جبرا إبراهيم جبرا وأبعاده المتفاوتة

دراسة أردنية عن الناقد والشاعر والروائي والمترجم والقاص الفلسطيني الراحل

TT

مثلما كان جبرا ابراهيم جبرا اديبا متعدد المواهب، مختلف الابعاد والجوانب فقد كتب القصة والرواية والشعر والمقالة والبحث الادبي والنقد والدراسات الفنية ومارس الترجمة كذلك. فقد تشعبت الدراسات حوله بعد وفاته نهاية عام 1994 وتناولت العديد من جوانب ابداعاته في حين تجاهلت بعض هذه الجوانب ولم تعطها حقها من البحث والتحليل.

ويخصص الناقد د. ابراهيم خليل كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مؤخرا بعنوان «جبرا ابراهيم جبرا.. الأديب الناقد» لتناول الجانب الابداعي لجبرا من خلال تناول اعماله في الرواية والسيرة والشعر والنقد ولم يسقط الكاتب من حسابه القصة القصيرة التي يقول انه وجدها الحلقة الاضعف اذ لم تنشر له سوى مجموعة قصصية واحدة هي «عرق وقصص اخرى» التي ظهرت طبعتها الاولى عام 1956 ومنذ ذلك الزمان اعيدت طباعتها مرارا دون ان يكتب مجموعة اخرى.

ويشير الكاتب في المقدمة الى انه يسعى الى تحليل عطاء جبرا تحليلا موضوعيا يتوخى فيه النزاهة والتجرد ذلك لانه وجد في ما اطلع عليه من كتابات ان الافراط في الاعجاب بجبرا قاد على الدوام الى نتائج غير صحيحة في دراسة شعره او رواياته او نقده مثلما قاد التسرع في دراسته اثارة الى احكام ينقصها الاقناع وتخلو من الانصاف.

قصصه دون مستوى رواياته يخلص الناقد الى ان قصص جبرا القصيرة دون رواياته وشعره من حيث جودة السرد واتقان البناء الفني فهي تسرف في الطول على حساب التركيز في الزمن وتعتمد الحوار لكنه لا يفلح في بعض القصص في جعله عنصرا مساعدا في التشخيص او بناء الحدث.

وهذا لا ينفي انه يرسم ملامح شخصياته بقوة واقتدار جعلت من بعضها شخصيات تعلق بذاكرة القارئ، وهو يمتلك ناصية اللغة القصصية التي يقترب فيها من لغة الحديث اليومي.

ولكن هذا لا ينفي وقوعه في اشكال لغوي هو الخلط بين لغة الشعر بما يتميز به من رمزية مثلا ولغة القصة مما افسد عليه بناء بعض القصص لان زيادة الشاعر في لغة القصة كزيادة الملح في الوجبة الجيدة يفسدها ويجعلها سيئة المذاق.

كما يرى ان الغريب في قصص جبرا مثلما هو الحال في رواياته ان اكثر شخصياته من الوسط المثقف وقلما يختار شخصية من الشرائح الدنيا للمجتمع فباستثناء سلوم في قصته «المغنون في الظلال» ويوسف في قصة «الغرامافون» قل ان نجد بين شخصياته من ليس مدرسا او محاميا او محاسبا في شركة او تاجرا او طبيبا او موظفا او كاتبا. والشخصيات النسائية قل ان نجد فيها مربية او خادمة او حتى ربة بيت باستثناء ام الياس في قصة «المغنون». وهذا يجعل من قصصه التي تهيمن عليها هموم الطبقة البورجوازية الصغيرة قصصا تهتم بعرض الافكار والاراء وتنقل للقارئ بعض ما يؤمن به الكاتب او يظن انه يؤمن به. وهذا شيء لامسته ملاحظات الدكتور ياغي عندما اشار في احدى عباراته الى كون القصص تعبر عن موقف انعزالي ورومانسي وسلبي وهذه الظاهرة ماثلة ايضا في رواياته ولا سيما صيادون في شارع ضيق (1960) والسفينة (1974) كما يقول الناقد ابراهيم خليل.

جبرا .. والشعر يعبر المؤلف عن اسفه في ان لا يجد جبرا من يتناول شعره بالدراسة والنقد وهو الذي تناول بنقده الكثير جدا من شعر معاصريه امثال: ادونيس والسياب والجواهري ونزار قباني ويوسف الخال وغيرهم. مع استثناء دراسة كتبها د. محمد عصفور وملاحظات سريعة حول شعره ويرى ان السبب ربما كان لان النقاد والدارسين تحاشوا شعره اما لصعوبته وبعده عن متناول القارئ العجول واما لانه من الشعر الذي وصفه جبرا بالشعر الحر وسمته نازك الملائكة بقصيدة النثر، كما يشير الى ان الكثيرين من النقاد تجنبوا الاشارة الى شعره بسبب تحرره من قيود الوزن ورتابة القوافي فلم يحظ عطاؤه في كتاب «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» لكمال خير بك الا باشارة مختصرة جدا ذكر فيها المؤلف ان لجبرا وتوفيق صايغ نمطا من «النثر» يعده البعض المذاق الاول لما يجب ان يكون عليه الشعر الحديث.

لكن الناقد خليل يرى ان جبرا يبقى واحدا من رواد حركة التحديث في الشعر وان قصيدته تجاوزت القوالب الجديدة التي احدثها جيل السياب ونازك الى اسلوب جديد في الكتابة واجه الكثير من الرفض والانتقاد في بادئ الامر الى ان جاء الوقت الذي يرد فيه الى جبرا بعض ما له على الشعر الحديث من دين فشرع مؤيدو ما يسمى «قصيدة النثر» يشيرون اليه لا باعتباره رائدا وحسب بل باعتباره شاعرا قدوة وضع الكثير من الحلول لمشكلات الكتابة الشعرية في العصر الحديث.

الرواية والنقد تشير روايات جبرا كما يرى د. خليل الى ان المدينة مريضة منذ قرون وانها بحاجة الى علاج وهذا شيء ظهر في رواياته الثلاث الاولى في حين برزت المدينة الصغيرة ذات الطابع الريفي في رواية «السفينة والبحث عن وليد مسعود» باعتبارها المكان المطلوب وقد جاءت تعبيرات المكانية في روايته الاخيرة اشبه برموز او صور مجازية تعبر عن الحقائق الداخلية للشخوص وتتضافر مع السرد الحكائي في تطوير حبكة الرواية ورسم الاشخاص.

كما يتضح من اسلوبه في كتابه «البئر الاولى» انه اسلوب يقربه من الرواية السيرة خلافا لكتابه الثاني شارع الاميرات الذي وان ظهرت فيه مواقف اعتمد فيها التخيل والسرد القصصي الا ان الكتاب اقرب الى كتب المذكرات فإذا كان «البئر الاولى» لوحة طبيعية نابضة بالحياة فإن كتاب «شارع الاميرات» اقترب بالسيرة من فكرة الطبيعة الصامتة في العمل التشكيلي.

ويؤكد الناقد في الختام ان لجبرا تأثيرا نافذا في النقد العربي الحديث سواء من حيث المهاد النظري بترجماته التي قربت للقراء مفاهيماً نقدية جديدة او من خلال المصطلحات النقدية التي كان سباقا في استخدام بعضها او بارعا في توضيحها او تقريبها للاذهان ولم يكن في نقده ذاتيا دائما وان ظهرت في اثنائه بعض الاحكام الانطباعية الناتجة عن تأثره السريع بجودة الشعر او النثر الذي ينقده وفي مطلق الاحوال يظل نقده خاضعا لرؤى منهجية اسطورية حينا وشكلية حينا ثانيا وآيديولوجية في احيان اخرى ولكنه مع ذلك لم يمتثل في نقده لقواعد منهج محدد بل آمن بتفاعل المناهج وتضافر المعارف في سياق النقد الذي يسعى لفهم افضل للأدب ورؤية ثاقبة للابداع والفن.

=