رحلة مخطوط عربي في متاهات دور النشر الغربية

أين يمكن وضع صناعة الكتاب العربي اليوم مقارنة بما هو سائد في جزء كبير من العالم؟

TT

لم يظن الشاعر الليبي الأصل هشام مطر، أن مكالمة واحدة ستحسم التردد الذي عاشه حتى آخر لحظة بين خيارين مطروحين أمامه: أن يلتحق بدورة الكتابة الإبداعية أم يتركها.

كان عليه أن يدفع مبلغا كبيرا لجامعة ايست انغليا، وأن يلتزم في دوام يومي مقابل الحصول على دبلوم في الكتابة الإبداعية.

ولعل قراره بمتابعة الدراسة لم يأت، إلا بعد تزايد الشكوك في نفسه، عن إمكانية نشر مخطوط روايته.

ها هو يستقل القطار من محطة ليفربول اللندنية متوجها إلى مدينة نورج الواقعة في شمال انجلترا. كان التردد يتسرب في أنفاسه مثل تردد نبضات القطار فوق السكة الحديدية: اسجل أو لا أسجل. فقبوله جاء من بين 450 كاتبا بينما لن يتم اختيار أكثر من 24 متقدما فقط. ثم رن الهاتف في جيبه.

لم يظن حتى للحظة أن يكون المتحدث وكيله الثقافي المقيم في لندن. فالأخير لم يبعث بكتابه إلى دور النشر إلا يوم الجمعة الماضية، أي لم تمض سوى أربعة أيام على ذلك. قال له الوكيل كيفن سكوت آنذاك: يجب أن نحسب ما لا يقل عن ثلاثة أسابيع حتى نسمع الرد. فالمخطوط سيقرأه في كل دار، المحرر ومدير المبيعات ومدير التسويق ومدير دار النشر قبل أن يتباحثوا في قبوله أو رفضه. إضافة إلى الهدوء الذي بدأ القطار يجره إليه رويدا رويدا بعيدا عن صخب لندن، كانت الخضرة المفتوحة أمام عينيه تعمق من استسلامه لفكرة الدراسة. لمعت في ذهنه أسماء كتّاب بارزين سبق لهم أن تابعوا دورة جامعية في الكتابة الإبداعية المكثفة.

على الرغم من دمدمات القطار تمكن هشام مطر من تمييز صوت الوكيل لكن التقاط كلماته كان مهمة صعبة دفعته أن يطلب من محدثه أن يكرر عباراته. «هل تقول إن دار سبتر Sceptre قبلت كتابي». شرح له كيفن سكوت ما كان يجري بينما هو يستقل القطار: بعد وصول المخطوط إلى هذه الدار عصر أمس، أخذت رئيسة تحريرها بقراءته تحت دافع الفضول واحتاجت إلى إكماله الليل كله. وفي الصباح دخلت على مجلس الإدارة لتعلن لهم عن المخطوط الجديد: ليس لديكم وقت لقراءته.. يجب أن تتفقوا معي». وفورا قدمت هذه الدار عرضا لشراء الرواية والرواية اللاحقة التي لم تحضر حتى فكرتها بعد إلى مخيلة مطر. أضاف المتحدث باسم دار سبتر مخاطبا الوكيل: الوقت الآن الحادية عشرة والنصف. والعرض ينتهي الساعة الواحدة. سأل هشام وكيله: «وما الذي علي أن أفعله». «أمامك 20 دقيقة للتفكير»، أجاب سكوت.

وبدون أن يفكر هبط من القطار في المحطة اللاحقة: «مانينغ تْري» ليأخذ القطار المعاكس صوب لندن. انتابه شعور عميق بأنه يعيش لحظات من حلم طويل.

وكأن هذا الحلم لا يكف عن عرض مفاجآت أخرى: رن هاتفه الجوال مرة أخرى في جيب سترته. إنه الوكيل مرة أخرى: كلموه من دار بنغوين وعرضوا مبلغا أكبر من سبتر على مخطوط الرواية، وما سيلحقها من كتاب. سأل مطر: ماذا تقترح؟

كان رأي الوكيل التحفظ: «من الأفضل فتح مزاد، يُغلق يوم الجمعة الساعة الثالثة، بحيث نعطي فرصة للناشرين الآخرين»، إذ أن دور النشر الأخرى بحاجة إلى قراءة الرواية. لكن سكوت أشار إلى المخاطر الناجمة عن رفض عرضي سبتر وبنغوين.

الوكيل الأدبي: خط دفاعي دائم

جاء تعرف مطر على وكيله سكوت بناء على نصيحة من رئيس تحرير دار فيبر أند فيبر، بعد إرساله لأول مسودة للرواية إلى هذه الدار، نصحه رئيس تحريرها أن يجد وكيلا فسأله عن شخص يثق به، فأعطاه ثلاثة أسماء، وبعد اختيار ثلاثة أسماء أخرى من كتاب يصدر سنويا مخصص لمساعدة الكتّاب اسمه Writers Handbook دليل الكتّاب، ويحتوي على أسماء جميع الوكلاء الأدبيين أرسل مطر نسخا من المخطوط إلى كل منهم على دراجته.

بعد ثلاثة ايام اتصل أحدهم به وقال: أنا أريد أن أوقع عقدا معك. وهذه كانت بداية العلاقة بوكيله. يقول هشام مطر: لعل تقارب السن بيننا والطابع المتحرر من الشكليات الذي اتسم به مكتبه وراء ارتباطي به.

وعند الاستفسار عن الخدمات التي يقدمها الوكيل لموكله الكاتب، لخصها مطر بهذه النقاط:

يصبح الوكيل الشخص المعني بك ككاتب وإنسان ومبدع، وليس لأغراض تجارية فقط. وهو الذي يدقق في كل العروض التي تقدمها دور النشر لصالح الكاتب.

يحضر الوكيل كل ندوة تنظم لموكله. وأي شخص يريد الاتصال بالكاتب عليه أن يتصل بالوكيل أولا. إنه خط الدفاع الأول.

وهو يحضر أي نقاش أدبي يخص المؤلف كذلك يوجه زبونه إلى الصحف التي ترغب بعمل لقاءات معه.

وأضاف مطر: «كل وكيل له أسلوبه، ومكتبه يصبح مثل بيتك وأمام كل معضلة تواجهها تتجه له للاستشارة».

لكن أهم دور يلعبه الوكيل الأدبي، هو المساعدة في تحسين النص وجعله قابلا للبيع في حال إذا اقتنع أن الكتاب يمتلك القدرة على أن يصبح سلعة رائجة. بالطبع هناك مئات المخطوطات التي ترمى جانبا أمام عدد ضئيل يعطى فرصة النشر. حينما بعث هشام المخطوط لكيفن سكوت وزع نسخا منه على ثمانية محررين يعملون في المكتب، وهؤلاء أعطوا ملاحظات للتعديل والإضافة. وبفضل هذه القائمة الطويلة التي أعطيت لهشام مطر، أعاد صياغة العمل الأدبي مرة أخرى. يقول هشام مطر اعترافا بجميلهم: «هم جعلوا المخطوط يتنفس». كان النص قبل الإضافات يتكون من 58 ألف كلمة، لكنه وصل إلى 75 ألف بعد إكمال مراجعته له.

هناك محررون يعملون مع المؤلف خطوة خطوة أثناء كتابته للنص وقد يستغرق عملهم معه عامين أو أكثر

هناك محررون يعملون مع المؤلف خطوة خطوة أثناء كتابته للنص، وقد يستغرق عملهم معه عامين أو أكثر.

هل طالبت الملاحظات بإعادة كتابة أجزاء من الرواية أو كلها؟ لا، إنها من نوع المقترحات: هل يمكن أن نرى من الشخصية أكثر من هذا؟ أو هل يمكن أن تعطينا تفاصيل أخرى عن هذه الشخصية، أو عن هذا الحدث؟

كذلك فإن الوكيل هو الذي يتفاوض بالنيابة عن الكاتب فيما يخص المكافآت التي تقدمها دور النشر وطريقة تقديمها. وإذا كان الكاتب يحصل على نسبة تصل إلى 7% من سعر الكتاب، فإن الوكيل لا يحصل من هذه الحصة على أكثر من 15% داخل بريطانيا، بينما تكون حصته من الطبعات خارج بريطانيا 20%، لأنه يعطي 10% للوكيل الخاص بهذا البلد أو ذاك. وإذا بدت هذه النسبة ضئيلة مع الكتاب الذي لا يباع إلا بالمئات، فإنها ستكون كبيرة نوعا ما حينما يباع بعشرات الآلاف أو بالملايين، خصوصا مع انتشار ظاهرة القراءة بشكل كبير في الغرب خلال الثلاثين عاما الأخيرة، مع انخفاض عدد ساعات العمل وزيادة الرفاهية الاقتصادية بشكل عام فيها.

مزاد من نوع آخر

حينما علمت رئيسة تحرير سبتر بافتتاح المزاد، طلبت في نفس الليلة مقابلة مطر لإقناعه بأن دارها هي الأكثر مناسبة لكتابه. ويوم الأربعاء فتح مزاد علني في هولندا. و«في هذا اليوم طلبت بنغوين مقابلتي سعيا لإقناعي»، كما قال هشام مطر.

لكن لماذا هذا المزاد؟ يقول مطر إن هذا الإجراء الذي يديره الوكيل الأدبي من مكتبه، يأتي عندما يتقدم أكثر من ناشر على مخطوط ما، فيتنافسون على اقتنائه والمزاد يرفع من قيمة الكتاب. والوكيل هو نفسه الذي يحدد تاريخ إغلاق المزاد وكل الاتصالات هذه الأيام تدور عبر الفاكسات والإنترنت. لكن هل الجانب المالي هو الذي يحدد اختيار هذه الدار أو تلك مثلما هو الحال مع مزاد السلع الأخرى؟ يقول هشام مطر: «لا. هناك عوامل أخرى مثل من سيقوم بتحرير الكتاب مع المؤلف. أنا اخترت بنغوين بريطانيا لأن لها محررة ممتازة أيضا».

الكشاف الأدبي

في الأيام اللاحقة شعر هشام مطر، 35 سنة، أنه كان يعيش ما بين الواقع والخيال. مثلما هي الحال مع بطله الصبي سليمان ذي التسعة أعوام. وعلى الرغم من تفرغه شبه الكامل لكتابة روايته الأولى «في بلد البشر» ولخمسة أعوام، فإن احتمال قبولها من دار نشر متواضعة كان بالنسبة إليه حلما كبيرا. لذلك حينما توالت المزادات خلال الأيام القليلة اللاحقة على مخطوطه في فرنسا والمانيا وإيطاليا والنرويج والسويد والدنمارك والبرازيل واليابان وإيطاليا وغيرها، تعمق لديه الشعور بوَهمية ما كان يدور حوله.

كانت النتيجة أن بيعت حقوق طبع الرواية إلى أكثر دور النشر ثقلا في هذه البلدان، إذ تم اختيار دار غاليمار الفرنسية وراندوم هاوس الالمانية واينوادي الإيطالية.

لكن كيف علمت دور النشر الكبيرة في كل هذه البلدان بمخطوطة «في بلد البشر»؟ حدثني مطر عن تقليد سائد في الجزء الأكبر من العالم، وهذا يتمثل بإرسال دور النشر فيها كشافة إلى بلدان متميزة بالنشر الواسع كي يتمكنوا من التعرف على تلك المخطوطات التي تحمل في طياتها احتمال النجاح وما تحققه من أرباح لدور النشر. ومن خلال الأواصر التي يبنيها الكشاف مع الوكلاء الأدبيين وما يمتلكه من قدرات عالية في تقييم هذا المخطوط أو ذاك يستطيع أن يقدم لدار النشر التي يعمل لصالحها النصيحة المناسبة قبل فوات الفرصة. هل يمكن القول إنه جاسوس أدبي؟

ما بعد المزاد

حينما دخل هشام مطر برفقة وكيله الأدبي مبنى «بنغوين» لتوقيع العقد، انتابته ضحكة قصيرة جعلت كيفن سكوت يتساءل عما يدور في خلد زبونه: إنها نعمة إلهية كيف لا، وهو يراقب على الجدران صور الكتّاب الكبار الذين مروا على بنغوين: هيرمان هيسه وغراهام غرين وتوماس مان وغارسيا ماركيز وآخرون، وها هو يشاركهم نفس الدار.

برزت المهمة الأخرى أمام هشام مطر، حينما قدمت له محررة بنغوين الشهيرة كراسا بمقترحات كثيرة. فلدور النشر الكبيرة محررون متخصصون في مجالات مختلفة. فهناك المسؤول عن الجانب الفني والآخر عن اللغة وغيره عن الترقيم واستخدام الفواصل. وكانت أمامه فترة لا تزيد عن الشهرين للانتهاء من تنفيذ ما يجده مناسبا من تلك المقترحات. ولم يتمكن مطر من الانتهاء إلا قبل وقت قصير على نفاذ الموعد النهائي. الذي حدد في ديسمبر 2005 له.

ولم تمض سوى أيام قليلة حتى جاء الخبر اليقين: بنغوين قبلت الكتاب بصيغته النهائية. والآن انتقل العمل إلى المصممين والمعنيين بالطبع والتسويق والإعلان وغير ذلك. فعلى سبيل المثال أرسل المخطوط إلى عدد من الكتاب الكبار لتسجيل انطباعاتهم بشكل مختصر في ظهر النسخة الأولى ذات الغلاف السميك. ومن بين الأسماء التي استكتبت كان الروائي الجنوب أفريقي كويتزي الحائز جائزة نوبل للآداب لعام 2004. في الوقت نفسه بدأت دور النشر في البلدان الأخرى (عدا العربية) بترجمة الرواية، وإعداد طبعتها الأولى. وما هو غريب أن بعض الطبعات باللغات الأخرى ستظهر قبل الطبعة بلغة الكاتب الأصلية: الانجليزية. فالطبعة البريطانية ستصدر في أغسطس (آب) المقبل بينما خُطط للطبعة الهولندية كي تصدر في شهر مايو (أيار) الحالي.

أمام هذه الآلية المعقدة والبسيطة يطرح التساؤل: ما هو حقا دور الكاتب في صياغة كتابه، بالمقارنة مع دور أولئك الجنود المجهولين: المحررين الكثيرين الذين يتناوبون على نفس الكتاب؟ لذلك ليس غريبا أن نجد المؤلفين يفضلون العمل مع نفس المحررين طيلة حياتهم جنبا إلى جنب مع وكلائهم الأدبيين. فكأن هذه الرفقة التي تستمر طيلة الحياة في حالات كثيرة تهدف في نهاية المطاف إلى المحافظة على أعلى المعايير الأدبية. كذلك فإنها شكل من أشكال التكافل المادي الذي يمكنهم جميعا من كسب العيش بطريقة حرفية عالية عبر صناعة الكتاب، مع المساهمة في إبقاء ذائقة القارئ عالية هي الأخرى.

ولعل هذا السؤال يطرح نفسه في نهاية هذه الجولة: أين يمكن وضع صناعة الكتاب العربي اليوم، مقارنة بما هو سائد في جزء كبير من العالم؟