يونانيو مصر في احتفالية تحت سفح الأهرامات وجهوا رسالة محبة إلى العالم

استعان بهم محمد علي في بناء نهضته الشاملة

TT

بعد مائة عام على تأسيس أول جمعية لهم في القاهرة، وبعد انفراط عقدهم إثر قرارات التأميم والمصادرة والترحيل في عهد عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، يتذكر اليونانيون تراثهم وثقافتهم التي نحتوها في نسيج المجتمع المصري، وشكلوا خلال تلك العقود أكبر جالية أجنبية في مصر، أحبها المصريون وعشقوها إلى حد التزاوج والمصاهرة.

احتفالية كبرى أقامتها، الشهر الماضي، تحت سفح الأهرامات، البقية الباقية من الجالية اليونانية في مصر، حاولت خلالها استعادة روح مجدها الغابر، عبر الموسيقى والغناء والشعر والحوارات الثقافية، وغيرها من الأنشطة على مدى ثلاثة أيام. ولم تخل جعبة الاحتفالية من قصص ونوادر وحكايات رواها اليونانيون أنفسهم عن ذلك الزمن الجميل.

يتذكر خريستو كافاليس، رئيس الجالية اليونانية في القاهرة ذلك الزمن فيقول: مصر بلد الغموض والسحر بالنسبة لليونانيين، قدمنا إليها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1853 هرباً من الاحتلال العثماني وقسوة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حيث استمر الاحتلال قرابة أربعة قرون وتحديداً من 1483 ـ 1821. هرب اليونانيون إلى مصر، بلد السحر والجمال، وتصادف وجودهم مع حكم محمد علي الذي كان يريد بناء نهضة شاملة مستعيناً بجاليات ليس وراءها مستعمرات كبيرة. ويستطرد كافاليس: منذ ذلك التاريخ بدأت نهضة مصرية على أيدي اليونانيين في جميع القطاعات، من زراعة القطن والكروم واستصلاح الأراضي، إلى صناعة وتجارة الدخان والشيكولاتة، والمشروبات الغازية، والورق. ويشير كافاليس إلى أن اليونانيين أول من بنوا وبدأوا هذه الصناعات السابق ذكرها في مصر، وامتد هذا الدور إلى السياحة وبناء الفنادق والقطاعات المصرفية، فساهموا في البنك الأهلي المصري، بل أنشأ اليوناني «تيكيوزيس» البنك التجاري المصري، المعروف الآن باسم «بنك بيريوس مصر»، ولا ننسى الثقافة والفنون. فهناك ـ على حد قول كافاليس ـ الصحافة اليونانية والمطابع والفنون التصويرية. وبلغت هذه النهضة أوجها في ثلاثينيات القرن العشرين حتى أوائل الستينيات، المعروف بـ«العصر الذهبي لليونانيين» في القاهرة.

ومعلوم أن الجالية اليونانية في مصر، كانت تعد أكبر جالية يونانية في العالم حيث تجاوز عددهم 300 ألف يوناني، أغلبهم من الحرفيين والتجار والصناع، وكان بينهم أيضاً أثرياء وملوك مثل الملك «جورج الثاني» الذي مكث في مصر من عام 1941 ولغاية 1944. وبنبرة شجن يقول كافاليس، متكلماً باللغة العربية التي يعشقها: «بعد مناخ عدم الاستقرار التي خلفته الحرب العالمية الثانية ومع قرارات التأميم التي أصدرها النظام المصري في الستينيات من القرن الماضي، تبدلت أحوال الجالية وتفرق عقدها. عددنا الآن خمسة آلاف يوناني فقط، نحتفل بمئوية جمعيتنا التي أنشئت بموجب قانون مصري عام 1904 لنوجه رسالة للعالم كله. فاحتفاليتنا ليست فانتازيا، لقد تزاوجنا وتصاهرنا في الأنساب وفي اللغة، كذلك في العادات والتقاليد في الأفراح والأتراح، ونتمنى أن نتواصل مع هذا الزمن الجميل.

لا تتوقف بذور النهضة التي وضعها يونانيو مصر على مجالات الزراعة والصناعة والتجارة بل شملت الجوانب الفنية، هكذا تلتقط الخيط هيلين بافلوجروسمان، عضو الهيئة الفنية للفنانين اليونانيين المهاجرين عبر الحدود، وصاحبة الكتاب المهم «المصريون واليونانيون التصويريون منذ 1880 حتى الآن». تقول هيلين: إن أول معرض فني مصري أقيم عام 1891 بإشراف اليوناني كوس راليس، واستمرت مساهمات اليونانيين وبصماتهم الإبداعية على جدران الكنائس. فرسم اليوناني «كونستانا ندينوس بارثيينس» المولود بالإسكندرية لوحة لـ«الرب» و«الطبلة المخبولة» للقديس جورج، كما رسم أيقونات كنيسة مارجرجس في مصر القديمة. كذلك صمم «بونانوس جورج» أيقونات للقديس أفيروف في ساحة الجمعية اليونانية في الإسكندرية. وترك الفنان نيكوس نكياليريس أعمالا نفيسة موجودة في كنائس البطريركية اليونانية وكنيسة القديسة كاترينا في سيناء، وتعتبر هذه الأعمال مصدراً معرفياً مهماً لدراسة تاريخ العقيدة الارثوذكسية والتاريخ الحديث للفن الكنسي والحضارة البيزنطية.

ويشير سكرتير عام رابطة المصريين اليونانيين، «نيكوس نيكيتا ريديس» إلى أن أول كتاب باليونانية كان كتاب «بيتروس الأول» ملك قبرص وأورشليم، وقد طبع في مصر، وهو عمل درامي لرجل الدين «كونستاتيديس». وكان هذا انطلاقة لطبع خمسمائة كتاب يوناني في مصر في الفترة ما بين عامي 1873 – 1899 وضمت كتابات أدبية ومسرحية.

ويضيف نيكوس نيكيتا ريديس، بعد ذلك بدأت مرحلة أخرى بإنشاء «مطبعة ميخاليديس» عام 1900 والتي توقفت عام 1966 بعد طبعها العديد من الكتب، كان أبرزها كتاب عن علم الكهرباء والمعالجة الكهربائية لطبيب العيون «سوتيريس داموجلوس». وهو أول من أدخل إلى مصر علاج العيون بالكهرباء والأمراض النفسية بالتنويم المغناطيسي. ولا ننسى شاعر اليونان الأشهر «قسطنطين كفافيس» الذي عاش في الإسكندرية وتوفي بها وعشقها إلى حد الجنون، وحالياً هناك جائزة سنوية باسمه يحصل عليها شعراء مصريون ويونانيون.

ويتصل بالبعد الثقافي، بعد آخر، لا يقل أهمية في مسيرة يونانيي مصر، وهو الصحافة، وعنه يحكي صوفيا توس خريستو ستوميدس، أستاذ علم الاتصالات في جامعة أثينا، فيقول: إن أول جريدة يونانية في القاهرة صدرت في عام 1873 لصاحبها «دنجالي تيموقوس» وكانت تعنى بأخبار الأقباط والمحاكم المصرية.

كذلك جريدة «فوس» التي صدرت لسنوات طويلة، ثم جريدة «اليوناني المصري» وهي الوحيدة التي كانت تصدر باللغتين العربية واليونانية، وكانت واسعة الانتشار لما بها من مواد ثقافية واجتماعية شيقة، وكذلك جريدة «النور» وهي آخر جريدة يومية باللغة اليونانية تصدر بالقاهرة، أغلقت مؤقتاً بعد وفاة عبد الناصر، وبإغلاقها طويت آخر صفحة في تاريخ الطباعة اليونانية في القاهرة.

وبرغم هذا لا يزال عبق اليونانيين فواحاً في الكثير من مناخات الحياة المصرية، ولا يزال إيقاعهم المعماري يحتفظ بخصوصيته، برغم تنوع الأنماط المعمارية القديمة في مصر. تطالعك هذه الخصوصية في الكثير من الفنادق والمدارس والمستشفيات والمطاعم في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، كما لا تزال النوادي اليونانية وعددها ستة نوادٍ في القاهرة والإسكندرية، هي الأكثر جذباً للكتاب والمثقفين والفنانين.