كتابات من أعماق العزلة وحافة الجنون

ملفيل حبيس مزرعته وجويس الهندي صاحب الرواية الوحيدة يهرب الى الفلسفة

TT

ثقافات العالم حسونة المصباحي حين استقر الكاتب الاميركي هرمان ملفيل (1819 ـ 1891) في تلك المرزعة القديمة التي اشتراها قبل عامين في «بيتسفيلد» في مقاطعة مساشوستس، قرر ان يهدي روايته السابعة «الحجرة والاستبحامات» الى الجبل الذي كان يراه من نافذة مكتبه. وكان قد اهدى روايته السابقة التي سوف تخلد اسمه في تاريخ الآداب العالمية اعني بذلك «موبي ديك» لصديقه الكاتب ناتانيال هاوثورن الذي كان يسكن غير بعيد عنه. ويقال ان ملفيل استوحى موضوع رائعته تلك من الجبل المواجه لمكتبه والذي كان يبدو له حين ينبثق من الضباب المخيم عليه شبيها بحوت هائل.

وكان حلم ملفيل منذ الطفولة هو ان يستقر في تلك المنطقة. فقد كان عمه توماس يملك ضيعة هناك. وكان هو يزوره بين الحين والحين ويمضي الساعات الطويلة متجولا في الحقول والغابات والهضاب. وفي عام 1850، شرع ملفيل في كتابة «موبي ديك». وكان في ذلك الوقت قد اصبح رباً لعائلة كان عدد افرادها يزداد يوما بعد يوم. وكانت الحياة في نيويورك قد باتت مزعجة بالنسبة له لذا قرر شراء بيت في تلك المنطقة التي حلم دائما بالاستقرار فيها. وفي رسالة بعث بها الى صديقه هاوثورن، كتب واصفا حياته الجديدة على النحو التالي: «تريد ان تعرف كيف اقضي وقتي هنا، انا استيقظ في الثامنة صباحا، او في حوالي مثل هذه الساعة.. ثم اذهب الى مستودع الضيعة لاقول صباح الخير للحصان واقدم له فطور الصباح (..). بعدها ازور البقرة واقطع لها يقطينة او يقطينتين ثم امكث بجانبها لكي اتأملها وهي تأكل ذلك، انه مشهد بديع ان ننظر الى بقرة تحرك فكيها عند الأكل. وهي تفعل ذلك بلطف. بعد الفطور، اذهب الى مكتبي، اشعل نارا، ثم اضع المخطوط على الطاولة.. وبعد ان القي نظرة فاحصة عليه، اشرع في العمل بقلب منشرح..».

وكان الصيف احب الفصول الى ملفيل. فيه يحلو التنزه، وفيه يستقبل اصدقاءه القادمين من نيويورك. اما الشتاء فكان فصلا قاسيا جدا. وكان الاحساس بالانقطاع عن العالم يجتاح من حين لآخر قلب ملفيل وايضا قلوب افراد عائلته. وبالاضافة الى الاعمال المرهقة التي يستوجبها العيش في مزرعة، كان ملفيل يشعر احيانا بالاحباط خصوصا لما يتجاهل الكتاب والنقاد اعماله. وشيئا فشيئا بدأت الحياة في الريف تزداد سوءا يوما بعد يوما الى ان اصبحت غير محتملة. وفي عام 1863، تحت ضغط الديون والمرض، ترك ملفيل المزرعة وعاد ليعيش من جديد في نيويورك ولم يعد الى هناك الا خلال ايامه الاخيرة. وفي عام 1975، قامت الجمعية التاريخية لمنطقة مساشوستس بتحويل المزرعة الى متحف تخليدا لذكرى صاحب رائعة «موبي ديك». وعلى باب المتحف كتبت العبارة التالية: «في هذا البيت كتب ملفيل «موبي ديك» او الحوت وذلك بين عامي 1850 و1851».

عشرون عاما على رحيل بيريك بعد مرور عشرين عاما على وفاته، لا يزال الكاتب الفرنسي جورج بيريك، من اصل بولوني، المولود عام 1936 يثير جدلا كبيرا في الاوساط الادبية الفرنسية. وقد يعود ذلك الى ان هذا الكاتب كان مغرما ومفتونا الى حد كبير بموسيقى الكلمات، واجراس الحروف. وعلى هذه القاعدة، كتب رواياته وقصصه، ونصوصه. وتعتبر روايته «الحياة ارشادات» التي يصف فيها حياة سكان عمارة، اهم عمل خلفه. وفي ملحقها الادبي، نشرت الاسبوعية الفرنسية «لونفال اوبسارفتور» في عددها الصادر مطلع شهر مارس (آذار) 2001، شهادات عدد من اصدقاء جورج بيريك. راويا بعض ذكرياته معه، قال بول فورنيل: «اتذكر اني زرت جورج بيريك في نفس اللحظات التي كان يضع فيها اللمسات الاخيرة على روايته «الحياة ارشادات»، مستعينا بآلته الكاتبة اشار الي بان انتظر لحظة. ثم انهى كتابة الجملة الاخيرة واضعا في اسفل الصفحة «انتهت». بعدها نهض وكان يبدو محطما. نظر الى آلته الكاتبة وقال: «اكرهها». قلت له: «اشتريها منك». اشتريتها وعدت الى بيتي فرحا بذلك. غير ان الآلة رفضت ان تشتغل!». ويقول جاك ينس: «في خريف 1980، كنت وجورج بيريك نقدم العابا (كلمات متقاطعة) لاحدى المجلات الاسبوعية ولان الادارة لم تدفع الينا على مدى اسابيع طويلة ولو فرنكا واحدا، فاننا قررنا الذهاب الى مقر المجلة للاحتجاج على تلك المعاملة المهينة. استقبلنا مدير الادارة المالية. وبتلك العبارة المعتادة قال لنا: «لقد حصل خطأ.. وسوف ندفع لكما». ورد عليه جورج قائلا: «ادفعوا حالا. لقد اتينا معنا بقطعتي ساندوتش وببعض الشراب ونحن عاينا مكان التواليت. وبامكاننا ان نصمد حتى صباح الغد». بعد ذلك بربع ساعة، جاءتنا سكرتيرة جميلة بشيكين. عندما اتذكر هذه الحادثة، التي لا اظن انها بطولية، اضحك كثيرا!». واما ميشيل جرانجار فتقول: «اتذكر اني سمعت جورج بيريك في التلفزيون يقول بانه سيتمكن بفضل جائزة «ميديسيس» التي نالها من العيش دون القيام بتلك الاعمال التافهة التي كان ملزما بالقيام بها حتى ذلك الحين. وتلك كانت المرة الوحيدة التي ارى فيها جورج بيريك على شاشة التلفزيون».

العودة إلى برشلونة في مجموعته القصصية: «افضل العوالم»، يغوص بنا الكاتب الكاتلاني (نسبة الى مقاطعة كاتالانيا الاسبانية) كيم مونزو، في شوارع وازقة مدينة برشلونة عارضا علينا خفايا حياتها في الماضي والحاضر. «عطلة صيف» عنوان احد قصص المجموعة المذكورة، وفيها يروي المؤلف قصة طفل يولد ميتا. حدث ذلك يوم جمعة، حوالي منتصف النهار. يسلم الطبيب والد الطفل كيسا بلاستيكيا عليه اسم احد المحلات التجارية الشهيرة في اسبانيا، ويطلب منه ان يحمل الجنين الى المختبر كي تتم عملية التشريح. عند وصوله الى المستشفى، يرفض المسؤولون دخول الوالد فيعود الى شقته ليمضي نهاية عطلة الاسبوع بصحبة جنين في الثلاجة! ويوم الاثنين. عائدا الى المستشفى، يمر بطل القصة بالشارع الذي ولد فيه، وها هو يشرع في تذكر طفولته هناك. ومعلقا على مجموعة «افضل العوالم» كتب ناقد اسباني يقول: «ان هذه المجموعة هي عودة الى برشلونة، ومطالبة باحياء ذاكرة المدينة، ومشاهدها القديمة، واناسها الذين شاخوا الآن او ماتوا. والاشياء التي تم وضعها في المجموعة تحمل في داخلها احاسيس ومشاعر جد مؤثرة وجد قوية».

جويس الهندي في عام 1948 كان الكاتب الهندي جوفينداس فيشنوداس دوزاني في التاسعة والثلاثين من عمره عندما نشر روايته الاولى والوحيدة «كل الحقيقة عن هاتارر». في ذلك الوقت لم يكن احد يعرف عنه شيئا في بريطانيا سوى ان بعض المشاهير من الكتاب من امثال ت.س. اليوت وادوارد مورجان فورستر وادموند ولسون الذين مدحوا كتابات اشادوا بها. وفي ما بعد احرز دوزاني على تقدير اخر من انطوني بورجس ومواطنه سلمان رشدي الذي قال عنه: «انه اول غيث بعد الخلاص من الاستعمار». وقد توفي دوزاني في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي عن سن تناهز 91 عاما. تم ذلك في تكساس حيث كان يعيش وحيث عمل استاذا للفلسفة في احدى الجامعات هناك. وقد مر موته في صمت تام تقريبا. وصرح احد اصدقائه قائلا: «انا جد حزين لان واحدا من المع كتاب الهند ومن اكثرهم اصالة مات دون ان يثير انتباه او اهتمام احد». واضاف هذا الصديق قائلا: «لم يكن دوزاني يتحدث عن والديه البتة وما كان يبدو ان له عائلة. لقد مات اعزب».

ولد دوزاني في 8 يوليو (تموز) 1908 في نيروبي، بكينيا. وكان في الرابعة من عمره لما عاد مع ابيه الذي كان تاجرا الى مقاطعة السند الواقعة في باكستان حاليا. وهناك عاش حتى بلغ سن السابعة عشرة. بعدها سافر الى لندن لمواصلة دراسته فيها. وعندما انتهى من ذلك عاد من جديد الى الهند حيث مكث حتى عام 1939. ثم من جديد سافر الى بريطانيا ليعمل في البي بي سي. وخلال سنوات الحرب العالمية، انهمك في كتابة رائعته «كل الحقيقة عن هاتارر». وهي تبدو كما لو انها فوضى جميلة تختلط فيها الالفاظ السوقية بالعبارات الفلسفية المعقدة، ولهجة اهالي لندن بلهجة اهل كلكتا. ورغم ان روايته هذه احدثت وقعا هائلا في الاوساط الادبية اللندنية، فان دوزاني ظل يعيش حياة بائسة. وكان اصدقاؤه المقربون يبذلون جهودا مضنية ليحصلوا له على اعمال تسمح له بمواجهة صعوبات الحياة. وعندما دعي الى الهند ليتحدث عن ادبه قال دوزاني: «هناك روائيان كبيران في العالم الآن. واحد اسمه جيمس جويس والآخر هو عبدكم هذا!». ومقتنعا بعبقريته، قدم ترشيحه لنيل جائزة نوبل. وعندما اعلموه انه لم يكتب غير رواية واحدة صاح غاضبا: «الكيف هو المهم اما الكم فلا يعني شيئا!». وعندما ساءت اوضاعه المادية، عاد دوزاني الى الهند ليمضي هناك اربعة عشر عاما دون ان يكتب اي نص ادبي. وعندما يعيب المعجبون به عليه ذلك كان يعود الى مقولته عن الكيف والكم. واحيانا كان يدعي بانه كتب رواية جديدة غير انها سرقت منه. وفي النهاية، لجأ دوزاني الى الفلسفة محاولا من خلالها ان ينسى الادب، وينسى ايضا فشله في كتابة عمل يوازي رائعته الاولى. وظل على هذه الحال الى ان ادركته الشيخوخة.

أميركا في باريس مثل هنري ميللر، اختار الكاتب الاميركي جيروم شارين العيش في باريس، وتحديدا في الدائرة الرابعة عشرة وذلك منذ سبعة اعوام. وهو يقول: «اسكن فوق هضبة تطل على «مونبارناس». غير ان الهضبة ليست بيتا. هناك حططت رحالي مثل بدوي». وقد يعود اختيار جيروم شارين العيش في باريس الى انه يعشق كتابها خصوصا بودلير ورامبو وفرلين وفلوبير الذي يعتبره المؤسس الحقيقي للرواية الحديثة. وعن جذوره الحقيقية يقول جيروم شارين: «والدي من اصل بولوني. وقد جاء الى نيويورك وهو في سن الخامسة عشرة. اما والدتي فروسية. وبالرغم من انهما امضيا شطرا كبيرا من حياتهما في اميركا فانهما لم يتمكنا من تعلم اللغة الانجليزية. لذا كان عليهما ان يعيشا في فراغ، وفي غياب اللغة. بالنسبة لي انا هذا هو البؤس الحقيقي. وربما لهذا السبب انا لا اشعر اني اميركي ولا انا اوروبي ذلك اني ورثت هذا الفراغ. من هذه الفوضى التي نشأت فيها احاول ان استخرج الكلمات التي تساعدني على مداواة هذا الجرح». وعن طفولته يقول جيروم شارين الذي ولد عام 1937: «نشأت في شارع يسكنه الفقراء من اليهود والايطاليين والايرلنديين. وكنت اتكلم الروسية والعبرية وكانت السينما مدرستي الحقيقية. بفضلها تعلمت اشياء كثيرة بما في ذلك اللغة، واستعمال السكين والشوكة عند الاكل!». في الجامعة بدأ جيروم شارين يهتم بالكتب وايضا بعالم نيويورك السفلي الذي يصبح الموضوع الاساسي لكل ما يكتب تقريبا.

=