ألان روب غرييه يكشف دهاليز خفاياه والخبايا

بابا الرواية الجديدة يرسم معالم تفرده

TT

ما زال ألان روب غرييه يثير ضجيجاً، وإطلالته مهمة لكل أولئك الذين يحبون الرواية. فهذا الفرنسي المجدد الذي شاغب وشاكس ودخل الأكاديمية الفرنسية، ما زال صاحب مفاجآت. ففي كتابه الجديد، يكتشف القارئ أن خلفيته الأكاديمية العلمية وتحديداً البيولوجية، قد تكون، من العوامل المهمة التي رفدت الرواية الجديدة، وأن هذا الرجل يرى الدنيا بطريقته المبتكره، انه قارئ غير عادي لكل ما هو جد عادي.

عن دار نشر «سوي»، صدر أخيرا كتاب عنوانه «تصدير لحياة كاتب»، يرسم أجزاء من حياة وأفكار الروائي الفرنسي الكبير، وعضو الأكاديمية الفرنسية ألان روب غرييه. المناسبة متعددة، إذ أنه لا يتوقف عن الشغب وتحريك الأجواء. وهو لا يزال يرفض وُلُوج الأكاديمية الفرنسية، لأنه لا يرغب تضمين خطاب الدخول، كلاماً عن الأكاديمي الراحل الذي أخذ مكانه، إيمانا منه بأنه لا يمثل نفس نظرته للأدب، كما أنه يرفض بعض طقوس الأكاديمية.

قلة فقط تعرف بأن ألان روب غرييه، أو بابا الرواية الجديدة، كما يسمونه، قَدِم إلى الأدب من مجال العلوم، إذ أنه كان بيولوجيا بل متخصصا في زراعة الموز في أفريقيا. ومن هنا فالتشريح والتحليل العلميان حاضران عنده باستمرار.

«أعود إلى جذوري العلمية. العالَمُ العلمي يتحرك. يستطيع ناقد أدبي أن يخاطبك بالقول: أنتَ لا تعرف أن تكتبَ، لأن بلزاك كان سيكتب الأمر بطريقة مغايرة. ولكننا لا نقول أبدا لرجل علمي: لا يمكنك أن ترسي هذه النظرية، لأن نيوتن قال شيئا آخر. العلوم تتغذى باستمرار من الحركة، ويجب أن تكون في داخلها. إينشتاين هو أول من اكتشف بأنّ هذه الحركة ممكنة، لأنه يوجد ثمة نُقصانٌ».

الكتاب الذي انبثق من فكرة محاورات في راديو «فرانس كلتور» الذي تقدمه الكاتبة لور أدلير(التي استضافت في برنامج تلفزيوني لها، يدعى سيركل دي مينوي»، العديد من الكتاب العرب ومن بينهم محمد شكري والشاعر محمود درويش)، يغصّ بمعلومات نظرية وأخرى بيوغرافية تمنح للمتخصص في أدب هذا الكاتب خصوصا، وفي أدب الرواية الجديدة عموما، فرصة تشكيل فكرة متكاملة.

صحيح أن الكثيرين لم يهضموا فكرة الرواية الجديدة، والكثير منهم قام بنعيها قبل أن تموت، والبعض الآخر تصور أنها لن تموت. ويمكن للكثيرين الآن أن يروا كيف أنها أصبحت مشهدا عاديا من مشاهد الأدب الفرنسي وحلقة من حلقاته (وإلا من كان يتصور أن كاتبا ثوريبا ومتمردا سيكون عضوا في أكاديمية كانت ولا تزال تُتَّهَم بأنها قلعة المُحافَظَة والاتجاهات الكلاسيكية)، مثلما أن متزعمي ثورة مايو 1968 أصبحوا في مواقع الحكم في فرنسا، ولم يعد الأمر يخيف أحدا.

في نص حمل عنوان: «مذاق القرين»، يقوم روب غرييه بجرد جميل لكل الكتاب الذين يعشقهم، والذين كان لهم قرينهم: «لقد علمت أن نابوكوف كان له أيضا قرينه. وقد قصّ عليه أنه حدث له هذا الأمر حين وصل إلى أكسفورد، بالقُرب من البحيرة. بورخيس أيضا كان يرى قرينه، في الفترة التي لم يكن فيها أعمى. أحدهما مثل الآخر تحدث عن الأمر بكثير من الهدوء. الأمر بالنسبة لهما ليس مريعا على الإطلاق، إنه شبه طبيعي. إلا أن القرين يبقى ثيمة كبرى في الأدب. تحدثتُ عن دوستويفسكي وعن كُتّاب حديثين آخرين، ولكنه أيضا هو الموضوع الرئيس للرومانطيقية الألمانية. القرين يلعب دورا في مخيال الكُتّاب وعلى الأرجح في مخيال كل العالَم».

في هذا الكتاب يجيب ألان روب غرييه على أسئلة طُرحت ولا تزال تُطْرَح على الرواية الجديدة، وعلى الخصوص موضوع «أن لا شيء يحدث في الرواية الجديدة». يكتب غرييه: «لقد قيل كثيرا إن الرواية الجديدة لا يحدث فيها أي شيء، بينما تحدث فيها كثيرٌ من الأشياء. بل إنه تحدث فيها أشياء أكثر مما يحدث في أي كتاب تقليدي، ما دام أنه يحدُثُ فيها الشيءُ ونقيضُهُ وكل أنواع الاختلافات الممكنة».

يزور روب غرييه في كتابة العديد من المواضيع التي حفرت في ذاكرتنا، نحن العرب خصوصا، من تربى منا في كنف كُتُب النقد الاجتماعي والماركسي، ويحللها مبرزا هشاشة تنظيراتها ومحدودية رؤيتها. «مُنظِّرُون ماركسيون كانوا يرون ـ أتمنى أن يكون الأمر قد تغير الآن ـ بأن بلزاك كاتبٌ ثوري. جورج لوكاش، أحد هؤلاء المفكرين الكبار للمجتمع وللرواية، كتب بأن فلوبير ليس كاتبا ثوريا، لأنه لم يَحتَجَّ ضد عيوب النّظام، بينما بلزاك كاتب ثوري لأنه قام بالاحتجاج. لكن بروفيسورا من جامعة بيركلي الأميركية، لا أتذكر اسمه، ردّ على لوكاش بالقول بأن بلزاك كان على النقيض يُرفّْهُ عن المجتمع البورجوازي لأنه كان يكتب من أجله، في اللغة والبنية التي يفهمها. وأمّا كون فلوبير لم يشارك في ثورة 1848 فلا أهمية له، لأنه كان يقوم بالثورة من خلال تأليفه لرواية «مدام بوفاري». أعتقد أنه يمكننا تبني هذا الموقف، اليوم، من دون أن نُتَهَّم بـ«نُزوع يمينيّ». إن شكل الكتابة، إذا، هو الذي يُمارس نقداً للعالَم، وليس الحكايات التي نقوم بحكايتها.«إن الروايات السوفياتية الكبرى التي مجّدت الثورة والشعب والمستقبل الخالد هي أدبٌ رجعيّ بشكل كامل. على العكس فإن كاتباً يُشكّك في كتابة العالَم نفسها، والذي سيتحدث عن العالَم من خلال علاقات أخرى مع بنية المحكي، سيكون هو تقدّميا».

ويمنحنا روب غرييه مثالا عن ما يقول في شخص الكاتب الملعون سيلين: «لا يمكننا أن نندهش من سيلين، لأنه ليس شخصا على حدة. إن سيلين هو الكاتب الذي يجب أن نطلق عليه الكاتب اليساري، على الرغم من أنه كان من أقصى اليمين. لقد كان يحمل، على كل حال، عقلا ثوريا، وهذا ما لا يمكن أن نقوله بخصوص العديد من كُتاب اليسار في تلك الحقبة، الذين كانوا، على العكس، يكتبون أدبا يمكن أن نطلق عليه أدبا يمينيا. هذه الكلمات (يسار) و(يمين) أضعها بين قوسين لأنها بدأت، اليوم، في الاندثار على الرغم من أنها لعبت دورا كبيرا خلال طفولتي ومراهقتي. تعرفتُ على سيلين في فترة مبكرة جدا، في الوقت الذي كنتُ لا أقرا فيه كثيرا، لأنه كان من أقصى اليمين. والداي أيضا كانا من أقصى اليمين. سيلين كان لهُ حظّ كونه معاديا للسامية، وإذنْ كان من الممكن أن نتكلم عنه في البيت. وتَصَادَفَ أنه أيضا، مع ذلك، الكاتب الثوري الكبيرُ».

لا نستطيع أن نتحدث عن الموضوعات التي تطرق اليها الكتاب، لأنها كثيرة ويكفي أن نستعرض عناوين بعض الفصول، وهي متنوعة وشيقة: مبدأ الشك، عالم ينبغي بناؤه دونما توقف، عودة إلى الأطلال، الكتابة كتطريز، البناء على الفراغ، عصر الشبهة، من أجل تاريخ خاطف للرواية الجديدة، مع ذلك تحدث أشياء كثيرة، نظر سارتر، عقد أوتوبيوغرافي جديد، تهويمات.

في الفصل المعنون «الأدب والدلالة» نقرأ احتفاء خاصا بجان بول سارتر وبرولان بارث. «في الخمسينات كان ثمة كتابان أثَّرا عليّ بشكل كبير، ليس على طريقة كافكا أو فلوبير، كنماذج إبداع، ولكن باعتبارهما تأملات حول الأدب. كان عندي الانطباع بخصوص هذين الكتابين وكأن أحدهما كُتِبَ ضدّ الآخَر. الأول هو «ما الأدب؟» لجان بول سارتر، ثم جاء بعده كتابُ «الدرجة الصفر للكتابة» لرولان بارث. إن هذين الكتابين يحاولان أن يفعلا ما أحاول فعله أنا بعض الأحيان، في أحاديثنا مثلا، أي طرح سؤال: «ما الأدب؟» في كلّ مرة أجدني أعودُ إلى هذه القضية. هل نستطيع تحديد الأدب، أم هل نستطيع تحديد مكوناته؟».

في فصل حميمي اتخذ «شعراء أحبهم» عنوانا له، يكشف لنا الكاتب عن افتتانه بمالارميه وأبولينير وهنري ميشو وأندريه بروتون. ويشرح لنا نظريته القائمة على أنه «لا أضع فرقا بين النثر والشعر، أعتقد أنه حتى في الشعر يُوجد محكيٌّ». ونعرف في ختام هذا الفصل أن «ما يُؤثّر عليَّ كثيرا في الشعر، هو المزج ما بين أشياء محسوسة جدا ومحدَّدة وبين تأملات غير واضحة، بل يمكننا أن نقول عنها بأنها غامضة ومغلقة».

الكتاب ممتع ومكتوب بلغة سهلة، وهو بحق جديرٌ بأن يُقرأ، ولم لا أن يُتَرْجَم إلى لغتنا الجميلة!