موضوع كتاب المؤلفة فرجينيا رواندنغ «كاثرين العظمى الحب، الجنس والسلطة» يتعلق بعاشقة على درجة عالية من البراعة والحنكة. ورغم انها أميرة المانية، إلا انها كانت مشبعة بالتقاليد والثقافة الروسية والإلمام بلغتها الصعبة، كاثرين ايضاً كانت نموذجا للحاكم الرمز تتلمذت على يد والدها اللوثري الصارم وعلمت نفسها النظام وكبح الحريات العامة، مما امكنها السيطرة التامة على الحياة الروسية لفترة تزيد على ثلاثة عقود من الزمن.
«السلطة بدون ثقة الشعب لا تعني شيئاً بالنسبة لشخص يريد ان يكون محبوباً ومبجلاً» هذه الكلمات قالتها كاثرين الثانية قبل أكثر من مئتي عام مضت. ولأنها عملت الكثير لصالح روسيا سميت هذه الامبراطورة بالعظمى أو الكبرى من قبل معاصريها، وهكذا جرى عليها الاسم عبر التاريخ. غطت فترة حكمها النصف الثاني من القرن الثأمن عشر وهي حقبة كانت روسيا فيها تنعم بقمة مجدها الذي تأسس كقوة عظمى. اميرة من إمارة المانية صغيرة تصبح امرأة دولة من طراز رفيع رغم ان الحظ لم يحالف كاثرين في ان تكتسب تعليماً أو ثقافة مناسبة خلال مراحل عمرها المبكرة، عام 1778 كتبت كاثرين ما تريد ان ينقش على شاهد قبرها «هنا يرقد جسد كاثرين الثانية التي ولدت في ستيتين عام 1727. جاءت الى روسيا لتصبح زوجة الأمبراطور بطرس الثالث.. حينما اعتلت عرش روسيا في 1762 كانت كاثرين تتوق الى منح رعاياها السعادة والحرية والملك. انها تنسى على الفور ولا تحمل ضغينة لأحد. جمهورية بطبعها، متسامحة، متفاعلة، عطوفة ورقيقة القلب ولها اصدقاء كثيرون. العمل لم يكن مشكلة لديها، وهي تعشق الرفقة والفنون».
واذا كان حقاً ما تقوله بأنها «جمهورية» فإن ذلك لا يتخطى، في الواقع، حدود فكرها ومراسلاتها مع مجموعة من المثقفين امثال فولتير وديدرو اللذين كانت تقرأ لهما بشغف واللذين كانا يعجبان بها ويحترمانها.
وفي الحقيقة ان فترة حكم كاثرين اشتملت على تحقيق نجاحات كبيرة في الحرب مع تركيا والسويد وبولندا، وحصلت روسيا على الأراضي الاوكرانية والبيلوروسية والقرم، وفي عهدها نشأت 144 مدينة من ضمنها أوديسا، يكانزينودرا ويكانزينوسلاف في جنوب روسيا، كما ازداد عدد سكان الامبراطورية الروسية من 19 الى 36 مليون نسمة، وتضاعف حجم قوة الجيش العددية وازداد حجم الاسطول البحري الى ثلاثة أضعاف والمؤسسات الصناعية الى أربعة اضعاف، وارتفع مستوى الدخل القومي من 16 إلى 69 مليون روبل والتجارة الخارجية كانت على نمو متواصل. أما الجانب الثقافي فقد أسس في فترة ولايتها متحف الارميتاج في العاصمة بطرسبورغ ومسرح البولشوي في موسكو. ولكن من ناحية اخرى كانت هناك عدة تصدعات ومآخذ في نظام الدولة في مقدمتها الابقاء على نظام القنانة أو العبودية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن نظام العبودية هذا لم يُلغ إلاّ في عام 1861، أي بعد 65 عاماً من موت كاثرين. وكما تعتقد من أن «الحرية هي جوهر كل شيء»، تقول كاثرين «إن بعض الناس في روسيا يظنون بأنه يمكن للخدم أن يكون لهم طريق حياة آخر يختلف عن العبودية».
يقول المؤرخ الروسي فاسيلي كليو شفسكي في كاثرين: «لقد أدركت منذ أن كانت في السابعة من عمرها، بأنها بعيدة عن الجمال، لكنها في نفس الوقت كانت تعلم بأنها على درجة عالية من الذكاء. لذا، فإن الطلّة غير البهية كان ينبغي أن تُجمّل على حساب الصفات الروحية».
ولقد أَفلحت في ذلك واعتبرها الكثيرون جميلة بسبب الجاذبية التي تُشعّ منها. ذات مرة كتب إليها صديقها بالمراسلة الفيلسوف الفرنسي فولتير يقول: «زارني الكولونيل دي موغورانس لافيل بعد أن شاهدك كان مسحوراً، كان مدوّخاً من الفرح. قبّل يديك الجميلتين واعتبر نفسه أسعد الفرنسيين.. لقد أريته الصورة التي تفضّلت بها جلالتكم عليّ، قال إنها رائعة، لكنما هناك ملاحظة واحدة، وهي أنك أكثر جمالاً منها، كلانا جثا على ركبتيه أمام هذه الأيقونة».
معظم الشخصيات الأوروبية المعروفة كانوا يسمونها بـ «أكثر النساء مجداً وبهاء على مرّ العصور»، أما كاثرين فقد قيّمت نفسها على النحو التالي «إذا سمحت، فأنا أودّ أن أصف نفسي كأشرف وأنبل فارس بعقل رجل أكثر منه امرأة.. إن مظهري لا علاقة له بمظهر الرجال، بل بعقل الرجل وشخصيته امتلكتُ كل الصفات الموروثة في المرأة التي تستحق الحب، إنني جذابة..».
كانت مغامرات كاثرين العاطفية قد وفّرت الفرصة لتغذية كثير من الأساطير، وكان هذا الجانب من حياتها قد بُولغ فيه إلى حدّ كبير، بحيث طغى على الجوانب الأخرى المهمة من حياتها ونشاطاتها. وهنا ينبغي ملاحظة أن كاثرين باعتبارها امرأة وزوجة كانت محرومة من حقوقها الأساسية، فزوجها بطرس الثالث، لم يكن مثقفاً، بل كان رجلاً فظاً، يعاملها بشكل استبدادي وحتى مهين. ومن الطبيعي والحال هكذا، أن تميل إلى الآخرين وتجمع حولها العشّاق والأحبة، وكلهم كانوا من رجالات الدولة البارزين.
كانت كاثرين الثانية أيضاً مؤلفة لعدّة مسرحيات قُدمت على مسرح الارميتاج في سان بطرسبورغ. أغلب هذه المسرحيات كانت كوميدية، وهذا ليس بغريب على ضوء حقيقة أنها تعتبر طبيعتها المرحة أقوى جانب في شخصيتها. وتسخر هذه المسرحيات من النفاق والإهمال ومحاكاة كل شيء أجنبي، اضافة إلى مخلفات أخرى من المجتمع الروسي في النصف الثاني من القرن الثأمن عشر.
واستطاع الأديب والمسرحي الإيرلندي برنارد شو.. ان يوظف روح مسرحيات كاثرين ليكتب مسرحية عنها اسمها «كاثرين العظمى»، النص الأولي للمسرحية كتب عام 1913، لكن عرضه لأول مرة في روسيا لم يتم إلاّ في الموسم المسرحي الماضي على مسرح يرمولوفا في موسكو. يقول مخرج المسرحية فلاديمير اندرين «تعتبر كاثرين بالنسبة لي أكثر أهمية كامرأة منها إمبراطورة كبرى، فرغم انها وُلدت في ألمانيا، فهي روسية بحق، قرّرت أن تمسك بغموض وأسرار الطبيعة الروسية».
لكن، ما هو غامض، هو كيف استطاعت كاثرين وهي ألمانية أن تصبح روسية، بل أكثر روسية من الروس أنفسهم. لقد تعرفت على الشعائر الدينية الأرثوذوكسية وتقيدت بفرائض الصيام وزرعت القيم الروسية في نفوس أطفالها وحتى انها حظرت على أطفالها الاختلاط بالمربين والمعلمين الخصوصيين الأجانب. وقبل موتها بفترة وجيزة، قالت «أياً كان الذي فعلته من أجل روسيا، فهو لا يعدو مجرد قطرة في محيط».
حينما توفيت كاثرين الكبرى في نوفمبر (تشرين الثاني) 1796، أصدر ابنها باول مرسوماً يقضي بإخراج رفاة زوجها بطرس الثالث، الذي قيل إنها، ربما، قتلته قبل هذا بأربعة وثلاثين عاماً. ودفنه قرب جثمانها، وعلى ضريحها في كاتدرائية سان بطرس وسان بول في سان بطرسبورغ سجل تاريخ ميلادهما وتاريخ دفنهما فقط، وليس تاريخ موتهما، ما يعني بأنهما قد حكما روسيا معاً.