عاصفة كسر المحظورات تضرب مسارح بيروت

حوار في الممنوع يؤشر إلى انحسار الرقابة

TT

هل انكسر أحد أضلاع الثالوث المحرم في لبنان؟ هذا سؤال لا بد أن يطرح بعد سلسلة المسرحيات الجريئة التي سمّت الأشياء بأسمائها، وعرضت على الخشبات في بيروت خلال الاشهر الأخيرة، ولاقت إقبالاً كبيرا من قبل الشباب بشكل خاص. بدءاً، ربما، من مسرحية ربيع مروة ولينا الصانع، التي حملت عنوان «من يخاف التمثيل»، وعرضت قبل نهاية العام الماضي، بدا وكأن ثمة ما يتزحزح من مواقعه. فهذا العمل، الذي رغم انصياعه لمتطلبات الرقابة في تعديل النص، بقي مصراً على معاندة المواربة بكثير من المصارحة. بعد فترة زمنية وجيزة ثلاثة أعمال توالت على المسارح اللبنانية، محدثة ما يشبه الدوي الكبير في محيط هادئ أكثر مما يجب. هذه المسرحيات، بقيت المرأة محورها، ورغبة في تجاوز الخطوط الحمراء، تجمعها. فما الذي أراده هؤلاء المسرحيون، وإلى أين هم ذاهبون؟

ثمة ثلاثة من المحظورات التاريخية، قوامها الدين والسياسية والجنس، اجتهد النتاج الابداعي العربي في مقاربتها زمنا، لكنه دار حولها من دون أن يفلح في استيعابها. وبسبب رسوخ هذه المحاور، ربط أحياناً، نجاح أي عمل ادبي أو فني، بمدى قدرته على المناورة قريبا من المجال الحيوي المتشكل حولها، في وقت كانت الرقابة، بأشكالها المختلفة، تقف بالمرصاد، جاهزة دوما للانقضاض على كل من يضبط متلبسا بالسير في الممنوع. فتجاوز الحاجز الابدي المسور بموروث هجين من محرم ومقدس، ترفده سلطة اجتماعية مهيمنة، وتحميه ادوات مؤسساتية مشرعنة، وبالغة الفعل والسطوة أيضا.

في بيروت، المدينة المحاذية دوما للدهشة، والمولعة ابدا بالتجربة والمفاجأة، امكن أخيرا رصد بعض المحاولات الجادة لمراودة المحظور عن نفسه، تتولاها جماعة تنتمي الى المسرح، وتتخذ من خشبته منصة لاحلامها التغييرية. هم أطلقوا أعمالا تتسم بجرأة البوح، ولمرة نادرة كان على «النظارة» من جمهور المسرح، أن يصغوا إلى كلام كسر الضوابط المألوفة وتجاوزها. ما يمكن تسجيله هنا هو نوع من الاباحية المحتفية بذاتها إلى حدود بعيدة، والمثيرة لتساؤلات شتى عن سر الرضى المفرط عن الذات في سياق استفزاز الذائقة الاصغائية إلى درجة الصدمة. وأيضا، هناك سؤال عن غياب الرقيب، أو رحابة صدره المفاجئة حيال هذه الجرأة غير المعهودة. خاصة ان ذلك حصل بالتزأمن مع قرار الرقابة منع فيلم «سيريانا» لستيفن غاغان من العرض في الصالات اللبنانية، من دون تعليل واضح، وان كان ذلك لم يمنع المتابعين من رد الاسباب إلى تضمن الفيلم مقاربة لـ«حزب الله»، يبدو انها لم ترض قيادته، وهي استدعت قرار الحظر، بل أوجبته. والمسرحيات محور موضوعنا عرضت ايضا بالتزامن مع قصة اعتراض رجال الدين على غلاف لكتاب الشاعر صلاح ستيتية، لأنه يحمل صورة منمنمة تاريخية تصور المعراج. فهل تتشدد الرقابة في قضايا الدين والسياسة مقابل نوافذ تنفيسية في مجالات أقل حساسية.

كان يمكن لهذه الاشكالية ان تجد جوابا مقنعا، من مكتب الاعلام في الأمن العام اللبناني، لو امكن للطلب المقدم من قبلنا، وفقا للتسلسل التراتبي الذي تقتضيه السلوكية العسكرية، والمتضمن التماس الموافقة على اجراء مقابلة مع رئيسة المكتب، لو أمكن لذاك الطلب ألا يضل طريقه مختفيا. المقابلة لم تحصل، وظل السؤال حول هذا التساهل الرقابي تجاه الاعمال المسرحية الجريئة، والمقترن مع تشدد بالغ حيال أي مقاربة من طابع سياسي. ظل السؤال معلقا، والارجح انه سيبقى كذلك طويلا، تاركا لنا ان نرتب عناصر الثالوث المحظور وفقا لاهميتها كما يلي: دين، سياسة، ثم.. جنس. وقد لا يكون بعيدا اليوم الذي يقصر فيه الحديث عن ثنائية المنع بدل ثلاثيته، خاصة ان في جعبة اهل المسرح الكثير من المشاريع المستقبلية، التي لا تقل جرأة عن سابقاتها. فهل علينا ان نحتفي بالتضاؤل المتوقع للائحة الممنوع عندنا؟ ثمة ما يبرر ذلك، فان تتسع مساحة الكلام على حساب الكثير من الصمت الذي وشم الذاكرة الجماعية امر مبشر، كذلك فان اختراق حواجز المنع والتمرد على سلطاته لعبة ممتعة. لكن ماذا لو كان الامر لا يتعدى كونه انتقالا من سلطة الكبت إلى سلطة الانفلات؟ وماذا لو صار أي سؤال عن المسافة الفاصلة بين الانجاز الإبداعي الحقيقي والترويج الرخيص، مدانا سلفا تحت ذريعة الحرص على حرية الابداع؟

نضال الأشقر: ترسيم الحدود بين الفئة المحافظة والجريئة

المخرجة نضال الاشقر، التي كان لها موقع الريادة في الموجة الجديدة، من خلال مسرحية «تصطفل ميريل ستريب» للكاتب رشيد الضعيف، ترى «ان المسرح مرتكز على حرية التعبير اساسا، وهو لا يملك خيار خسارة هذه الحرية، أو ترف تقديم التنازلات، لانه حينها لن يكون مسرحا متفاعلا مع ناسه، وبالتالي قائما بمهامه البديهية». نضال ترى «ان العمل المسرحي هو مساحة ابداعية مفتوحة للشباب، تتيح لهم امكانية التعبير عن أنفسهم، ومن المهم للتجربة أن تأخذ مداها الابعد من دون قيود مفروضة ومعيقة لادراك امكانية التعبير حدودها القصوى».

الاشقر تتحدث عن تجارب مريرة مع الرقابة، دفعتها ذات يوم لعرض مسرحيتها «مجدليون» في مقهى «الهورس شو»، بعد اقفال المسرح الذي كان يستضيفها، لكنها تشير في المقابل الى تطور في الاداء الرقابي، جعل من بعض الجرأة المحسوبة امرا ممكنا، رغم وجود سلطات دينية تمتلك نفوذا على الحياة المدنية. هي تعترف بوجود شرائح اجتماعية محافظة، ومتحفظة على الكثير مما يقدمه المسرح، لا سيما في موجته الجديدة، لكنها تدعو بالمقابل الى انتزاع الاعتراف بحق الاخر، الشباب خاصة، في التعبير عما يجول في دواخلهم. المسألة في رأي نضال الاشقر، قابلة للحل في اطار عملية ترسيم للحدود بين الفئة المحافظة، والاخرى المتوسلة الجرأة في صياغة خطابها الابداعي. وهو أمر ممكن على ما ترى، خاصة في ظل هذا التمادي الهائل من الاسفاف المقدم على الشاشات الصغيرة من دون توافر امكانيات مواجهته.

وتشير المخرجة المسرحية الى نوع مغاير من الرقابة، يمارسه أهل المسرح انفسهم على بعضهم البعض، لا سيما التقليديون منهم في مواجهة اصحاب الرؤى الجديدة، التي لا يضيرها ان تكون مقتبسة عن مدارس غربية، «لا بد لهؤلاء ان يهتدوا أخيرا الى بصمتهم الخاصة، وان يكتشفوا مكأمن قدراتهم الابداعية، ليقدموا اعمالهم استنادا لها». هكذا تقر نضال الاشقر انها لا تتفق في رؤيتها الفنية مع العديد من الاعمال التي تعرض على مسرحها (أي مسرح المدينة)، لكنها تحرص مع ذلك على ان تقدم من دون اي تعديل، أو تحوير، «فالحرية المنشودة كل متكامل لا يتجزأ».

شريف عبد النور: لا حاجة للرقابة والجمهور يقرر

المخرج شريف عبد النور، في جعبته الكثير من الاعمال المسرحية، وبأكثر من لغة، لكن عمله الاخير «حياة المرأة السرية» ادخله الى صلب النقاش الدائر. يقول شريف ان الكثير من الكلام السلبي الذي تناول مسرحيته استند الى التواتر، «حضر المسرحية الفا شخص، لكن عدد المتحدثين عنها كان أكثر من ذلك بكثير». هو يقول ان مسرحيته سعت لمقاربة الجانب المسكوت عنه في حياة المرأة: ثمة معاناة قاسية تعيشها الانثى بصمت، لا يحق لها ابداء الشكوى منها، وهي في معظم تفاصيلها عائدة الى موروث غير مبرر علميا، أو دينيا. شريف يرى «ان الجنس في العالم العربي مدان سلفا، وغير معترف به كمفصل اساسي من مفاصل الحياة، ويضيف ان ليس ما يمنع من تقديم المعلومة الجنسية بقالب مؤدب، من دون اسفاف، او ابتذال. اما المعيار فهو كون الحاجة الجنسية مشروعة لكل انسان، بغض النظر عن جنسه، اضافة الى حجم المضايقات التي تتعرض لها المرأة في مجتمعاتنا، والتي يعتبر الكلام عنها جريمة، في حين ان حصولها «مسألة فيها نظر».

مسرحية عبد النور جاءت بعد ورشة مسرحية شاركت فيها نساء تحدثن عن معاناتهن، وكان بعضها قاسيا الى مرتبة الرعب. هن ينتقدن انفسهن، ويسخرن من تعامل المجتمع، بذكوره واناثه، مع المرأة. القضية اذا ليست ترويجا مبتذلا، هي مقاربة جريئة لمشاكل اجتماعية صارخة، يهرب المجتمع منها، على طريقة النعامة التي تدفن رأسها بالرمال، وفي ظنها انه سيحميها من نار الصياد.

عن تجربته مع الرقابة يقول عبد النور، «انها في لبنان اقل صعوبة منها في دول أخرى مجاورة، لكن التبصر في واقع الامر يقود الى عدم ضرورة وجود الرقابة المؤسساتية، ما دامت الرقابة المجتمعية قائمة ومؤثرة». وهكذا يرى عبد النور انه: «يمكن للناس ان يتولوا افشال اي عمل مسرحي لا يناسب مزاجهم، عبر المقاطعة، واحيانا بالوسائل العنفية المباشرة».

شريف يقول ان تجربته في الكلام بمحاذاة الممنوع في «حياة المرأة السرية« شجعته على المضي قدما في المجال نفسه، وان عنوان عمله المقبل سيكون «اسرار الرجال».

لينا خوري: أطالب باحترام حقي في الاختلاف

لا يكتمل الحديث عن الموجة الجريئة التي تضرب مسارح بيروت راهنا، من دون تناول مسرحية «حكي نسوان»، التي اعدتها واخرجتها لينا خوري، مطلقة اربعا من النسوة ليتحدثن بجرأة مفرطة عن تفاصيل انثوية مغرقة في حميميتها. المسرحية اثارت الكثير من الجدل في الاوساط الثقافية اللبنانية، انقسم الناس حولها بين مشجع ومعارض، لكن صاحبتها تبدو واثقة من ان هذا الكثير من الصخب يعني ببساطة فرصة لعمر أطول سيكتب للمسرحية ان تعيشه على الخشبة. وها هي تنقل العرض من «مسرح المدينة» الى «مسرح مونرو» متوقعة لها الاستمرار الى نهاية الصيف، مما يتيح لزوار لبنان من السياح مشاهدتها.

تبدو لينا مطمئنة الى حجم الاقبال الجماهيري، لكن هل يكفي ذلك للدلالة على صحة العمل؟ وباستعادة لسؤال طرحه زياد الرحباني يوما: «اذا كانوا كثرا، فهل يعني ذلك انهم بالضرورة على حق؟». لينا تقول بثقة «ان الاقبال دليل على نجاح المسرحية لانها موجهة للناس أصلا، وعندما يقبلها الناس فهذا يعني حتما انها ناجحة، اما مسألة تقييمها، وتقدير مدى جودتها الفنية فأمر يقرره العارفون».

وتضيف: «ما دامت المشاكل موجودة فلا بد من تناولها. قد يكون المشهد العام على شيء من الاباحية، لكن ما اقدمه ليس كذلك حتما، انا أرى فيه شيئا من الصدق مع الذات. في بريطانيا قانون يخفف الاحكام القضائية على المرأة اذا ارتكبت جريمة تحت وطأة حالة نفسية متأتية من خلل هرموني يتكرر شهريا». وتجزم: «المشكلة اننا لم نعتد الكلام على مثل هذه الامور في العلن، ومن هنا يأتي الاستغراب والصدمة».

تنفي لينا خوري ان تكون في عملها مجرد مقلدة لتجارب غربية: «انا قرأت مسرحية «حوارات مهبلية» لأيف لانسلر واستفدت منها، لكن مسرحيتي مختلفة عنها. انا شرقية وأعتز بذلك». كذلك هي تنفي ان يكون عملها جزءا من سلسلة اعمال مماثلة تدور في الاطار الجنسي، وتؤكد انها باشرت العمل على كتابة المسرحية قبل عامين من عرضها، وان العرض سبقه الكثير من شد الحبال مع الرقابة، بحيث اضطرت الى اجراء تعديلات شتى، وحذف بعض الفقرات، لكن انفراجا مفاجئا طرأ على الموقف، وسمح للينا ان تعرض النموذج الرابع لنصها، في الوقت الذي كانت انتهت من تنقيح النسخة السادسة لنص مسرحيتها، نزولا عند رغبة الرقابة.

لينا تدافع عن عملها بصورة قاطعة: «هذه قصص بعض الناس، ليست كل القصص، لكنها تعني الناس كلهم، لانها سبب الكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية التي نعاني منها، مهما حاولنا ادعاء غير ذلك. هي حكايا حميمة، وكان لا بد من مقاربتها بأسلوب حميم. اما القول ان في الامر ابتذالا فهو خاضع للنقاش، انا احترم وجهات نظر الآخرين، لكنني أطالب باحترام حقي بالاختلاف معها، وهذا أمر مشروع على ما أرى».

لينا تقول انها فكرت في ان يكون عنوان عملها المقبل «حكي رجال»، لكنها عرفت ان احدهم ينوي تقديم مسرحية تحمل العنوان نفسه، فرأت ان تترك الامر لاهله.

ويبقى: هل انطلق جني الاباحة من قمقم المحاذرة؟ لعل في الامر ما يشير الى ذلك، وعلى الاغلب ان غدا هو يوم آخر، في ما يخص المسرح اللبناني، وربما العربي.