الشرق الاوسط تكشف عن حبيبة نقولا زيادة المجهولة وأخريات من المعجبات

رسائل غير عادية من الأديب عيسى عطا الله إلى صديقه المؤرخ الكبير

TT

عاش الأديب الفلسطيني عيسى عطا الله، الذي رحل عن عالمنا قبل ثلات سنوات، أيامه الأخيرة وحيدا في شقته في مدينة «بيت ساحور»، جنوب القدس، يعاني من الشيخوخة وسط كتبه. وحين رحل ترك وراءه مخطوطات وملفات تستحق أن تفتح وتنشر، لأنها تكشف عن صفحات ما تزال خبيئة من تاريخ فلسطين. وهنا نركز بشكل خاص على الرسائل الشيقة التي كتبها لصديقه المؤرخ المعروف نقولا زيادة.

الأديب عيسى عطا الله، هو الذي وضع ولسنوات طويلة مناهج اللغة العربية في المدارس الأردنية والفلسطينية، وبرز كتنويري وحداثي، صاحب مشروع بهذا الشأن حمله في ظروف غير مواتية أبدا. وفي سنواته الأخيرة وضع عطا الله موسوعة للأمثال الشعبية جمعها طوال سنوات تنقله في المدن والبلدات الفلسطينية والأردنية منذ عام 1925، وصدرت الموسوعة في جزءين، مضمنا كل مثل إشارة إلى المناسبة التي قيل فيها.

ولم يكن عطا الله، في سنواته الأخيرة، بكامل لياقته الجسدية، إلا أن ذهنه كان متوقدا، رغم النكران الذي عاناه من الحركة الأدبية الفلسطينية، حتى انه لم يكن يحسب في عداد الأدباء، لأسباب لا يمكن تفسيرها.

ترك عطا الله كثيرا من المخطوطات التي دونها بعناية ودأب، مثل مواد أدبية كان قد أعدها للإذاعة الفلسطينية قبل أكثر من خمسين عاما، وترجمات لأعمال عالمية، مثل مشروعه لترجمة «اعترافات» روسو، بعكس الترجمات المتداولة عربيا وتخاطب الغرائز الجنسية. وبالإضافة إلى ذلك ترك عطا الله، مكتبة نفيسة. وثمة كتب مهداة إليه من أصحابها، ويعلو أحد رفوفها تمثالان أهديا لعطا الله من أحد النحاتين: واحد يمثل ابن خلدون الأثير على قلبه، والآخر لأبي العلاء المعري، صاحب التأثير الأول عليه، والذي ذهب خصيصا لقرية المعرة في سوريا، ليزور قبره.

ومن بين المخطوطات التي تركها عطا الله واستطعنا الحصول عليها، مجموعة من الرسائل التي كتبها لرموز فكرية عاصرها وارتبط معها بصداقة، ومنها المؤرخ نقولا زيادة، الذي اصدر مذكراته بجزءين، أهدى نسخة منهما لعطا الله.

وإذا كانت مذكرات زيادة منشورة ومتاحة للقراء، والرجل ما يزال حياً يرزق، فإن مخطوطات رسائل عطا الله لزيادة تضمنتها دفاتر قديمة تحمل عبارة «حكومة فلسطين: إدارة المعارف العمومية» لم تنشر، ولا يعتقد انه سيقدر لها النشر، وتسلط «الشرق الأوسط» عليها الضوء، هنا لكونها تكشف عن صفحات من تاريخ الثقافة الفلسطينية المجهولة.

ورسائل عطا الله المرسلة إلى نقولا زيادة، وغيره، ليست عادية بالقطع، ولكنها تناقش مواضيع أدبية وفلسفية وتحتاج لدراسة تعطي لعيسى عطا الله مكانته المرموقة بين المفكرين العرب، وهي مكانة يستحقها بلا جدال. في رسالة مؤرخة يوم 22/11/ 1931، يتحدث عطا الله عن المتنبي ونفسيته، وتعتبر الرسالة دراسة مهمة، يتطرق فيها إلى معتقد المتنبي، ويستخلص آراء قد لا يروق نشرها للمؤسسة الرسمية. ويعتبر عطا الله أن أبرز شيء في شخصية المتنبي هو كبرياؤه وتعاظمه واستصغاره شأن الدنيا واحتقارها، مما كان سببا في إكثاره من استعمال ياء التصغير في شعره. فهو يعتقد أن المتنبي كان مصاباً بـ«جنون الأنانية»، لذلك جاءت الأنا لازمة في حديثه.

وخلال 8 صفحات من رسالته، يصل عطا الله إلى نتائج مهمة عن المتنبي، ويشير إلى تأثر أبي العلاء المعري به، ولكنه يراه تأثرا محدودا. وفي كل هذا يقدم استشهادات، ويناقش آراء المستشرق تشفوفسكي في أبي الطيب.

وبتاريخ 31/12/ 1931 يرسل عطا الله رسالة لزيادة، يصفها بالإخبارية، وفيها تفصيل بطريقة معرفة عمر القمر. وفي نفس اليوم يكتب رسالة أخرى لزيادة يذكر فيها وصف النوم في مسرحية شكسبير (مكبث)، ويخبره أنه دخل حجرة الصف الأول في المدرسة التي يعمل بها، ووجد أحد زملائه، وقد كتب على اللوح أن النبي إبراهيم عاش 175 سنة وأن سارة عاشت 127 عاما. وحين سأله عطا الله إذا كان يعتقد بصحة ذلك، أجاب إجابة تقليدية، فقال له عطا الله «قد تكون تلك السنوات شهورا أو محسوبة بأي طريقة أخرى». وما قاله عطا الله، يكشف عما عرف فيما بعد بالمنهج النقدي في رؤية التراث.

ويقدم عطا الله، لزيادة، استعراضا موجزا لكتاب صدر بالإنجليزية، يمكن أن يذكر، بالضجة المثارة الآن حول رواية «شيفرة دافنشي»، ويخاطبه قائلا له عن الكتاب بأنه «جدير بالقراءة، ولعلك لا تبخل عليه ببضع ساعات تتفرغ لقراءته فيها، واعتقد انك لن تندم».

وفي رسالة مؤرخة 2/2/1932، ينتقد عطا الله الصحافي «إميل زيدان وأحزابه» الذين يمسحون عقول الناس ويثقلون قلوبهم، في نقد للثقافة التي كانت تشيعها بعض الصحف آنذاك. وتضم رسائل أخرى استعراضا لكتب جديدة، آنذاك، مثل كتاب إبراهيم المازني «إبراهيم الكاتب»، ويقدم عطا الله قراءات نقدية في هذه الكتب لصديقه زيادة، وتسجيلا لحوارات مع رجال دين وأدباء، وحكايات عن علاقات شخصية. ويقول عن رواية «إبراهيم الكاتب» مخاطبا زيادة «شرعت في قرأتها، وأنا احمل عنها فكرة اتضح لي خطأها فيما بعد، وهي أنها رواية فسق وفجور. ولكن لا اكتمك، أنني ما كدت أقرأ الفصل الأول منها، حتى أغريت بقراءة الثاني، وهكذا حتى قرأتها في جلستين، كانت فترة الراحة بينهما نصف ساعة فقط». ويضيف بالقول «لست أشك في أن إبراهيم الكاتب، هو إبراهيم المازني، وإن كان ينكر ذلك ويتنصل منه في مقدمته، فتاريخ حياته اقرب شيء إليها وشخصيته تتبدى جلية واضحة. والخلاصة اعتقد أن هذه الرواية، هي خير رواية أصدرتها المطابع العربية في السنوات الأخيرة».

ويقدم عطا الله إشارات في رسائله لكتب أجنبية قرأها ناقدة للمحرمات داعيا لدراستها قائلا لصديقه زيادة عن هذه الكتب، «لعلها تجلو صدأ عقولهم وتحرث قفار أدمغتهم الجامدة، فتجعلها صالحة للتفكير الحر الصحيح، وتبعدهم عن هذا الضرب من الجنون الذي يمارسونه ويخافون منه».

ويواصل عطا الله نقده الحاد للموروثات الفكرية وغيرها، ويكشف في تلك المرحلة المبكرة، عن تفاصيل بعض العادات الصعبة لدى جماعات معينة، من المثير حقا، انه عندما تطرق إلى بعضها دان براون، مؤلف «شيفرة دافنشي» بعد اكثر من سبعين عاما عدت كشفا جديدا.

وتتضمن الرسائل كثيرا من الأمور الشخصية عن نقولا زيادة، فيكتب مثلا في رسالة مؤرخة يوم 23/1/1932، يشير فيها إلى زيارة لمنزل زيادة قائلا «لا بد لي من أن أعلن إليك غبطتي بهذا الضرب من الحياة السعيدة المطمئنة الذي تحياه مع أمك الحكيمة ـ وأنا أعني كل ما في كلمة حكيمة من معنى ـ وأخواتك الكريمات. وأنا أتمنى أن يدوم لك هذا الفيض من الحنوّ والراحة الذي بت تستمتع به، وأنت فائز بذلك، بل بأضعاف ذلك، إذا ما أصخت إلى هذا الصوت الحكيم الصادق الذي يصدر عن والدتك. هذا الصوت الذي يدعوك إلى نبذ تلك السخافات والخرافات المتوارثة التي قصفت بهم البشر وجعلتهم يهيمون في ليل من الجهل بهم، بأيد مكبلة وعقول مضغوطة تثقلهم ولا تفيدهم».

ولا تخلو الرسائل من لفتات جميلة، يمكن أن تثير نقاشا لغويا. ففي رسالة مؤرخة بيوم 25/1/1932 يتحدث عطا الله عن زيارة إلى صديقه نقولا زيادة قائلا «الحق لقد كانت الأيام التي قضيناها عندكم ماتعة، رائعة بكل ما في كلمة الإمتاع من معنى، وان تلك الروحات والجيئات ـ وبهذه المناسبة ألا ترى معي أن اللغة العربية تفتقر إلى كلمة تؤدي معنى walk الإنكليزية ـ أقول إن تلك الروحات والجيئات بما تخللها من أحاديث ومشاعر وما تقلب فيها وعليها من رؤى ومناظر.. » ويكمل فقرة طويلة.

ويكتب عطا الله لصديقه الحميم زيادة عن امرأة تاهت حبا به من خلال كتاباته، وآخرها كتاب صدر حديثا آنذاك لنقولا زيادة «زارتنا أمس الأول أو. م.غ، ولا أخالك في حاجة إلى أن أخبرك أن نحو تسعة أعشار الحديث كانت تدور حولك، بل لقد تحدثت معنا طويلا. فقد قرأت كتابك (على بساط الريح)». ويشير عطا الله إلى ما خطته تلك المرأة، على الكتاب من عبارات إنجليزية وألمانية وعربية يحللها ويصل إلى نتائج يخبرها لصديقه زيادة «لاحظت شيئا وراء ذلك، لاحظت أن عدد الكلمات يتفق مع مجموع حروف اسمك».

ويكتب عطا الله عن اثنتين تحبان زيادة «كل منهما تحسبك لها، وتنتظر أن تفوز بك وحدها»، ويذكر تفاصيل أخرى طريفة.

وفي رسالة أخرى مؤرخة يوم 15/2/1932 يشير عطا الله إلى اسم امرأة ربطتها علاقة بزيادة الذي أرسل لها رسالة تحتفظ بها ويعود للحديث عن السيدتين المتابعتين لمؤلفات زيادة، ويتضح انه كتب لهما ردا عن ملاحظات حول أحد كتبه. فيكتب عطا الله لزيادة «.. وأنا الآن، بعد قراءة كتابك، أستطيع أن اشكرهما، إذ استطاعتا استفزازك لكتابة هذا الرد، فهو في الحق قيم. وكم وددت لو أن الأصل نشر في مجلة شهرية».

ويضيف: «وقد كنت تحدثت إليهما قبل ذلك في الكثير مما جاء فيه ولكن (....) تقول إنها تجد الراحة في أن تمضي في السبيل التي سلكها أبوها وجدها وتسلم لهذا الذي يسلم له الملايين من.. المجانين!».

ان ما تركه عطا الله يحتاج إلى تحقيق ونشر، فقد ذهب إلى الموت مرتاحا مطمئنا، وقبل وفاته قال لكاتب هذا السطور إنه شبع من الحياة ولا يخاف من الموت، واضاف «أشعر بأنني كبرت، وبأنه سيطويني الثرى، ولن أكون زعلانا على حياتي، التي كانت ألما ووجعا ولم أعمل شيئا سيئا سأحاسب عليه».

واستعد عطا الله لوفاته بقصيدة رثا فيها نفسه، ونقش أبياتا منها على شاهد وضع على قبره:

عشت طولا وعرضا وعمقا

وشهدت الحياة قربا وبعدا

في يقيني سر السعادة دوما

أن تكون الحياة قربا وودا

فليسامحني من أسأت إليه

لم تكن الإساءة نحوه عمدا

وليسامح عطا الله، أيضاً، الذين أهملوا مخطوطاته.