معركة الخرائط في لبنان

TT

قضية حدود الدولة اللبنانية ترتبط باستمرار وجودها، ووجود هذه الدولة واستمرارها مرتبط بتعميق العقد الذي يجمع بين اللبنانيين في مرحلة تصاغ فيها خرائط جديدة لهذه المنطقة.

فبين التحديد والترسيم والتعيين ومصطلحات أخرى، يرى الدكتور عصام خليفة أن استقرار حدود ما لا يرتبط بالجوانب الاستراتيجية والطبيعية إلاّ بجوانب معينة، بينما يرتبط بشكل وثيق بالعلاقات القائمة بين المجموعات البشرية التي تفصل بينها هذه الحدود.

فعلى الرغم من أن الأمم المتحدة أقرت سيادة الدولة اللبنانية على إقليمها الجغرافي، وتكرس هذا الحق في المواثيق والإعلانات العالمية، إلا أن إلغاء الدولة اللبنانية وتقاسمها قد توضَّح خلال الحروب التي عانى منها لبنان بين عامي 1975 ـ 1990. ونحن الآن أمام تحديات تواجه المنطقة لإعادة صياغتها وفق مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي يضع لبنان على قارعة الدول. وما يسعى إليه المؤلف هو تأكيد أهمية العلاقات الطبيعية وعلاقات التعاون والتحالف بين لبنان وسورية، لكن على قاعدة المصالح المشتركة بعيداً عن الوصاية والتبعية بما يخدم الطرفين.

بعد ظروف الانسحاب السوري من لبنان التي انعكست توتراً بين البلدين، طرحت قضية مزارع شبعا ومسألة ترسيم الحدود السورية ـ اللبنانية بانفعال وتشنج. ونسي لبنان مشكلة المشرق العربي وما يواجه من تحديات التوسع الإسرائيلي، والسياسات الدولية المتغاضية، إن لم نقل المؤيدة لهذا التوسع. لذلك يجد المؤلف أن علينا معالجة موضوع الحدود اللبنانية ـ السورية بالتعاون لأنه موضوع حساس وبالغ الأهمية.

منذ المؤتمر السوري عام 1920 الذي أعلن وحدة سورية الطبيعية من طوروس إلى رفح، إلى أعلان الرئيس حافظ الأسد لجريدة «الأوبزرفر» في 6/3/82 بأن لبنان والبقاع بكامله ضروري للدفاع عن سورية، والتصريحات المعلنة للمسؤولين السوريين لا تخفي أهدافاً أعمق بكثير من التصريحات العلنية تؤكد عدم اعتراف سورية بالكيان اللبناني.

يدرس المؤلف المصطلحات المتداولة فيقول إن تحديد الحدود غالباً ما يتم بخطوط مستقيمة اصطلاحية لخصائص طبيعية. الترسيم يعني التعيين الدقيق لخط مبين على الأرض، وإقامة معالم لتبيان هذا الخط، وكثير من الحدود التي حددت لم يتم ترسيمها لصعوبة ذلك في الأحراج والصحارى. أما تثبيت الحدود، فتعني إيداع الاتفاق الخطي والموقع عليه مع الخرائط التي توجد عليها النقاط الحدودية المرقمة دائرة الخرائط في الأمم المتحدة.

ماذا تم من ذلك بخصوص لبنان؟ يحدد القرار 318 المؤرخ في 31/8/1920 حدود لبنان ببعض التضاريس والقمم والقرى ومجاري الأنهر. فتقرر أن تكون حدود لبنان:

1: خط القمم الفاصل بين أخاديد وادي خالد والعاصي.2: الخط الشمالي لقضاء بعلبك. 3: الخط الشرقي لأقضية بعلبك، البقاع، راشيا، وحاصبيا.

وفي عام 1930 قامت لجنة يرأسها ضابط طوبوغراف بوضع علامات الحدود مراعية حسن الجوار والحقوق والقيود لصالح المالكين من الجانبين بحق الرعي.

بعد حصول لبنان على استقلاله، وافقت سورية على ميثاق الاسكندرية الذي نص على استقلال لبنان ووحدة أراضيه المعترف بها دولياً. وعلى الرغم من ذلك دخل الجيش السوري قرية المجيدية في العام 1951 ومنع الأهالي من دخولها، كما أوقفت السلطات السورية رئيس بلدية شبعا عام 1958 لأنه طالب مع وفد من بلدته بجلاء القوات السورية عن مزارع شبعا. علماً أن هذه المزارع كانت تخضع لقانون الغابات اللبناني وتجبى منها الضرائب والرسوم حتى العام 1956.

أما الحدود الشرقية للبنان فوقع اختلاف بين سكان عرسال وقرية قارا السورية يعود إلى إدعاء كل منهما بملكية نبعي المير علي ووشل القريص. وقد أقر القاضيان العقاريان اللبناني والسوري بملكية سورية لهذين النبعين عام 1956.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1964) أخذت هذه القضية منحى خاصاً وقد قامت اللجان المشتركة بعدد من الاجتماعات واستعانت بخبرات واستمر اجتماعها وعملها حتى العام 1970، حين تشكلت هيئة دائمة لتعزيز التعاون وتوثيق العلاقات بين البلدين وإيجاد الحلول ووافقت هذه اللجنة في العام 1971 على المصادقة على الخريطة السياسية الموحدة، والموافقة على تجاوز القوانين المحلية النافذة في البلدين فيما يتعلق بحق التملك وما يتفرع عنه من حقوق عينية.

يعقد المؤلف قسماً خاصاً لمزارع شبعا والنخيلة، فيشير إلى أن هذه المزارع كانت جزءاً من قضاء حاصبيا قبل العام 1914، وكان هذا القضاء جزءاً من ولاية الشام. وقد ضم هذا القضاء مع غيره مما عرف بالأقضية الأربعة إلى لبنان في 3/8/1920 بموجب القرار الصادر عن الجنرال غورو رقم 299. وقد أبرز الأرشيف الفرنسي في «نانت» في أواخر العشرينات من القرن الماضي أن القضايا الحقوقية المتعلقة بشبعا ومزارعها يتم البت بها في مركز القضاء في حاصبيا، وليس في القنيطرة، أي أنها لبنانية. وقد تمت عدّة اتفاقات بين الأهالي حول سقاية المواشي وحفر آبار المياه وحق المرور. واتفق الأهالي برعاية الدولة المنتدبة على أن وادي العسل هو خط الحدود بين الدولتين، وتم التوقيع على هذه الاتفاقيات من قبل المخاتير والوجهاء وصدّق عليه من قبل القائدين الفرنسيين في مرجعيون والقنيطرة.

أما وضعية المزارع بعد الاستقلال، فقد تم الاتفاق في العام 1946 على أن الحد هو حد طبيعي وهو وادي العسل. لكنه أقر أن لأهالي مغر شبعا السورية الحق بالرعي في مراعي قرية شبعا اللبنانية.

وفي العام نفسه وضعت سورية بعض علامات الحدود ضمن الأراضي اللبنانية فاحتجت الحكومة اللبنانية على ذلك فكان جواب الحكومة السورية: «هذا عمل فني بحت لم يكن يقصد منه تعديل حدود. ووجود هذه العلامات ليس لها أدنى علاقة بتعيين الحدود الدولية، وأن وجودها ضروري لربط المساحات». وفي أوائل الستينات تجدد النقاش حول مزارع شبعا بين الحكومتين اللبنانية والسورية فتم تكليف لجنة من قاضيين عقاريين أثبتا في تقريرهما أن المزارع تقع ضمن الحدود اللبنانية.

وفي 12/6/1967 استولت إسرائيل على 6 مزارع. وفي 30/6 من العام نفسه احتلت 3 مزارع. وفي صيف 1972 تم ضم 80% من المزارع وتدمير 1070 مسكناً وطرد 900 عائلة ومنع 6000 عائلة من استثمار أراضيها، كما دمرت 53 منزلاً في قرية النخيلة. واحتلت العرقوب. وفي حرب 1973 احتلت مناطق لبنانية بين شبعا والهبارية. وعام 1975 احتلت مواقع مساحتها 8 كيلومترات مربعة. ولم يتقدم لبنان رداً على الاحتلالات الإسرائيلية بشكوى إلى مجلس الأمن للمطالبة بانسحاب القوات الإسرائيلية، خوفاً من سقوط اتفاقية الهدنة التي يتمسك بها.

في العام 2000 أبلغت إسرائيل أنها تزمع الانسحاب من لبنان قبل يوليو (تموز)، فبدأ فريق الأمم المتحدة بالبحث عن المستندات والخرائط لتحديد خط الانسحاب. إلاّ أن الحدود بين لبنان وسورية لم تكن موثقة، ووجدت الأمم المتحدة بين مستنداتها 81 خريطة من مختلف المصادر، فأوصى الأمين العام مجلس الأمن بحل لا يضر الحدود الدولية بين لبنان وسورية وهو الخط الفاصل بين مساحات عمليات قوات الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني وقوات الأمم المتحدة في القنيطرة.

لبنان يصر على انسحاب إسرائيل من كل الأراضي اللبنانية المحتلة في جبل حرمون تطبيقاً للقرار 425. لكن الأمم المتحدة لا تقرر الحدود بين الدول، لذلك يرى الأمين العام أن خط الانسحاب الإسرائيلي (الخط الأزرق) لا يعيق أي اتفاق بين سورية ولبنان حول هوية المزارع.

لكنه في العام 2004 صدر القرار 1559، وقد اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أن الأراضي اللبنانية حررت بكاملها، وأن مسألة المقاومة لم يعد لها مبرر مشروع، ورحب مجلس الأمن بتقرير الأمين العام وأصدر القرار 1614 الذي يؤكد على بسط الحكومة اللبنانية لسلطتها الفاعلة والوحيدة في الجنوب اللبناني.

إن معركة الخرائط التي تقودها الحكومة اللبنانية كأساس لتحديد السيادة على المزارع والنخيلة كانت السبب في عدم انتصار لبنان، كما يقول المؤلف، في معركة إقناع الرأي العام العالمي، خصوصاً أن سورية أحجمت عن وضع محضر مع الحكومة اللبنانية تؤكد فيه لبنانية المزارع والنخيلة رغم التصريحات السورية بلبنانية هذه المناطق.

إذا كانت معركة الخرائط سبباً في عدم انتصار لبنان في معركة إقناع الرأي العام العالمي بلبنانية المزارع، فلماذا أقدم الدكتور خليفة على إلحاق ملف من الخرائط مع كتابه؟ هل ذلك للتوثيق أم لنخوض معركة خرائط أخرى لا نضمن نتائجها؟