الحارة كيان يحتضر.. والصمت مطبق

كيف صارت روايات نجيب محفوظ بهذه السرعة جزءا من تراث ينقرض؟

TT

الحارة تحتضر وهي في طريقها إلى الانقراض. قد لا يعني هذا الأمر القاهرة بشكل خاص، وإنما كل المدن العربية، التي تفقد جزءاً من عاداتها وبعضاً من نسيجها الاجتماعي مع اندثار نمط معماري عمّر قروناً طويلة، وأنجب نمطاً حياتياً خاصاً. البعض يتحدث عن الحارة كنموذج لتخطيط هندسي كان يعزز قدرة المدن على المقاومة وصد الاعتداءات الخارجية، ويرى في سقوطها، زوالاً لمنظومة علاقات وروابط، صنعت الهوية العربية، على مدار عقود. وثمة من يبشرنا بأن الحارة تغيب إنما روحها باقية فينا. لكن هذا لن يمنعنا من التفكير بأن غياب الحارة أو موتها، هو انتقال لنا إلى زمن آخر، وفكر مختلف، وهو ربما ما لم ندركه حتى اللحظة.

في عالم تتداخل فيه الأشياء، كانت الحارة أحد مسالك نجيب محفوظ إلى العالمية، لكن بعد سنوات ليست بالطويلة، جاءت تيارات العولمة لتغذي التغيرات الاجتماعية المحلية وتحول الحارة المصرية إلى كيان يحتضر. في الأحياء الشعبية أصبحت الحارة تعانى من الاغتراب بعد أن تغير البشر والمعالم من حولها، وفي الأحياء والمدن الجديدة لم يعد لهذا التكوين المعماري من وجود. فالتيارات الوافدة في العمارة وطبيعة العصر، أحالت الحارة إلى التقاعد! حتى السينما والأدب لم يعودا يجدان فيها عنصرا للجذب. ومع الوقت يبدو أن الحارة ستصبح موضوعاً تراثيا ينضم إلى مفردات تاريخية أخرى التهمها التاريخ.

تبدأ د. وفاء عامر، أستاذة التخطيط العمرانى ووكيلة كلية التخطيط العمرانى للدراسات العليا والبحوث، حديثها بالإشارة إلى خطأ يقع فيه غير المتخصصين، لأنهم يعتقدون أن الحارة هي الشارع الضيق، أما الصحيح فهو أنها جزء من المدينة يجمع بشرا تربط بينهم عناصر مشتركة، قد تكون عرقية أو طائفية أو حرفية، خاصة أن أماكن السكن كانت في أوقات كثيرة تعلو أماكن العمل.

وتضيف د.عامر: «في الماضي كانت حارات القاهرة العثمانية تغلق ليلا، يحكمها الفتوة ويتابع شيخ الحارة كل تفاصيل أهلها، وكانت جزءا من تراث الشعب المصري. لكن مع تضخم القاهرة واتضاح ملامح العولمة والحداثة، أصبحت المدينة كغيرها من المدن الكبرى، تتسم بدرجة عالية من التباين الحضري الذي اقترن بنوع من الاغتراب. هذا الاغتراب ـ الذي لم يسبق أن عانت منه الحارة على مدار تاريخها ـ رعم اختفاء الأسر الممتدة التي كانت تنتج نوعا من التقارب. كل هذه التحولات أدت إلى اندثار نوع من القيم والعادات والأخلاقيات التي كنا نسمع عنها في الكتب».

لكننا نسأل د. عامر عن إشارات تكشف نوعا من الحنين والتعطش للحارة. الأمر يبدو نفسيا لدى بعض الذين يتعاملون مع الحارة كمفردة تنتمى إلى زمن يبدو بفعل النوستاليجيا فاضلا في كل شيء. تعقب الباحثة قائلة: «ربما يكون هذا صحيحا، وأود أن أشير الى أنه يوجد نوع من التعطش الفعلي للحارة، يظهر من خلال الحكايات التي نتداولها عن هذا الكيان العمراني الذي بدأ في الانقراض، لكن هناك دلائل أخرى أوضح. ففي دراسة أجريتها على مدينة السادات (مدينة مصرية جديدة نسبيا)، اكتشفت أن البشر فيها بدأوا في استحضار السلوكيات الاجتماعية للحارة القديمة لمواجهة المجتمعات الجرداء التي انتقلوا اليها. هنا أصبح التواصل حلا بديلا للاغتراب، المكان ليس به حارات وفقا للمنظور العمراني، لكن الحارة تصبح حاضرة من وجهة النظر الاجتماعية». تصمت الباحثة، قليلا، ثم تضيف بحسم: «لا يمكن العودة لزمن الحارة العمرانية، غير أن نمطها الاجتماعي يبقى صالحا للحياة في كل وقت». لكن ألا يمكن أن يعود التخطيط العمراني لاستلهام نموذج الحارة عند التخطيط للمجتمعات العمرانية الجديدة، في إطار وجود اتجاه ظاهر يسعى لاستعادة الماضي وملامحه، أسال فتجيب الباحثة: «الحارة مثل كل شىء لا يمكن أن تستل من سياقها، لقد كانت موجودة ضمن سياق تاريخي واجتماعي محددين، لذلك أرى أن استعادتها بشكلها النمطي، مثلما كانت في الماضي هو أمر صعب، لكن إذا كنت سأستلهم روح التصميم وأنفذه بشكل يتلاءم مع العصر فهذا مطروح».

العلاقات ـ كغيرها فيما يتعلق بالنقاط الفاصلة بين الماضي والحاضر ومفرداتهما ـ تبدو متداخلة إلى درجة الاشتباك، اختلفت الظروف الاجتماعية، فتراجعت الحارة في أذهان أبنائها الذين بدأ كثيرون منهم في البحث عن فرصة للخروج «على وش الدنيا».

هو نفس الطموح الذى داعب خيال حميدة في «زقاق المدق» قبل عقود، نجح في التهام السنوات ليبقى هو حيا ينمو، في المقابل اختفت الحارة من على خارطة الأحياء الجديدة وتوارت معها أنماط سلوك اجتماعي سادت لسنوات طويلة، أيهما تغير أولا فأدى إلى تبدل الآخر؟ سؤال أطرحه على د. صالح لمعي، أستاذ العمارة والخبير لدى اليونسكو فيجيب: «العلاقة دائرية. عرض الحارة القديمة، مثلا، كان يتراوح بين مترين وأربعة أمتار. وكانت الحركة تمضي على القدمين أو باستخدام الحمير. هذا النمط كان يتيح الفرصة للسكان أن يجلسوا على أبواب البيوت ليحدث نوع من التواصل الاجتماعي. مع التطور بدأت السيارات تدخل الحارات، كما حدثت اختلافات ملحوظة على المنازل، خاصة في ظل عمليات هدم بعضها وإعادة بنائها، مما أدخل سمات معمارية جديدة. كل هذا بدأ يزيد من حدة التغيرات الاجتماعية التي بلغت ذروتها مع اختفاء الحارة، نهائيا، في التخطيط العمراني الجديد. إنه تغير عام على مستوى العلاقات الاجتماعية والرؤى المعمارية».

في كتابه «فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة العثمانية» الذي ترجمه زهير الشايب قبل سنوات، تحدث أندريه ريمون عن الحارة كوحدة عمرانية مهمة في نسيج المدينة، وغلب على حديثه التعريف الشعبي للحارة عندما قال: «كان تنظيم الأحياء الشعبية ـ ككل المدينة ـ يعتمد على التقسيم إلى حارات (وكانت منها حوالي 60 حارة في المدينة) مليئة بمنازل مختلفة الاتساع، ومغلقة عادة بأبواب كانت تغلق أثناء الليل، لها شبكة متدرجة من الشوارع تبدأ من الشريان الرئيسي لها، وهو الدرب ـ الذي يأخذ الحي اسمه منه عادة ـ الى العطفات (عطفة) والأزقة. وهذا التقسيم كان على ما يبدو بادي القوة والفعالية، خصوصا في الأحياء الشعبية. وفي هذه الحارات كان الناس، أصحاب الحرفة الواحدة، يميلون للتجمع معا، وكذلك اولئك الأفراد أصحاب الأصول الواحدة أو أبناء الدين الواحد». هذه التجمعات كانت تضمن ترابطا لفت انتباه السلطات.

فكما يذكر ريمون لجأت السلطات في بعض الأحيان إلى استخدام القوى الشعبية الناتجة عن هذا الترابط: «يقدم لنا تاريخ المدينة في القرنين السابع عشر والثامن عشر أمثلة عديدة على محاولة تحريك عساكر الأحياء هذه، كتلك الحملة التي أرسلها الباشا عام 1613 من أبناء حارة الفوالة ضد العسكر المتمردين». في هذا السياق، هناك من يرى أن بنية المدينة العربية بشوارعها وحاراتها وأزقتها وفرت مناخا يساعد على المقاومة.

في كتابه ملامح القاهرة في ألف سنة، يقول الروائي جمال الغيطاني: «هذه الطرق الفسيحة تتفرع منها خطط، جمع خط أي طريق طويلة تحيط بناحية متكاملة، وهذه الخطط تؤدي الى بوابات كل منها مدخل إلى حارة. والحارة داخلها مجموعة من الدروب، والدروب تتفرع الى ازقة، أو زنقات كما تعرف في المغرب، واحيانا تحتوي الزنقة على عطفة، وهكذا يتوالى تصميم المدينة العربية القديمة من الأفسح إلى الضيق فالأضيق (....) هذا التصميم لم يأت من فراغ، إنما هو نتاج حاجة اجتماعية، مناخية ومعمارية وعسكرية، ألم تؤد متاهات قصبة الجزائر إلى جعلها مقرا للمقاومة؟ صعب على الجند الأغراب اختراقها؟ نفس الوضع واجهه نابليون في القاهرة القديمة مما دفعه إلى محاولة إزالة أبواب الحارات».

الحاجة الوظيفية إذن كانت وراء اختراع الحارات كنمط ميز المدينة العربية، فهل اختفت الحاجة أم أن المدينة العربية ـ القاهرة نموذجا ـ تفقد هويتها تدريجيا؟ أسأل الدكتورة جليلة القاضي، مديرة الأبحاث في المعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية، فتؤكد أن التحول عالمي: «التخطيط العمراني الذي ظهر في نهايات القرن التاسع عشر بدأ بإعادة هيكلة المدن القديمة، وفتح شرايين واسعة للحركة واعتمد اساسا على القديم واحتفظ بسمات الشارع التي تدعم قيامه بأكثر من وظيفة بخلاف التنقل مثل النزهة واللقاء والتسوق والسكن. لكن جاء ميثاق اثينا ليغير كل ذلك بوضعه المبادئ الخمسة للتخطيط العمراني الحديث، فيما يخص الشارع تم إلغاء وظائفه المتعددة وأصبح لكل وظيفة مكان محدد لها، فللسكنى مكان وللعمل مكان آخر، والأمر نفسه انطبق على التسوق والتنزه واللقاء. وبدأت المدن الكبرى كلها تطبق مبادئ الميثاق. في مدينة نصر والمهندسين مثلا غاب الشارع بمفهومه التقليدي وكان طبيعيا في سياق كهذا أن تختفي الحارة نهائيا رغم أنها كانت موجودة في التصميمات التي ترجع إلى بدايات القرن العشرين. فعند تخطيط منطقة الظاهر مثلا كانت الحارة موجودة كعنصر عمراني مهم».

إذا كان للعولمة دور أساسي في القضاء على الحارة العربية، وإذا كان للحارة دور أساسي في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، فهل يمكن أن نجد في المستقبل من يفسر كل ذلك مستخدما نظرية المؤامرة؟ سؤال يبدو عبثيا. لكنه يحفظ للحارة قدرتها على إنتاج أساطيرها الخاصة، تلك الأساطير التي تناقلتها الذاكرة الجمعية عبر السنين وتداولتها من دون أن تنتبه لعدم منطقية بعضها، خير مثال تلك الحارة المعروفة باسم أم الغلام. القصة الشعبية تقول إن رأس الإمام الحسين طارت بعد قتله إلى القاهرة، وحطت فى حجر بائعة كانت تجلس في ذلك المكان، بطريقة ما عرف الحاكم فأرسل جنوده، ليحضروا رأس الإمام الشهيد، فما كان من الأم إلا أن ذبحت ابنها وأعطت الجنود رأسه بعد أن أخفت رأس الإمام، ونظرا لتضحيتها الباهظة تم تخليدها بإطلاق هذا الاسم على الحارة! كيف طارت الرأس من كربلاء إلى القاهرة؟ وكيف لم ينتبه الجنود إلى أن الرأس التي حصلوا عليها هى رأس لطفل وليست لرجل؟ سؤالان يصبحان يسيرين بجانب السؤال الأهم والمفارق وهو: كيف انتقلت الرأس إلى القاهرة التي لم تتأسس إلا بعد اغتيال الحسين بقرون؟!

الذاكرة الشعبية تمنح للحارات أساطيرها الضاربة في القدم من دون مراعاة للمنطق، وتمتزج الأساطير القديمة بأخرى أحدث تدور حول بعض الحارات التي تسكنها عفاريت، أو بقصص تؤرخ لحارات تجاوزت حدود المعقول كالباطنية التي ظلت لسنوات وكرا محكما لتجارة المخدرات. وينتهي الأمر بحكايات تصبح محورا لروايات، تنقل بعض الحارات إلى عتبات الشهرة، إنه الأدب الذي منح للحارة نكهة جديدة ومغايرة.

في فترة سابقة، كانت الحارة أكثر حضورا في الأدب والفن، لكنها توارت بعد ذلك وتركت وراءها سؤالا يطرح نفسه: هل فقدت الحارة سحرها وجاذبيتها؟ أسأل الروائي محمد جبريل الذي كان من بين من اهتموا بها في إبداعاتهم فيرد بقوله: «منذ أيام كنت في منطقة القلعة، أثناء عودتي مررت بسكة المناصرة وحاراتها، فاكتشفت أن المنطقة لا تزال بكرا لم يتناولها أحد من المبدعين». ماذا حدث، إذن؟ أسأل فيجيب: «المشكلة أننا نقليون حتى في إبداعاتنا. تناول نجيب محفوظ «الجمالية» في إبداعاته، فاتجه الجميع لنفس المنطقة للكتابة عنها. اننا نمشي وراء كل شيء بالمحاكاة»، ويستطرد محمد جبريل قائلا: «أنا أرى أن الحارة المصرية لا تزال بكرا مثل قارة أفريقيا التي لا تزال تحتفظ بأسرارها، رغم كل ما يقال عن أنها كشفت كل ما بها». ويؤيد جبريل ما قيل عن التغيرات التي حدثت بالحارة المصرية: «تغيرت الحارة وتبدلت منظومة العلاقات، لكن هذا التغيير يستدعي الكتابة لا الصمت، لا بد لنا ككتاب من أن نرصد ملامح هذا التغير وأسبابه. لم تعد الحارة ذلك المكان الذي يغلق عليه الباب مساء، وإنما تداخلت مع الشارع والزقاق، وحدثت هجرات وحراك اجتماعي لم أجد له وجودا في أعمال المبدعين، وأتمنى أن أراه مكتوبا».

أمنية محمد جبريل مشروعة بطبيعة الحال، لكنها تستدعى سؤالا: ولماذا لا تسعى لتحقيق أمنيتك من خلال ابداعاتك؟ يجيب: «منذ فترة انتبهت إلى أن الحارة أصبحت أكثر شحوبا في الإبداع، وربما كان هذا سببا مباشرا في أنها اصبحت عنصرا أساسيا في روايتي التي لم تنشر بعد وتحمل عنوان «موسوعة بحري»، فيها ملمح رئيسي، حاولت من خلاله أن أجسد بطولة المكان ليتمكن القارئ من أن يشم رائحة الحارة والزقاق لكي لا تظل الأماكن مجرد أسماء». هل يأتي علينا زمان تصبح الحارة فيه مجرد لفظة تعبر عن كيان منقرض يحتاج الحديث عنه إلى تفسير؟ سؤال لن يحسمه إلا المستقبل. وحتى ذلك الحين يصبح السعي لمعايشة ما تبقى منها متعة حقيقية لكل من ارتبط بمعالم زمن يلملم أشياءه ليمضي. وربما يأتي زمن، يشهد تقديم «أولاد حارتنا» باعتبارها عملا تراثيا، يحتاج عنوانه إلى شرح في هامش يوضح ما تعنيه كلمة: «الحارة»!!