إذا كان السكوت من ذهب فالإيماء هو الماس بذاته

المسرح الصامت يعود إلى الواجهة للتقريب بين الشعوب

TT

«الفن هو خندق الشعوب الأخير. خندق الدفاع عن مُثل الحرية والسلام والديمقراطية والتعددية، فلندافع عن هذا الخندق، والفن الإيمائي الصامت يستطيع أن يلخص الكثير من المشاعر والهموم الانسانية. وما دمنا نصون الثقافة ونحمي الإبداع، فهذا دليل حيّ على أننا شعب حيّ»، بهذه الكلمات خاطب الشاعر سميح القاسم الحضور الغفير في افتتاح «المهرجان الدولي الثاني للتمثيل الصامت» في مدينة شفاعمرو.

وقد كان للفنان الراحل زيدان سلامة، فضل إقامة المسرح الإيمائي، في الوسط العربي في إسرائيل، مع شقيقه المدير الحالي للمسرح الفنان سعيد سلامة.

عشرات المتطوعين وصلوا الليل بالنهار، كي يبلغ المهرجان بر الأمان، مع غياب التمويل والدعم، والنتائج جاءت مشجعة. «فهذا المهرجان لم يسمح فقط للجمهور المحلي، باكتشاف جديد لم يألفه من قبل، وإنما أيضاً أخرج بعض الفرق المحلية من الهامش، وأوصلها للمشاركة بمهرجانات عالمية. وبالتالي عرّف العالم على قدراتنا الابداعية، وفي الوقت ذاته أعطى دفعة لمسرحنا». كما يقول سعيد سلامة، في حديثه لـ«الشرق الأوسط».

افتتح المهرجان باستعراض في شوارع شفاعمرو، تضمن عروضا بهلوانية وألعابا جميلة على مدار ثلاث أمسيات، وبحضور جمهور متعطش الى الفن، بحيث عرضت 45 لوحة ايمائية، شارك فيها 52 فناناً، من تسع دول أجنبية وتسع فرق محلية.«اذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب»، هذه المقولة صحيحة، الا ان التمثيل الصامت هو الماس بذاته. فقد جاء ليلغي كل اللغات والحواجز ويكرس التعبير بلغة واحدة ووحيدة سهلة الفهم هي: الايماء. عالم واسع وفضفاض نهل منه بغزارة أولئك الذين حضروا الأمسيات، لكن عاطفياً تبقى أكثر اللوحات تأثيرا على الجمهور هي لوحة «بائعة الكبريت» عن قصة الدنماركي اندرسون، ليس لأنها حكاية جميلة فحسب، بل لأن الممثلات الثلاث اللاتي أبدعن في الأداء هن من «فرقة الصمت» التابعة لـ«مركز الصم والبكم» في قرية كفر قاسم. فالصمت عندهن هو عاهة ربانية، تحولت الى لغة فنية مذهلة في ابداعها. فقد اتقن الأدوار واجترحن عواصف التصفيق عندما فهم الجمهور، انهن يمارسن لغة الايماء بشكل يومي، بل ان هذه اللغة هي لغة التخاطب الوحيدة التي يتقونها. على مدار ثلاث أمسيات استطاع الجمهور العربي الفلسطيني، المحصور في اسرائيل، القيام بجولة حول العالم والتعرف على عروض تلك الدول التي حضرت خصيصاً للمشاركة في المهرجان. زيارة الدولة العبرية محفوفة بالمخاطر، مع هذا لم يتردد أحد منهم في الحضور واداء رسالته التي يؤمن بها. لكن أن يتم تأخير أحد الممثلين بسبب اسمه فهذا ما لم يحسب له احد حساب. فعندما حطت به الطائرة في مطار اسرائيل، لم يتوقع الممثل الإيمائي عمر سعيد روبليس، 25 عاماً، القادم من بورتوريكو بأن اسمه العربي ـ الغربي سيوقعه في «ورطة»، مع المخابرات الاسرائيلية. أكثر من ساعتين ونصف الساعة، ورجل المخابرات في المطار يحاول ان يفهم سر علاقة الاسم عمر سعيد مع انسان مثله ليس عربيا ولا مسلما، وما الذي حدا به قطع كل هذه المسافة البعيدة من بورتوريكو ليقدم عروضه في مدينة شفاعمرو العربية. عمر سعيد في حديث لـ«الشرق الاوسط» قال: «لقد كانوا لطفاء معي، فهم يحاولون الدفاع عن دولتهم، لكن ليس من العدل أن يأخذ التحقيق كل هذا الوقت، فقط لكون اسمي عربياً». الممثل الايمائي مارتين سوكور من براغ، المختص بتدريس التمثيل الصامت والكوميدي في بلاده يرى «ان كل التطورات الثقافية والفنية والنهضة الحضارية التي شهدتها وتشهدها أوروبا مصدرها العرب». لورين اريك سالم من الولايات المتحدة قدم خمسة مقاطع من المسرح الصامت الكوميدي، وشرح لنا أن غالبية الناس في اميركا لا تعرف التمثيل الصامت، بسبب سيطرة افلام هوليوود عليهم. المسرح الصامت ليس رائجاً في الوسط العربي في اسرائيل. فالناس اعتادوا الحكي. لكن سنة 1997 أتت مبادرة الأخوين سلامة، اللذين تأثرا منذ الصغر بتشارلي شابلن وراحا يقلدانه. «لم يكن من السهل جذب الناس لهذا النوع من المسرح»، يقول سعيد الذي يعتبر اليوم أحد الفنانين الكبار في مدرسة المسرح الصامت، ويتابع: «حاولنا تقريب الموضوع لقلوب وعقول الناس بإدخال لوحات موسيقية للأخوين رحباني ومارسيل خليفة ومنير بشير، وطورنا مع الموسيقى حركات تعبيرية. المسرح الايمائي، فن جميل ومتطور في العالم، وثمة من يعشقه». عندما أسأل عن ميزة التمثيل الصامت، يجيب سعيد: «المميز في المسرح الايمائي قدرته على عكس كل ما يجول في خاطرك وشعورك وتمريره عبر الحركة. فالايماء الصادق، بإمكانه أن يحمل رسائل بليغة عن مشاكلنا اليومية، خاصة الاجتماعية منها التي تؤرق الناس مثل قتل النساء، الفقر.. الخ. وهنا اعتقد أن هذه القضايا قد تكون لدى بعض الناس أهم بكثير من المضمون السياسي».

من بين العروض التي قدمت كانت هناك حصة للطلاب والأطفال، هنا يرى سعيد رسالة أخرى مختلفة عن تلك الموجهة للكبار، مشيراً الى أن عروض الصغار تعتمد على اللون والحركة السريعة، على اللعب الابتسامة، المرح. بكلمات أخرى: «أنا أريد أن يخرج الطفل معافى عقليا وجسمانيا، دون أن أزعجه بالقضايا السياسية. فهذه القضايا سيتعرف عليها لاحقا، وسيتاح له ان يتخذ منها موقفا. ولكي يكون موقفه سليما، فإنني أحاول المساهمة في بنائه الاجتماعي. هذا فضلا عن انه يخلق حالة جديدة نضيفها لحركتنا المسرحية بعيدا عن الروتين الذي نعيشه. لدينا طاقات من الممكن ان تصل الى اقاصي الأرض. نحن بحاجة لكرنفال وبهجة، لمهرجان لفرح وضحك، وأتصور أن شعبا غير قادر على الابداع غير جدير بالحياة».