حرب العراق تنهش في أجساد الأميركيات

نوم النساء في بيجامات زهرية أمام البيت الابيض

TT

مظاهرة من نوع جديد، شهدتها واشنطن مؤخراً، احتجاجاً على الحرب في العراق. إذ أن عشرات الآلاف من الأميركيات قضين ليلتهن أمام البيت الأبيض، وهن يلبسن بيجامات زهرية اللون، يوزعن الشموع، ويستمعن لأشعار السلام، ويغنين أغاني النضال، ويأملن أن تشاهدهن، من داخل البيت الأبيض السيدة الأولى، لورا بوش وزوجها. هذه المظاهرة النسائية، شكلاً ومضموناً، هي تعبير بليغ عن إحساس الأميركيات بأنهن، وربما للمرة الأولى، ضالعات في معركة حربية، وبشكل لم يسبق له مثيل.

اشتركت في المظاهرة الليلية الأنثوية، أمام البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، سندي شيهان، التي قتل ابنها في العراق واصبحت قائدة المظاهرات الأميركية ضد الحرب. ودعت كل متظاهرة زوجها وأصدقاءها ومعارفها لمشاركتها احتجاجها على الحرب. ونظمت المتظاهرات بالبيجامات الزهرية حملة لشراء باقات ورد، أرسلت الى لورا بوش، بمناسبة عيد الأم، لتذكيرها بابنتيها «باربرا» و«جينا» (مع غمز وتلميح بأن ابنتيها لم تذهبا الى الحرب في العراق، وانها، لهذا، أم محظوظة).

وجهت الدعوة لارتداء البيجامات الوردية منظمة «كود بنك» (الرمز الزهري) النسائية التي عارضت حرب العراق منذ البداية. وتستعمل المنظمة اللون الزهري لسببين: أولا، لأنه لون أنثوي وناعم وبريء وهادئ. وثانيا، للرد على رمزية الألوان التي تستعملها وزارة الأمن لتحذير الأميركيين من هجمات إرهابية (يحذر اللون الأحمر من هجوم مؤكد، ويحذر اللون الأصفر من هجوم متوقع، وهكذا).

حرب أنثوية في الداخل والخارج

اهتم الشعب الأميركي، وخاصة الأميركيات، بالجانب الأنثوي لحرب العراق لأكثر من سبب: أولا لأن عدد الجنديات اللواتي قتلن خلال هذه الحرب يفوق عدد اللواتي قتلن في فيتنام أو أي حرب أميركية اخرى. وهناك ثانياً ظهور سندي شيهان، التي قتل ابنها في العراق، وتحولت لقائدة للمظاهرات المعادية للحرب. أما ثالثا، فهناك ظهور كوندوليزا رايس، مستشارة بوش ثم وزيرة الخارجية، كنقيض لنموذج سندي شيهان باعتبارها داعية للحرب ومنفذة لها. ورابعا، هناك بروز دور امرأة أخرى هي الجنرال جانيس كاربنسكي، التي كانت مسؤولة عن سجن التعذيب في ابو غريب في بغداد، ولعبت دور المدافعة عن النساء في القوات المسلحة، لأن الجنرالات أرادوهن «كبش فداء» لما حدث هناك.

جنديتان أميركيتان شهيرتان

وفي جانب آخر، اشتهرت جنديتان عادتا من العراق، ولكن لسببين متناقضين: الأولى، جيسيكا لينش التي أصبحت «بطلة» لأن البنتاغون اعلن بأن الجنود العراقيين اطلقوا عليها النار، واعتقلوها، واغتصبوها. ثم انقذتها قوات اميركية في عملية عسكرية جريئة. لكن جريدة «واشنطن بوست» كشفت، في وقت لاحق، ان «جيسيكا» لم تكن معتقلة حقيقة، وكانت تعالج في مستشفى الناصرية، ولم تصب بأي رصاص، ولم يغتصبها أي عربي.

الثانية، الجندية ليندي انغلاند التي أصبحت «خائنة»، لأنها ظهرت في الصورة المشهورة في سجن ابو غريب، وهي تمسك حبلا ربطته على عنق معتقل عراقي عارٍ. لكن المحكمة العسكرية التي حاكمتها اصبحت أشبه بمسرحية، بعد ان تأكد ان رؤساءها جعلوها «كبش فداء»، حتى لا يحاكموا هم. وحكم عليها بثلاث سنوات سجنا فقط. واعتذرت لأنها ظهرت في الصورة، ولم تعتذر أبداً عما فعلت.

النساء والأرقام القياسية

قتلت حرب العراق رقما قياسيا من الجنديات الأميركيات، وغطاها رقم قياسي من الصحافيات الأميركيات. واشتهرت منهن صحافيتان:

الاولى، جاكي سبنسر، من جريدة «واشنطن بوست». قضت تسعة شهور في مكتب الجريدة في بغداد، وعادت وكتبت كتاب «قولى لهم لم أبك»، اشارة الى انها كانت شجاعة، رغم ويلات الحرب. عكس هذا الكتاب تفاصيل الاختلافات الثقافية بين الأميركيين والعراقيين. ومن بين ما تذكره المؤلفة، كيف نصحت كل أميركية ذاهبة الى العراق بأن لا تتبرج، والا تنظر في عيني الرجل العربي مباشرة، «حتى لا يظن انك عاهرة».

الثانية، جيل كارول، مراسلة جريدة «وول ستريت جورنال«. اعتقلتها «فرقة الانتقام الاسلامية» في يناير (كانون الثاني)، واطلقت سراحها بعد ثلاثة شهور تقريبا. وظهرت، اثناء اعتقالها، في شريط فيديو، وقالت «نفذوا مطلبهم» (أي أن يطلق الأميركيون سراح العراقيات المعتقلات)، لكنها، بعد اطلاق سراحها، وصفت معتقليها بأنهم «مجرمون».

ولكن هناك أيضاً الجندية الصحافية كايلا وليامز التي حاربت في العراق، وعادت وكتبت مؤلفاً عنوانه «أحب بندقيتي اكثر منك». يوضح اسم الكتاب أن هذه الأميركية تفضل الحل العسكري على الحل السياسي. كتبت في كتابها انها اشتركت في تعذيب العراقيين، لكنها لم تعتذر. وقالت انها ربما ستعود جندية الى العراق، لكنها لم تقل انها لن تفعل ما فعلته اول مرة.

اغتصاب ومخدرات

لم تهتم أغلبية الأميركيات (والأميركيين) بهذه الاساءات والاهانات للعرب في الكتاب، بقدر ما كان الاهتمام بتفاصيل في الكتاب، عن سوء معاملة الجنود للجنديات، وعن الجنس والمخدرات.

اهتمت الأميركيات بشكل الخاص، ببعض فقرات الكتاب، مثل الفقرة التالية: «رأيت فتيات يخضعن لرغبات الجنود ليحصلن على اجازة أو راحة، وأخريات ينهزمن امام إغراء الرجل. لكنني شخصياً بذلت كل ما اقدر لأقاوم». لم تقل مؤلفة الكتاب انها نجحت في مقاومة الجنود الاميركيين في العراق، لكنها اوضحت ان «ظروف الحرب تجبر الأميركية على ان تفعل اشياء ما كانت ستفعلها في ظروف السلام». واهتمت النساء أيضاً بتقرير اصدرته الجنرال كاربسكي (بعد ان اجبرت على الاستقالة)، قالت فيه ان كثيرا من الجنديات الأميركيات في العراق متن بسبب العطش، لماذا؟ «لأنهن تعمدن عدم شرب الماء كثيرا، حتى لا يتبولن في الليل، ويذهبن الى حمامات مظلمة ومشتركة للجنود والجنديات، لأن هذا معناه التعرض للاغتصاب، أو على الأقل، المضايقات والاحراجات».

واتهمت الجنرال كاربسكي الجنرال شانسيز، رئيسها في العراق، بأنه كان يعرف ذلك، وامر بأخفائه، وطلب الإعلان عن ان الجنديات متن لأسباب طبيعية.

غضب الليبراليات

أعلنت مثقفات ليبراليات غضبهن لما اعتبرنه «اضطهاد» الرجل الأميركي للمرأة الاميركية في العراق، وغضبهن على الحرب التي كانت سبب ذلك.

وكتبت د. مارجوري كوهين، استاذة في مدرسة توماس جفرسون للقانون، في ولاية كاليفورنيا: «اصبح الاعتداء الجنسي مشكلة كبيرة وسط القوات الأميركية في العراق، ليس فقط لأنه زاد كثيرا، ولكن، ايضا، لأن المسؤولين (الرجال) حاولوا عدم اعلانه». وانتقدت دونالد رمسفيلد وزير الدفاع، وحملته المسؤولية. وكتبت بيكي جونسون، في موقع منظمة «كود بنك»(الرمز الزهري): «لم أتصور أننا، في القرن الحادي والعشرين، سنعود الى الوراء، ونقرأ ونسمع عن اضطهاد الرجل الأميركي للمرأة. بعد سنوات قليلة، سنحتفل بالذكرى المئوية لتعديل الدستور الأميركي الذي ساوى المرأة بالرجل. وها نحن نشاهد اضطهاد الرجل للمرأة، أين؟ في العراق البعيد، ومن العسكريين الذين يجب أن يحمونا». واضطر البنتاغون، أمام هجوم ليبرالي قوي، للتحقيق في الموضوع، واصدر تقريرا من 99 صفحة أوضح بأن «وزارة الدفاع لا تقبل التحرش الجنسي».

هناك سبب إضافي لتأنيث حرب العراق، وهو العدد الكبير من الأرامل واليتامي بسبب فقد الأزواج، هذا عدا العدد الكبير من الجرحى والمعوقين الذين تظهر صورهم في الصحف وفي التلفزيون، برجل واحدة، أو يد واحدة، أو عين واحدة. عاهات الى الأبد يحزن لها كل الشعب الأميركي، لكن تحزن النساء لها حزنا معينا.

وهناك امهات، وزوجات، وبنات، وشقيقات، وقريبات لأكثر من نصف مليون جندي ارسلوا الى العراق، في وقت او آخر (هناك الآن مائة وخمسون الفاً). فمجرد ارسال هؤلاء الى حرب دموية ومرهقة، في بلد بعيد وغريب، ولأسباب تأكد بأنها واهية، ومع احتمال هزيمة قاسية، يؤثر على الشعب الاميركي. لكن تتأثر لها النساء تأثرا خاصا.

واحدة من هؤلاء هي تراسي بانرمان، مسؤولة في «جمعية زوجات العسكريين»، ومؤلفة كتاب جديد هو: «عندما تأتي الحرب الى منازلنا»، قالت: «دخلت حرب العراق منزل كل عائلة عسكرية في اميركا. وقصرت الحكومة في فهم ذلك، وفي معالجته. ولهذا اصبحت حياة الزوجات هنا لا تقل عذابا من حياة ازواجهن في العراق». واشتكت هذه الزوجة، ومؤلفة الكتاب من «الغضب، والتوتر، والحزن ليس فقط لأن زوجي غائب عن البيت، ولكن لأنه غائب من أجل حرب خاطئة».

زوج «تراسي» هو لورين بانرمان، الجندي في الحرس الوطني، الذي ارسل الى العراق. ولأن تراسي معارضة للحرب، وزوجها يحارب، زاد التوتر داخل منزلهما واثر على حياته في العراق وعلى حياتها في اميركا.

حرب العراق ليست كغيرها أبدا

قالت اميلي يالين، مؤلفة كتاب قديم عن تجارب زوجات الجنود في الحرب العالمية الثانية: «عبر التاريخ، ذهب الجنود الى الحرب، وبقيت زوجاتهم في البيوت، وارسلن لهم الخطابات، وافتخرن ببطولتهم، وانتظرن عودتهم. لكن حرب العراق ليست مثل الحروب السابقة، لأن المرأة الأميركية لم تلعب فيها هذا الدور التقليدي. اصبحت المرأة الأميركية رمز الحرب، ورمز معارضة الحرب، ورمز الذين قتلوا، ورمز الذين لا يزالوا احياء».

ومثال على ذلك، حالة «تراسي» التي ظهرت في التلفزيون، وانتقدت الحرب. وعندما انتقدها البعض، قالت: «نحن لسنا زوجات ننتظر ازواجنا حتى يعودوا. نحن نشترك في هذه الحرب مثلما يشترك فيها ازواجنا». وانضم اليها زوجها من العراق، ودافع عنها، وقال «أؤيد زوجتي، لأني متأكد من انها تعرف ما تقول».

قابلت الصحافية كرستين هندرسون (حارب زوجها في افغانستان وفي العراق)، زوجات جنود اميركيين في قاعدة فورت براغ، في ولاية نورث كارولينا. ونشرت ما قلن لها في كتاب سمته «عندما كان أزواجنا يحاربون»: قالت واحدة: «اقترح زوجي أن أشتري بندقية حتى أحمي بها نفسي. فقلت له: لو اشتريت بندقية، ربما سأقتل بها نفسي». وقالت ثانية: «كنت أشاهد برنامج «اميركان ايدول» (مثل برنامج «ستار اكاديمي»)، عندما اتصل زوجي من العراق، وقال انه فقد رجله بسبب انفجار، وأن الانفجار قتل ثلاثة من زملائه، ونسف وجه رابع».

وقالت ثالثة: «اصبحت حياتنا متوترة، وحزينة، وقاسية. انتهى عهد زوجات الجنود الصامتات، الطيور وحدها هي التي لا تشتكي».