برنار هنري ليفي متهم بالدجل ويستعد لصد هجومين: أميركي وفرنسي

الفيلسوف الفرنسي المهووس بالأضواء وبريق النجومية

TT

برنار هنري ليفي من نوع الكُتّاب الذين لا يمكن لهم أن يعيشوا خارج الأضواء. فإذا كنا نعرف مقت الفلاسفة الفرنسيين الكبار، الشديد للظهور، فإن ليفي يسعى إليه ويبدو أنه يتقن استخدامه، بل ويرتكز على شبكة واسعة من العلاقات والمصالح. فهو مدعوم من ماكينة إعلامية كبيرة اعتمد عليها في أميركا، انطلاقا من الدوائر اليهودية والصهيونية بالإضافة إلى الدور الدعائي الكبير الذي قام به سلمان رشدي لصالحه ردّا لجميله المتمثل في دعوته إلى فرنسا، بعد كتابه «آيات شيطانية» وفتوى الخميني ضده.

هكذا وبعد غياب مفكرين وفلاسفة فرنسيين كبار، من طراز دولوز وديريدا وبورديو، خلا الجوّ لما يسمى بـ «الفلاسفة الجدد»، الذين خرجوا من معطف الراحل سارتر ومن كواليس مجلته «الأزمنة الحديثة»، ومن بينهم برنار هنري ليفيBernard-Henri Lévy الذي يشغل الوسط الفكري والصحافي هذه الأيام. والحقيقة التي يجب أن نذكرها في البدء، تتلخص في أن هنري ليفي يثير الجدل حوله لأسباب كثيرة لا علاقة لها بالكتابة، من بينها زواجه بالممثلة الجميلة ماريال دومبال، وعشقه للميديا وارتداؤه للقميص الأبيض المفتوح، بالإضافة إلى ضرباته الإعلامية، وخصوصا في حرب البوسنة، بسبب ارتباطه بعلاقة مع الرئيس البوسني الراحل علي عزة بيغوفيتش، وما تلى ذلك من إنشائه لائحة انتخابية فرنسية في خضم الانتخابات الأوروبية سماها لائحة البوسنة، مُنيت بفشل ذريع أفقدت اليسار الاشتراكي ورئيس الوزراء الفرنسي، حينها، ميشال روكار، مَقَاعد مهمة في البرلمان الأوروبي.

ربما علاقاته السابقة مع سارتر، جعلته يدافع عن نوع ما من «التزام المثقف». لهذا كتب عن بنغلاديش ودافع عن الشيشان ومسلمي البوسنة وعن موقف الجيش الجزائري ضد الإسلاميين الجزائريين في الحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر خلال عشر سنوات، وغيرها من القضايا الأخرى. إنه باختصار يدافع عن كل القضايا باستثناء القضية الفلسطينية وما يعانيه الفلسطينيون من بطش الدولة الصهيونية.

هذه الأيام يعود ليفي إلى الواجهة والأضواء بعد ظهور كتابه American Vertigo صدر في البداية باللغة الانجليزية وبعدها بالفرنسية (يَسيرُ فيه أو يحاول السير!) على خُطى الفيلسوف والقانوني الفرنسي الشهير أليكسي توكفيل في مؤلفه «الديمقراطية في أمريكا». والغرض منه، كما يقول المؤلف نفسه، هو «إثارة الجدل ومناقشة العلاقات الفرنسية الأميركية الملتبسة والمعقدة، خصوصا بعد تعارضهما الواضح من مسألة الحرب الأميركية على العراق، وقضايا أخرى». وقد تَصَادَفَ صدور الكتاب مع صدور كِتاب آخَر لـ «نيكولا بو» و«أوليفيي توسير»، عنوانه «دجل فرنسي» une imposture française، يُشرِّحَ فيه الكاتبان شخصية برنار هنري ليفي. يستفيد ليفي، من بين قلائل ومحظوظين فقط، من نظام التواطؤات في الوسط العام: الأدبي والمناضل والمالي والإعلامي والإنساني والاستعراضي. وتستعد العديد من الصحف والمجلات الفرنسية للاحتفال بكتابه عن أميركا، ووضعه على أغلفتها الخارجية باعتباره الحدَثَ المركزي للربيع الثقافي، خصوصا مجلة «لوبوان» (التي يشتغل فيها ليفي). وقد استبقت كبريات الصحف الفرنسية، بما فيها «لوموند» و«ليبراسيون»، ووسائل الإعلام البصرية والمسموعة الحدث، وتحدثت عنه بإطناب وكأنه من الروائع.

الكِتَاب النَّشَازُ إذن، «دَجل فرنسي»، سيكون، الوحيد، ربما، الذي يغني خارج السرب. بطبيعة الحال ستشتغل الماكينة الإعلامية التي يتقنها ليفي وشبكاته وخلاياه، للترويج للرجل على أنه الجدير بإرث المفكرين والفلاسفة الفرنسيين الذين ساهموا في تسويق الفكر الفرنسي الأصيل، ومن بينهم ديريدا وفوكو ودولوز وميشيل سير وريكور.

علماً بأن «دجل فرنسي» يضج بتحقيقات قوية تكشف للقارئ خطورة الرجل وأهميته، وتكشف أيضا قوة وطاقة المُؤلِّفَيْن على البحث والتقصي والاستقراء. يتحدث الكتابُ عن ثروة ليفي الشخصية التي ورثها عن «بيكوب»، وهي شركة تجارة الخشب التي أسسها والدُهُ وحققت أرباحها من جراء ظروف العمل الرهيبة التي فُرِضَت على العمال الأفارقة الذين كانوا يستخرجون هذه المادة الثمينة. ويذهب المؤلِّفَان إلى أنّ ليفي يُكرس أوقاتا طويلة في إدارة هذه الأعمال إلى درجة أن القاضي الفرنسي الشهير «كوروا» استجوبه في إطار تحقيق عن إمكانية ارتكابه جُنحة، أثناء اندماج شركتي كارفور وبروميديس. كما يكشفُ الكتاب عن استفادة مالية كبيرة لبرنار هنري ليفي أثناء عمله مع مجلة «كْلوب»، وهي أموالٌ تم امتصاصها بصفة مباشرة من بنك «كريدي ليوني» الذي أوشك على الإفلاس. لا يتوقف الكتاب/ التحقيق عن تتبع ورصد برنار هنري ليفي. إذ يرى المؤلّفان أن «ليفي يكتب الشيءَ ونقيضَهُ حول كل شيء، تقريباً». كما أنه «أدى خدمة للعسكر الجزائريين في مسلسل القمع الدمويّ أثناء الحرب القذرة في جزائر التسعينات».

يستفيض الكاتبان في الحديث عن كتاب ليفي «من قَتَل دانييل بيرل» (وهو كتاب أراده المؤلف ما يشبه رواية ـ تحقيقا عن اغتيال الصحافي الأميركي في باكستان سنة 2002). وقد سبق لمجلة «لوموند الدبلوماسية» الرصينة أن فككت وفندت كتاب ليفي، مبرزة تناقضات ومغالطات وأكاذيب تاريخية وجغرافية ارتكبها المُؤلف. في الكتاب الجديد تذهب أرملة الصحافي الأميركي إلى حدّ القول: «من الشرعي جدا التهجم على طُرُق ومنهجيات برنار هنري ليفي. لقد قررتُ ألا أتحدث عن تجربتي مع الحيوان(أي ليفي) لأسباب تتعلق بكرامتي الشخصية وأيضا لأن الأمر يتعلق بزوجي. إن ليفي شخص لا يهمني على الإطلاق. إنه رجلٌ يُدمِّرُ تضَخُّمُ أناه ذكاءَهُ». لقد ضخّم ليفي مسألة مقتل الصحافي رابطا بينها وبين تحقيق الصحافي الأميركي، حول رغبة القاعدة في امتلاك السلاح النووي. ولكن رغم احتجاج الأرملة وأخيها احتفلت الصحافة الفرنسية، كعادتها، بالكتاب، من دون إعارة انتباه للمعنيين.

ينتقل الكاتبان إلى ميدان آخر، هو ميدان التزام المثقف. فيكشفان تورط هنري ليفي في الاشتغال مع وكالة الاستخبارات الأميركية، مع شلة من بينهم أندريه كلوغسمان وفيليب سوليرز وبيير ديكس وغيرهم، أثناء فترة دعوته إلى صمود دولي. يرى الكاتبان أن هذه الدعوة ترافقت، في انسجام، مع اهتمامات وكالة الاستخبارات الأميركية آنذاك والمتعلقة بدعم «الكونتراس». وهم أنصار دكتاتور نيكاراغوا السابق «سوموزا» من اليمين المتطرف ضد الساندينيين. في هذه الفترة تنشر جريدة «لوموند» نداء مدفوعَ الثمن لدعم «الكونتراس». وهو ما يقترب من التماس مُوَجَّه إلى الكونغرس الأميركي ليواصل دعمه المالي لهذه العصابات.

من بين الموقعين على البيان نجد ليفي، ولكن سوليرز وكلوغسمان، المتعوِّدَيْن على توقيع مثل هذه النداءات، لن يضيفا اسميهما هذه المرة، في هذه القضية المثيرة للشبهات.

ينتقل الكتاب إلى الحديث عن ليفي كـ «رجل سلطة» وتدخله في تحرير حواراته الصحافية. ومن بين ما يوردانه حوار أجرته معه مجلة Elle التي يمتلكها رجل الأعمال الفرنسي «جون ليك لاكاردير»، وهو صديق للكاتب. فقد أتاحت له المجلة حق إعادة كتابة الأسئلة والأجوبة. و«لأنّ الحوار الأصلي كشف الغيابَ التامّ لسخرية الكاتب من نفسه، فقد ألحَّ، في إعادة كتابة أجوبته، على ترصيع نصّه بإشارات إلى حالات ضحك وسخرية كلها من بنات أفكاره».

كما أن الكاتبين يشيران إلى علاقاته مع صحافي فرنسي كبير هو «فرانسوا كاهن»، مدير مجلة «ماريان» الأسبوعية، كان يتبجّحُ في السابق بحريته القصوى في النقد والمساءلة، حيث يُوردان أن الصحافي غيّر بشكل مفاجئ موقفه من ليفي. ولكنّ العجب سيبطل ما أن نعرف السبب. إذ سيكتشف الصحافيان أنّ برنار هنري ليفي دعا مدير مجلة «ماريان» إلى مراكش لقضاء فترة أعياد نهاية السنة، بصحية ضُيوف مرموقين من بينهم الوزير الفرنسي السابق «دومينيك شتروس كاهن» وزوجته النجمة الصحافية «آن سانكلير». ونعرف لاحقا بأن المفكر ليفي تدخل لدى رجل أعمال فرنسي هو فرانسوا بينو كي يضخ أموالا كثيرة للمجلة التي كانت تعاني من ضائقة مالية كادت تذهب بها. «في سَكَن الكاتب الواقع في بولفار سان جيرمان (الحي اللاتيني) سيتعرف مدير مجلة ماريان على الملياردير الفرنسي فرانسوا بينو أثناء مأدبة عشاء».

أما فيما يخصّ كِتاب برنار هنري ليفي، السابق الذكر، فهو يتعرض، حالياً، لانتقادات وقراءات سلبية لا تُهادن. فعلى الرغم من رغبة ليفي في تقديم نفسه على أنه النّاطق الرسمي للمُعادين لِمُعادي أمريكا، فقد رأت كثير من المقالات الأميركية أن كتابه «غير مفيد»، ومليءٌ بالأخطاء والكليشيهات، ومن بين الانتقادات الأكثر قسوة ما أورده الكاتب غاريسون كيلور في مجلة «نيويورك تايمز بوك ريفيو»: «تكتشفون في الكتاب شارون ستون وجون كيري وسيدة كانت تزن 220 كيلوغراما وزنجيّ سمين يتجول ببندقيتين، ولكنكم لن تتعرفوا على أي أحد (...) لقد قضيتم كل حياتكم في أمريكا ولم تحضُروا قُدّاسا واحدا في كنيسة... ستعرفون في المحصلة النهائية بأن الكتاب يتحدث عن فرنسا». يلح ليفي، في أكثر من مكان من الكتاب على التشديد على أن أميركا ليست على شفا الانهيار، يأتي الردّ من الأميركي غاريسون كيلور: «شكرا، صديقي، أنا أيضا لا أتصور أن فرنسا على شفا الانهيار في الأيام المقبلة. شكرا على قدومك، واحذر كي لا تصد الباب في وجهك أثناء رحيلك. في كتابك المقبل تحدثْ لنا عن الاضطرابات في فرنسا، وعن السيارات التي تحترق في الضواحي».