تجربة السجن والمرض كذريعة لإقامة حوار مع العالم

حلقة جديدة من سيرة الشاوي في عمله الجديد «من قال أنا»

TT

ظل الكاتب عبد القادر الشاوي يواصل عبر نصوص تنهل جميعها من نبع السيرة الذاتية عنده، معركته الجديدة التي بدأها مباشرة بعد خروجه من تجربة الاعتقال السياسي: معركة تعرية الأوهام القديمة والجديدة والبحث عن الحقيقة التاريخية والنفسية والوجودية للفرد.

عبد القادر الشاوي أحد الأدباء المغاربة الذين سكنهم فن التخييل الذاتي فأبدعوا فيه، وجعلوا من حيواتهم الفردية مرآة تعكس تطور الحياة في المجتمع ومصير أمة مرت بتقلبات ومحن ومراحل متعددة في العقود الأخيرة. ومنذ رواية «دليل العنفوان» التي ارادها الكاتب استحضارا

وقراءة شخصية لتجربة اليسار المغربي ولزمن الوهم بمكوناته الحقيقية، مجردا مما أراد البعض أن يسبغه على هذه التجربة من ملامح غير واقعية، ظل الشاوي يواصل عبر نصوص تمتح جميعها من نبع السيرة الذاتية الفياض عنده، معركته الجديدة التي بدأها مباشرة بعد خروجه من تجربة الاعتقال السياسي: معركة تعرية الأوهام القديمة والجديدة والبحث عن الحقيقة التاريخية والنفسية والوجودية للفرد.

وتعزز هذا الاتجاه بصفة خاصة مع الحلقة الجديدة من سيرة عبد القادر الشاوي، التي صدرت أخيرا عن «منشورات الفنك» تحت عنوان «من قال أنا»، والتي جاءت هذه المرة بصيغة التساؤل المضمر، بصيغة اعادة قراءة ـ ابداعية لجميع نصوص الشاوي السابقة عليها، ولمجمل تجربته في الحياة. وهذا توجه لم يأت بفعل الصدفة، بل بعد مرور المؤلف بتجربة مريرة جعلته يتوغل في المنطقة الواقعة بين الحياة والموت، على اثر اصابته بورم سرطاني، وخضوعه لعملية جراحية صعبة، مما جعله يواجه لحظة مركزية من لحظات وجوده، لحظة احتمال الرحيل عن عالم وعن حياة يعترف انه «لم يغنم منها الا احباطاتها ولم يجن منها الا الخيبات». فكيف ينتظم خيط السرد في هذا العمل؟ وكيف تتشكل بنيته الدائرية الباحثة عن رسم ملامح تجربة تأمل (بتشديد الميم) في كنه الوجود والفناء ومغزى التجربة الانسانية الفردية على الأرض؟ وكيف حوّل الشاوي تجربة المرض والموت الى مناسبة لإقامة حوار عميق مع العالم تتعدد فيه الأصوات وزوايا النظر؟

منذ البداية ينفتح نص «من قال أنا»، الذي يوضح انتماءه الادبي بإضافة عبارة «تخييل ذاتي» الى عنوانه، على قراءة الذات المهددة بدخول عالم الصمت الازلي انطلاقا من وجهات نظر متعددة. فالسارد ليس المتحدث الوحيد. إنه مجرد صوت يحتل جزءا من الشساعة النصية للكتاب الذي ينقسم الى أربعة فصول متكاملة يمكن ان نقرأها حسب الترتيب الذي نختاره دون ان يضر ذلك بمحتواها. فبنيتها الدائرية تستحضر الاحداث المشتتة لا عبر التوالي الخطي، بل عبر الالتماعات المتتالية التي تحاكي عمل الذاكرة لحظة تقييمها لمسار حياة البطل، كما ان انفتاح النص على مشهد السارد عبد القادر الشاوي، ممددا في غرفته بالمصحة واختتام الكتاب بنفس المشهد يعطي الانطباع بكوننا نقطع معه دورة حياة مكتملة. والبنية الرباعية التي تحاكي توالي الفصول الاربعة للسنة تعزز بدورها من هذا المنحى، منحى اكتمال الدائرة والاقتراب من الزوال الذي يعقب، لا محالة، كل اكتمال.

وعبر هذا التوزيع الذي ارتضاه السارد الرئيسي نلمس نوعا محكما من تنظيم الحكي. في الفصل الاول نستمع لأحمد الناصري، الصديق الحميم للسارد الذي يسترجع قصة الماضي المشترك: قصة النضال والسجن وانقشاع الاوهام، ثم الخروج من الاعتقال والبحث عن الاندماج في حياة المجتمع من جديد. ان هذا الفصل يحكي من زاوية نظر مختلفة الجانب الاجتماعي من حياة السارد الراقد في غيبوبة بالمستشفى، فنكتشف مدى المسافة التي فصلته عن محيطه داخل وخارج السجن، من خلال تصريح الناصري مخاطبا البطل الرئيسي في غيبوبته: «تركت وراءك كل شيء ايها اللعين، بما في ذلك الماضي الذي يطاردك ككلب أجرب، وصرت لا تطلب الا المستقبل حتى تنسى أنك خنت العقائد المدوخة».

ويحكي الفصل الثاني الذي يكتب على لسان المحبوبة السابقة للسارد، منار السلمي، الجانب العاطفي والنفسي من حياة البطل الذي يعيش تجربة العزلة ونقص التواصل مع المرأة ومع ذاته بحدة كبيرة. انه فصل القطيعة التي يحياها كل مبدع حق مع ذاته ومع محيطه القريب، والمعاناة التي تنجم عن أزمة التواصل، والتي غالبا ما يفر المبدع منها الى بياض الورق وفن البوح، للتخفيف من العزلة التي تؤرقه. اما الفصل الثالث فتتدخل فيه مجموعة كبيرة من الاصوات. انه فصل اللافهم بامتياز. لذا فهو مشكل من مجموعة رسائل تلقاها السارد لدى وجوده في المشفى، بعدما نشرت احدى الجرائد خبر وجوده في وضعية صحية خطيرة. والقاسم المشترك بين معظم هذه الرسائل هو كشفها عن عدم فهم المحيط الاجتماعي لمعاناة الفرد المبدع، الشيء الذي يعزز عزلته الوجودية قبالة صورة موته، ويهدد بانطفاء حقيقة الأحداث والأشخاص مع وفاة أصحابها، مما يدفع للتساؤل عن كنه الحقيقة وإمكانية وجودها اصلا في غمرة تداخل الخطابات وزوايا النظر المتباينة، خاصة لدى الحديث عن الجوانب الذاتية والنفسية العميقة من حياة الانسان، مع استثناء وحيد خلال هذا الفصل يتجلى في الرسالة التي كتبها جبرا ابراهيم جبرا لعبد القادر الشاوي، حول كتاب «دليل العنفوان»، والتي ثبت الشاوي نصها الكامل في هذا الفصل، ربما لكونها تتضمن حكم قيمة بالغ العمق حول أسلوب كتابة السارد التي يصفها جبرا بكونها: «مزجا بارعا بين الجد والسخرية، بين الحقيقي والوهمي، بين الحب.. وبين ذلك الحزن السادر الغادر المرافق لكل حب».

أما الفصل الرابع والأخير فهو فصل «الوصية»، فصل يتدخل السارد فيه أخيرا ليرد على ما ورد في كل الفصول السابقة، خاصة فصلي صديقه أحمد الناصري وعشيقته السابقة منار السلمي. إنه فصل التقييم وبحث الذات عن فهم مسارها على الارض استعدادا للقطيعة النهائية مع الكائنات ومع الحياة، فصل يتناول بالتحليل معنى الحياة والموت قبل العملية الجراحية وبعدها. وهو المعنى الذي يخرج متجددا متغيرا بعد المرور بتجربة المرض وبعد هذا النزول الرمزي الى الجحيم.

وعبر كل هذه الفصول يمارس الشاوي كتابة الأنا بطريقة جميلة تستضمر أصوات الآخرين، المشكلين لجوانب معينة من هذا الأنا، الذي لا يمكن أن يوجد الا في اطار الجدل بين مكونات داخلية وخارجية متشعبة ومركبة تصنع خصبه وتعقيداته وتعدد أبعاده. وبما انه لا يمكن تعريف الانسان الا بكونه كائنا متعدد الابعاد، فقد اختار السارد ان يعكس هذا التعدد عبر بنية فنية معقدة تحوم حول العالم وحول أزمنته المختلفة والمتداخلة ثم تعود الى إلى مصحة المشفى، الى الغيبوبة التي تصبح أداة لتفكير ينفذ الى عمق الأحداث والأشياء بسبب المسافة التي يحدثها المرض مع سيرورة الحياة العادية. وعوضا عن الجسد الفاني المتهالك المهدد بالموت الذي هو أقصى درجات العزلة والصمت، يكسر النص الصمت بالكلام المتواصل، بإقامة جسد أدبي متجدد تتداخل فيه ألياف لغة حية تجمع بن أصالة القديم وحداثة الاستبطانات والرؤى المتنوعة، انطلاقا من استثمار صورة الموت كذريعة للتأمل في الحياة.

موضوع الموت والانطفاء يتم طرحه هنا بجرأة غير مألوفة. والكاتب يعود الى تعميق تجربة الاحتفاء بالذات الفردية وتكريس المسافة النقدية بينها وبين روح الخضوع الحزبي والسياسي التي طغت على حياة أجيال السبعينات والثمانينات في المغرب، مما يمكن من تطوير تجربة البوح الذاتي في مجتمع تخنق فيه الحياة الجماعية كل خصوصية فردية، كما ان هذا العمل يتميز، من جهة أخرى، بكونه يقيم نوعا عميقا من الحوار بين النص الحالي والنصوص السابقة التي نشرها المؤلف، وخاصة «دليل العنفوان»(1989) و«دليل المدى» (2003). وهكذا تمارس الشخصيات نوعا من النقد والتحليل العميقين للكتب السابقة التي شكلت الحلقات الأولى من السيرة الذاتية للشاوي. وبذلك يتم المرور من عقلية «الدليل» الى عقلية السؤال في «من قال أنا». وتلك خطوة متقدمة على صعيد الأدب المغربي تعزز تحول الكاتب الى ذات تحكي قصة تشكل وعيها، بدلا من لعب دور الناطق الرسمي باسم حزب او اتجاه سياسي معين. اننا امام نص ينبني على التساؤل والحيرة الوجودية الممهدة لإعادة النظر في الذات وفي العالم. كما أن حضور المرأة في الكتاب حضور متميز متحرر من التنميط الرومانسي. فحب السارد للبطلة منار السلمي يمثل عاطفة ملغومة بإمكانيات الانطفاء والتمزق والقطيعة. والمرأة هنا ليست مجرد موضوع، بل هي محاور مستقل له احلامه وأوهامه وتصوراته، مثلما للرجل أوهامه.