«علم العظام الأثرية»، ليس معروفا بالقدر الكافي في المنطقة العربية على أهميته. هذا العلم الذي بمقدوره، من خلال بقايا الحيوانات، أن يكشف لنا أوجه عيش أجدادنا الذين سبقونا بآلاف السنين، خصص له مؤتمر فرنسي، برزت فيه فلسطين، على قلة إمكانياتها، ببحث لفت العلماء. ففي مختبر متواضع حد الإدهاش، أقام محمد الزواهرة أبحاثه وذهب بها إلى مدينة ليون، وهنا التفاصيل.
يشعر الباحث الفلسطيني محمد الزواهرة، 45، عاما، بالزهو، لنجاحه بالمشاركة في المؤتمر الثامن حول «العظام الحيوانية الأثرية» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي نظمته «جامعة ليون»، بمشاركة غالبية دول المنطقة، وأنهى أعماله مطلع الشهر الحالي. وتمحور المؤتمر حول «القيمة العلمية لموضوع العظام الحيوانية الأثرية»، لما له من أهمية علمية تعكس النواحي الحياتية المختلفة التي سادت مناطق الشرق الأوسط، منذ اقدم العصور.
يشغل الزواهرة، وظيفة مدير دائرة المواد العضوية، في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، وقدم في المؤتمر، مداخلة حول البقايا الحيوانية الأثرية في موقع «تل المفجر» في أريحا، تطرق فيها إلى القيمة العلمية لهذا الموقع الأثرى المهم في المدينة التي حازت شهرتها كأقدم مدينة في العالم، وبيّن بعض الجوانب الحضارية للمنطقة، خلال الفترة الحجرية النحاسية التي تعود إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد. كما تطرق الباحث إلى الواقع الاقتصادي والظروف المناخية التي سادت المنطقة في تلك الفترة، من خلال دراسة البقايا العضوية التي كشف عنها خلال الحفريات، حيث دلت الدراسة على أن سكان الموقع، مارسوا نظام السكن الدائم واعتمدوا على تربية الأغنام والماعز والخنازير والأبقار التي استخدموها للأعمال الحقلية، وكان المناخ أكثر رطوبة من اليوم، مما مكنهم من زراعة أراضيهم.
وكشفت الدراسة، التي أثارت اهتمام المشاركين، عن وجود علاقات تجارية متبادلة بين فلسطين وحوض البحر المتوسط الشرقي، من تركيا شمالا حتى مصر جنوبا، وذلك من خلال التعرف على مواد، مصدرها تلك الأماكن، ضمن الاكتشافات الأثرية في الموقع.
«علم العظام الأثرية»، كما قال الزواهرة لـ«الشرق الأوسط»، هو تخصص حديث نسبياً، ضمن علم الآثار، ويهتم بدراسة النواحي الحياتية المختلفة للإنسان في الفترات القديمة، اعتمادا على تحليل البقايا العضوية الحيوانية وبالتحديد العظام والأصداف وبقية المواد كالشعر والأظافر في حالة وجودها.
وقال الزواهرة «بالاعتماد على هذه البقايا، يمكن الكشف عن طبيعة العلاقة التي كانت تربط الإنسان بما حوله من الأنواع الحيوانية المختلفة. وأضاف «يمكننا معرفة إذا كان الإنسان قد اعتمد على الصيد والتنقل أو مارس نظام السكن شبه الثابت». ومن النواحي التي يمكن لعلم العظام الأثرية الكشف عنها، الجوانب البيئية، خلال فترة معينة.
ويقول الزواهرة «إن بعض الأنواع الحيوانية، تحتاج لظروف بيئية ومناخية معينة؛ فمثلا القوارض تحتاج إلى بيئات عشبية، وأنواع معينة من الحلزونيات تحتاج الى ظروف مناخية رطبة، كما أن الخنازير تفضل المناطق التي تنمو فيها الأشجار بكثافة لحاجتها إلى الظل، ودراسة العظام تساعدنا على تحديد طبيعة البيئة».
هذا العلم، عرفته أوروبا منذ عام 1918، ووصل إلى العالم العربي متأخرا.
ويعتبر الزواهرة أول فلسطيني يتخصص في هذا المجال، وحصل على شهادة الماجستير من هولندا عن رسالته التي درس فيها «الحياة الحيوانية القديمة في فلسطين اعتمادا على عينات تل جنين».
وعن بحثه الجديد الذي عرض لنتائجه، للمرة الأولى في المؤتمر الذي عقد في مدينة ليون الفرنسية، يقول الزواهرة انه بدأ به مع عملية تنقيب في «تل المفجر» الذي يقع على بعد 2 كلم عن وسط مدينة أريحا الفلسطينية.
التنقيب الأول في هذا الموقع، بدأ عام 2002، وكشفت عن آثار تعود للفترة الحجرية النحاسية، أي الألف الرابع قبل الميلاد.
ويقول الزواهرة «عثر على كميات كبيرة من العظام الحيوانية تقدر بعشر كراتين متوسطة الحجم، وتم التعامل معها بحذر شديد، لأنها هشة وسريعة التكسر، وتحمل معاني حضارية وقيمة علمية عالية تساعد الباحث على التعرف على نواح عديدة لحياة الإنسان الفلسطيني الذي عاش في هذا الموقع».
ونقل الزواهرة العينات إلى مختبر متواضع جدا، تابع لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية لتحليلها، وتبين أن ساكني الموقع، «اعتمدوا في حياتهم على الحيوانات المدجنة، كما عثر على بقايا لحيوانات برية مثل الغزلان والوعول، إضافة إلى اصداف بحرية، آتية من مناطق بعيدة، مثل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وعثر على بقايا لأحجار كريمة مصدرها الشرق الأقصى والأردن».
وحسب الزواهرة، فانه تم العثور أيضا على مادة صخرية تعرف باسم (الابسوديين) توجد في الأناضول بتركيا، وكل هذه المعطيات جعلت الزواهرة يستدل على أن سكان الموقع، عاشوا على تدجين الحيوانات والصيد، ومارسوا تبادل البضائع مع منطقة البحر المتوسط، والأناضول ومصر، مرورا بسيناء.
ويقول الزواهرة «عثرنا على بقايا حلزونيات وحيوانات، تحتاج في عيشها إلى ظروف مناخية رطبة، وبات من المؤكد أن الظروف المناخية التي سادت كانت اكثر رطوبة من اليوم». كما أن بعض الآثاريين يعتقدون بان سكان الموقع كانوا يقدسون القمر، استدلالا على وجود بعض الأصداف، ولكنه شخصيا لا يملك رأيا قاطعا في الموضوع.
ويقول الباحث ان «علم العظام العضوية» يمكن الباحثين من تحديد أنواع العظام والمواد العضوية وأعمارها، بشكل قطعي، ولا مجال فيه للاحتمالات.
لا يحبذ الزواهرة الحديث عن الصدى الذي تركه بحثه لدى المؤتمرين في ليون، لكن جريس قمصية، مسؤول الإعلام في وزارة السياحة والآثار أكد لنا، أن المشاركين «ابدوا إعجابهم بالدراسة، واعتبروها دليلا على مكانة علمية متقدمة وإدراك ووعي واسع للقيم الأثرية التي تمتاز بها فلسطين، وبينت الاهتمام الفلسطيني الكبير بموضوع الآثار».
والى جانب الزواهرة قدم آخرون دراسات متنوعة، فمن سورية قدمت دراسة عن عظام من الفترة البيزنطية، وقدم باحثون أتراك تحليلا لنتائج دراسات متنوعة أنجزوها، وقدم الفرنسيون والهولنديون وغيرهم نتائج أبحاث أجروها في المنطقة العربية، أما المشاركون الإسرائيليون فقدموا تحليلا حول بقايا الفيل، من فترة العصر الحجري في أحد المواقع التي أطلقوا عليه اسما إسرائيليا.
ويقول الزواهرة، حاول المشاركون من إسرائيل الظهور بأنهم الأكثر تقدما علميا في المؤتمر، ولكن هذا لم يكن إلا في البداية، وبعد تقديم الدراسات المختلفة، تخلوا عن ذلك، وابدوا اهتماما بنتائج الدراسة الفلسطينية، وحاولوا معرفة تفاصيل إضافية عنها وعن الموقع.
وعاد الزواهرة من المؤتمر، الذي تشارك فيه فلسطين للمرة الأولى، إلى أبحاثه وأوراقه، محاولا أن يبقى مخلصا للبحث العلمي، في اكثر المناطق سخونة في العالم.