اعتراف متأخر ومجحف بفن الكاريكاتير في العراق

مؤيد نعمة اقتنص لقب الريادة

TT

أصدر الرسام العراقي المخضرم، نوري الراوي، عام 1997 كتابا بعنوان «متحف الحقيقة ـ متحف الخيال»، ضمّ سبعين تعليقاً على شخصيات ومعارض فنية، وفيه العديد من الأسماء مع انطباعات عاطفية. أما النقد التشكيلي بالمعنى الاصطلاحي، فغاب تماماً، وغابت معه أية التفاتة لفن الكاريكاتير.

كان نوري الراوي، سخياً في الثناء اللغوي على رسّامي العراق، بالطريقة التي زاولها جبرا ابراهيم جبرا والتي لا تفرّق بين محترف وهاوٍ، واللافت في كتابه انه تجاهل معرضاً نوعياً لجماعة الكاريكاتير، وربما كان اول معرض كاريكاتيري في بغداد.

فمن وجهة نظر الراوي الضمنية، التي لا تختلف عن اتجاهات عامّة ذات نفوذ تاريخي ونقديّ، فإنّ الكاريكاتير ليس فنّا تشكيليّاً مستقلاً. وهكذا فان رسام الكاريكاتير لكي يستحق الاعتراف، لا بدّ أن يمارس التصوير أو النحت.

فالطابع اليومي الصحافي العابر والساخر للكاريكاتير، وعدم استغناء رساميه العراقيين في القرن الماضي عن التعليقات اللغوية، انتقص من استقلاليته، وشكك بجديته، وأبعده عن قاعات العرض، التي عرفتها بغداد منذ بداية اربعينات القرن العشرين.

كانت محاولة الرسام غازي لتسويق كاريكاتيراته التي اكتسبت شهرة وشعبية في الخمسينات والستينات من ذلك القرن، هي محاولة اشبه بالريادة المتواضعة من اجل الاعتراف بالكاريكاتير مستقلاً عن الفنون التشكيلية الأخرى. وكان غازي بالفعل يمثل الخطوة الأولى لتجديد الكاريكاتير في العراق، مع اعتماده على التعابير اللغوية البغدادية والملابس والديكورات والملامح المحلية، بحيث أمكن لرسومه ان توازي المرايا المتحركة للشخصيات العامة واللهجات المتفاوتة لأهالي بغداد، عدا التعابير الجسدية المعتادة لشخصيات رمزية من المجتمع. كان شيئا مسليا ومفاجئا ان يرى الناس انفسهم ومواطنيهم بدلالات كرتونية، وان يقرأوا كلماتهم، في مرايا ذلك الرسام.

كان غازي تعويضا عن تراكمات تجريبية سابقة في فن الكاريكاتير، لم تكن ثرية بما يكفي، لذلك سرعان ما تلقفته انطلاقة النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، التي هي مزيج من براءة ليبرالية وراديكالية، كانت قد تململت منذ الثلاثينات، تلك الانطلاقة حرمت من الظروف الموضوعية، لكنها لم تهدر الزمن الكثيف الذي صادفها.

معظم الصحافة التي تخصصت في الفكاهة والكاريكاتير، كانت قد تعطلت (قرندل، حبزبور) في ذلك الوقت، الا ان الكاريكاتير نشط في الجرائد والمجلات، وبرز بسام فرج الذي دفع تجربة غازي خطوات ملموسة. الا انه منذ نهاية الستينات كانت الحياة اليومية للعراقيين قد أخذت بالتجهّم الريفي والتكرار الآيديولوجي المنغلق، مع ان المواطن بقي يملك تطلعات اشبه بالفضول. وكان على الرسامين الذين أتوا بعد غازي ان يعالجوا ذلك التجهم بفن غير بريء ممزوج بفكاهة منضبطة، ودعابات مبطّنة.

تعنيني هنا، العودة الى موضوع تجاهل الكاريكاتير الذي ساد في كتب تاريخ الرسم العراقي بشكل عام. ففي عام 1972 أقيم معرض للملصقات في قاعة «اتحاد الأدباء العراقيين» في بغداد لمناسبة يوم النضال ضد التمييز العنصري، شارك فيه عدد من رسامي الكاريكاتير (بسام فرج، مؤيد نعمة، ضياء الحجار)، الى جانب الرسامين والمصممين (بينهم ضياء العزاوي، هاشم سمرجي، رافع الناصري، محمد سعيد الصكار، طالب مكي...) كما ضم صورا فوتوغرافية لجاسم الزبيدي.

وثق لهذا المعرض ضياء العزاوي، في كتابه «فن الملصقات في العراق»، لكن لم يكن من المؤكد ان يحظى رسامو الكاريكاتير بأي التفاتة لو لم يكن المعرض تكريسيّا، ويتمتع بمستوى عالٍ. هنا نضع ايدينا على اللحظة المناسبة: فرسام الكاريكاتير قد بدأ يدفع حدوده الى حقل آخر، وهذا هو مؤشر أولي على القبول التشكيلي غير المتحفظ بالكاريكاتير، ومن الممكن أن يعدّ مؤيد نعمة (1951 ـ 2005) اشارة لتلك اللحظة التي لا رجعة فيها عن التحول، وقد ساعده على هذا اعتباران، الأول: تحصيله الأكاديمي (فرع الخزف من كلية الفنون الجميلة) واستخدامه لهذا الفن في تنفيذ بعض الأعمال الكاريكاتيرية، والاعتبار الثاني: نشاطه الإعلامي وعمله في الجداريات، ومشاركته في أول فيلم كارتون عراقي: «لعبة كرة قدم أميركية» عام 1972.

ويبدو ان الكاريكاتير في العراق كان يحتاج الى نوع من الريادة القوية، من حيث الموهبة والاحتراف، لكي يتم الاعتراف به، أكثر من حاجته الى أولئك العصاميين الذين شقوا الطريق فعلا منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين فصاعدا (أمثال: سعاد سليم، نزار سليم، حميد المحل، غازي، بسام فرج...). وقد أدرك مؤيد نعمة، وهو الذي دخل الحلبة في بداية تحرك الآيديولوجية الرسمية الخانقة في السبعينيات.

أنجز مؤيد عددا كبيرا من البوسترات والجداريات ومزيج الجرافيك والرسم والأقنعة وأغلفة الكتب، وطوّر خطّه في الكاريكاتير، وقام بتطويع كتابته لتشكل جزءا من العمل، وواصل إدخال عناصر الكاريكاتير الى لوحة التصوير والى منحوتات وجداريات الخزف. وتوفي مؤيد نعمة في ديسمبر (كانون الثاني) 2005، والقيامة العراقية قائمة، لكنها لم تصرف المثقفين والفنانين عن توثيق قيمته وجدوى حبره الأسود. وللمرة الأولى اهتموا برسام كاريكاتيري من أبناء جلدتهم بشكل جماعي، في وقت لا ينفك فيه الناس يتلمسون أجزاءهم، غير متأكدين من أنهم ماضون في حياة ما. انه قناع آخر للمفارقة غير المسلية أمام ضباب الأقدار الذي لا تنفذ منه أية صورة مجازية سوى التهديد العام.