الزجاجية التي تعتبر التوأم الروحي لأعمال عبد الكريم الوزاني. فهو أيضا يستعمل الألوان القوية في تركيباته التشكيلية من أزرق وأحمر وأصفر لتشكيل منحوتاته اللعبية ذات الإيقاعات الحلزونية التي قد يراها المشاهد كألعاب سقطت سهوا من رأس طفل بهره جمال الشمس. إن منحوتات يان تعطيك الانطباع بأنك تتنزه في حدائق بابل المعلقة بأزهارها وشجيراتها ونباتاتها المستنيرة بحرارة الشمس وبخطوات العابرين الذين يتوقفون قليلا لتأمل هذا المعمار العجيب الذي يعكس تفاعل النور بسر الزجاج الذي لا ينكشف إلا لمن يغمره ضوء البراءة الأولى: الطفولة الهاربة منا إلينا. «إن إبداعي لا وجود له في الظلمة». فالفصول تضفي على زجاجيات النحات عنفوان حيوات يمهرها البرد ورماد الغيوم وأشعة الشمس الباسمة على وجه هذا الزجاج الذي يحيا ليموت، ليحيا من جديد مع زفرات الطبيعة وشهقاتها الملونة. إنه لقاء نادر تحت قوس قزح أمام دراجات عملاقة ومنحوتات زجاجية تحتفي بعين مزدوجة تتجاوز أوهام الحدود الفيزيائية الزائلة.

ما الذي يجعل نحاتا مغربيا يرى بروح بلجيكية إلى بهاء العالم؟ والعكس صحيح. إنها يد الطفل المرح التي تمسك بخيالهما وتنفخه في مواد لا تختلف وجوهها إلا لتتآلف في أشكال تدخل بهجة بعيدة في الزمن والذاكرة على عين الطفل الثالثة التي تسحرنا بها هذه المنحوتات العجيبة الخارجة توا من أحلامنا الصغيرة التي نخفيها بحب في نظراتنا العجلى التي ورثناها عن ثقافة الهامبرغر. تلك السرعة التي نمر بها كالبرق على عوالم لو تأملناها لعدنا أطفالا، نجري نحو الأفق البعيد والحلوى تتساقط من جيوبنا. هيا اركبوا دراجات الخيال الزرقاء لعبد الكريم وتجولوا بها بين كائنات يان العجيبة. من قال إن الجنة بعيدة عن أحلام الأطفال؟

يستمر المعرض حتى 20 يونيو (حزيران) المقبل.