روزفلت وستالين.. عناق أخير.. وقائمة تبضع من أعلى القوائم في العصر الحديث

الرسائل المتبادلة بينهما تنشر للمرة الأولى بعد ستين عاما

TT

الرسائل المتبادلة بين الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ونظيره الاميركي فرانكلين روزفلت ظلت قابعة في زوايا الارشيفات لا يعرف عنها شيئا سوى أشد المقربين

الى الرئيس ايام الحرب العالمية الثانية حتى جاءت المؤرخة سوزان بتلر لتنفض عنها الغبار وتنشرها كاملة بعد مرور أكثر من ستين عاما عليها.

كان على الرئيس روزفلت أن يشجع ستالين للخروج من مكمنه في الكرملن للالتقاء به ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. وقد يبدو الامر غريبا بعض الشيء من ان هذا الثلاثي لم يلتق طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، إلا مرتين فقط فيما العالم بأجمعه كان يعول على جهود هذا الثلاثي لانهاء الحرب بأي شكل من الاشكال.

وحينما وجد الرئيس الاميركي ان ستالين كان مترددا للسفر مسافة 600 ميل حتى يصل طهران لاجتماع نوفمبر (تشرين الاول) 1943، اشار اليه بانه سيقطع عشرة أضعاف المسافة التي سيقطعها لغرض هذا الاجتماع: «ستقول عنها الاجيال القادمة تراجيديا لو انك وانا والسيد تشرشل اخفقنا اليوم في الالتقاء بسبب بضعة مئات من الاميال» كتب روزفلت الى ستالين محذرا.

وطار روزفلت وتشرشل من القاهرة. استقل روزفلت طائرة عسكرية خاصة ذات اربعة محركات من نوع C.54 في حين طار ستالين من باكو وتعرضت طائرته لعدة جيوب هوائية فوق جبال البورز، فعانى بعد ذلك من متاعب كثيرة وشكا آلاما شديدة في اذنه استمرت لبضعة أسابيع. أما تأثير رحلة الطيران على روزفلت وتشرشل فلم تكن افضل مما على ستالين، اذ اصيب تشرشل بذات الرئة وعاد روزفلت بسعال حاد تحول بعد ذلك الى التهاب في القصبات الهوائية.

لم يعتد ستالين على السفر جوا، ولم يرغب بعد رحلته تلك ان يسافر جوا مرة اخرى ابدا، الامر الذي جعل تشرشل وروزفلت يتفقان على الالتقاء به في مالطا لعقد القمة الثانية وذلك في فبراير (شباط) 1945.

ورغم الصعوبات اللوجستية لهذه الرحلة، فان روزفلت كان على حق حينما اراد اللقاء وجها لوجه، حيث الاتصالات عبر وسائل اخرى كاللاسلكي والرسائل المشفرة او ارسال المبعوثين كانت ايضا لا تخلو من صعوبة او خطر الكشف عن مضامينها، لذلك كان تبادل الرسائل الوسيلة المفضلة لدى الجميع.

يلاحظ من طبيعة هذه الرسائل المتبادلة بين روزفلت وستالين بانها لا تتمتع بقيمة ادبية متميزة او يمكن ادراجها ضمن ادب الرسائل، وانما هي رسائل تتعلق بشكل خاص بشؤون الحرب والجبهة وكيفية تحقيق النصر. ولإجل ذلك، كانت الولايات المتحدة الاميركية تقوم بتجهيز الاتحاد السوفياتي بكميات كبيرة من المعدات العسكرية وغير العسكرية التي كان بأمسِّ الحاجة اليها.

وكانت الحرب شاملة، ولم يكن اقتصاد ستالين في وضع يحسد عليه. ففي شتاء 1941 تقهقر الجيش الاحمر امام التقدم السريع للالمان، وكان افراد هذا الجيش بحاجة الى كل شيء ابتداء من الاسلاك الشائكة وحتى المعاطف الشتوية. وفي اتصال مطول مؤرخ في 31 اكتوبر (تشرين الأول) 1941، تعهد روزفلت بتزويد ستالين بما يحتاجه، فارسل ستالين قائمة يمكن ان تعد واحدة من اغلى «قوائم التبضع» في سجلات التاريخ الحديث. فمن ضمن 67 مادة كانت هناك على سبيل المثال (5.600) سيارة شحن يجب ارسالها على الفور، ثم (15) ألف سيارة شهريا، 300 طن من سليكات الحديد شهريا، (10) آلاف طن من مادة TNT، وعلى الاقل (200) الف جزمة عسكرية شهريا.

وبتزويد الولايات المتحدة الاميركية بكل ما يحتاجه الاتحاد السوفياتي من مواد يكون روزفلت قد ادخل بلاده فعليا في الحرب وحتى قبل حادثة بيرل هاربر بوقت طويل وكان روزفلت قد فعل ذلك على الضد من المعارضة والانعزاليين في البلاد اعتقادا منه بأن العلاقة التي يبنيها مع ستالين ستضمن له ليس فقط دحر هتلر وانما ايضا تثبيت دعائم السلام الحقيقي بعد الحرب.

وفي رسالة كتبها الى ستالين في الثاني والعشرين من يونيو (حزيران) 1943، يؤكد فيها روزفلت على ان «روح التضحية والوحدة ضروريتان لانتصارنا المحتم» وان هذه الروح «هي نفس الروح التي ستلهمنا لتحقيق تحديات مهام السلام في العالم».

فهل كان ذلك تضليلا من قبل روزفلت، ام تفاؤلا لا حد له؟ كان واضحا وحتى الى يومنا هذا ان التضحيات البشرية للروس خلال الحرب العالمية الثانية تفوق كثيرا تضحيات الاميركيين، وهذا ما كان دائما يشير اليه ستالين في رسائله الى روزفلت رغم عدم علمه بالحصيلة النهائية التي بلغت (405.000) اميركي لقوا حتفهم في الحرب مقابل (27) مليون روسي.

وبغض النظر عن الفروقات الايديولوجية التي يبدو من خلال هذه الرسائل ان روزفلت قد وضعها جانبا عند تعامله مع القائد السوفياتي، فان الوحدة التي يتحدث عنها كانت بعيدة المنال، خاصة حينما يتم الحديث عن هذه النسبة غير المتكافئة بين ضحايا الطرفين. يؤكد الكثير من الذين عرفوا روزفلت وكذلك كتّاب سير حياته ان احدى ميزاته الرئيسية كانت قابليته في استجماع قوة شخصيته واستخدامها كأداة للحكم. «اعلم انك سوف لا تعترض على صراحتي الشديدة لو اخبرتك بانني قادر على التعامل شخصيا مع ستالين افضل مما مع وزارة خارجيتك او مع حكومتي» كتب ذلك الى شرشل عام 1941، واضاف «ان ستالين يكره عليّة قومكم كرها شديدا. انه يفضلني وآمل ان يستمر على ذلك» لكن شرشل كانت له وجهة نظر اخرى: «ان ستالين رجل غير طبيعي. وهنا يكمن صلب المشاكل».

في الحادي عشر من ابريل (نيسان) 1945 دوّن روزفلت رسالته الاخيرة الى ستالين «ينبغي، وبأي حال من الاحوال، ان لا تظهر اية بوادر عدم ثقة بيننا في المستقبل مهما كانت ضئيلة». كتب ذلك جوابا على غضب ستالين حول ابعاد الممثلين السوفيت عن محادثات استسلام ايطاليا. وهكذا تحول ذلك العناق الى شد وجذب. وبعد ذلك التفت روزفلت الى مساعده واخذ يشكو: «اشعر بألم رهيب في مؤخرة رأسي» بعد ساعتين فارق روزفلت الحياة.