كيف غيرت حفيدات شهرزاد وجه الرواية العربية؟

100 سنة من الحفر في صخر الذكورة

TT

* ليس من المبالغة القول، إن الروايات المكتوبة بأقلام نساء، باتت تثير غيرة زملائهن الرجال. ففي كل يوم تكاد تطل علينا روائية جديدة، تجعلنا نكتشف أن ليس للجرأة من سقف، وأن الحدود التي رسمها المجتمع العربي طوال مئات سنين خلت، تأتي حفيدات شهرزاد لينسفنها بحكاياتهن الحادة والقوية، بل نقول الانفجارية. فمن المغرب إلى السعودية، ثمة عشرات الأسماء المونثة، التي أحدثت ما يشبه الزلزال في مسار السرد العربي. ولا نبالغ أيضاً لو قلنا إن روايات الرجال هي نفسها باتت تتلمذ على روايات المرأة العربية وتستفيد منها، بل وتحاول تقليدها أو اللحاق بها، أحياناً. والتفاعل جارٍ وسريع بين روايات رجالية ونسائية، ستفقد جنسها، ربما بأسرع مما كنا نتصور، لنجد أنفسنا أمام رواية عربية أكثر إنسانية، وسعيا للانفتاح على آفاق أوسع وأمتع. فماذا فعلت حفيدات شهرزاد بالرواية العربية؟ وإلى أين يقدن سفينتها؟!

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي: «شهود الحق في النساء أعظم الشهود»، وليكن هذا القول مدخلاً للحديث عن الروائيات العربيات، أو حفيدات شهرزاد، ودورهن في المشهد الروائي الراهن. هذا الدور الذي يزداد اتساعاً حتى بات بيننا من يقول: إن فن الرواية يستعيد أصوله الأنثوية!

فمن يستطيع اليوم أن يتخيل المنجز الروائي العربي، بمعزل عما قدمته كل من غادة السمان، وأحلام مستغانمي، ورضوى عاشور، وسلوى بكر، وليلى العثمان، وحنان الشيخ، وهدى بركات، وإلهام منصور، وأخريات ممن سبقنهن أو أتين بعدهن؟! استطاعت الروائيات رغم تقليدية المجتمع العربي، وهيمنة الرجل وتسلطه، وتهميش المرأة، أن يحققن اختراقاً لم يعد قابلاً للتجاهل، وهو يقوى ويترسخ، ترافقه حركة نقدية داعمة، وتحولات في الثقافة تجعله مألوفاً اليوم أكثر من أي وقت مضى. فنحن نعيش زمناً جديداً على المستوى الثقافي، أو إرهاصات لزمن جديد، للمرأة دور فيه، سواء عاملة أم مبدعة، ولها دور في قيادته أيضاً. فتهميش المرأة ثقافياً، لم يعد ممكناً، وقد غدت موجودة بقوة في الإعلام والتعليم وكل مجالات الإبداع تقريباً. ومن موقعها هذا، قد تضع تاريخ الرجل موضع تساؤل، بسبب الإخفاقات التي تسبب بها وألحقت أذى بالغاً بالمجتمع!

في سورية، يرى الناقد نضال الصالح، أن عقد التسعينات لا يمثل ذروة الخط البياني لتجربة السرد السورية على مستوى عدد الإصدارات فحسب، بل ذروة ما بلغته هذه التجربة نفسها على مستوى حضور الصوت النسوي أيضاًَ. ويقدم الصالح إحصاءات، تبين ظهور نحو خمسة وأربعين صوتاً نسوياً جديداً في الرواية والقصة في عقد التسعينات، أي نحو ضعفي ما قدمته تجربة القص السورية طوال ستة عقود من تاريخها. ويذكر أن وزارة الثقافة السورية أطلقت عام 2004 جائزة حنا مينه للقصة والرواية، للأدباء دون سن الثلاثين، وبلغ عدد المشاركين 257، وكانت نسبة المشاركات نحو60%، ونالت الكاتبات الشابات الجوائز الأربع الأولى!

سقطت إذاً، خرافة أن الفن والإبداع هما للرجال وحدهم، والرواية (المؤنثة) غدت من الرسوخ والجرأة بمكان، كادت فيه تكون هي الأقوى.

في الرواية أيضا الريادة للنساء!

رغم أن الحكاية منسوبة عربياً للمرأة إلا أن ثقافة التعصب للذكورة أوحت بأن فن الرواية يبدعه الذكور. يقول الناقد السعودي عبد الله الغذامي: «إن تاريخنا نسب للمرأة الحكي، وجعل الكتابة للرجل.. فشهرزاد ممثلة لحالة المرأة الحكواتية، لا المرأة التي تدون إبداعها...» حتى أن هذه الثقافة أخفت حقيقة أن الريادة في هذا الفن كانت للنساء، كما هو الأمر مع الشعر الحديث. إذ يستصعب البعض الإقرار بريادة الشاعرة نازك الملائكة ويقدمون عليها عبد الوهاب البياتي، وفي أحسن الأحوال يجعلونهما معاً! وفي المدارس والجامعات، تعلمنا أن الرواية الأولى التي تحققت فيها شروط هذا الفن هي «زينب» لمحمد حسين هيكل، والتي صدرت عام 1913، وتبين فيما بعد أن اللبنانية زينب فواز (1845 ـ 1914) نشرت في عام 1893روايتها الأولى بعنوان: «حسن العواقب»، وفي عام 1894 نشرت معجماً لسير النساء بعنوان: «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور». وفي عام 1906أصدرت اللبنانية «عفيفة كرم» (1883 ـ 1924) من المهجر روايتين، هما: «بديعة وفؤاد» و«فاطمة البدوية»، وصدرت لها «غادة عمشيت» عام 1913، ولها روايتان مجهولتا التاريخ، هما: «كليوباترا»، و«محمد علي الكبير». وللكاتبة اللبنانية: لبيبة هاشم، صدرت في مصر رواية «قلب الرجل» عام 1904 و«فتاة الشرق» 1907. ومؤكد أن روائيات أخريات من مصر، وبلاد الشام، وفي نفس الفترة تقريباً أو بعدها ببضع سنوات، كتبن روايات ضاعت أو لم تنشر، وهذا ما يؤكده كتاب: «بيبلوغرافيا الكاتبات اللبنانيات من 1850- 1950» الصادر عن «دار الساقي» للسيدتين: نازك سابايارد، ونهى بيومي.

لكن، ولأسباب كثيرة، تتعلق بطبيعة مجتمعاتنا وغلبة الذكورة فيها، برز هذا الفن وكأنه فن رجالي. فحتى وقت قريب كان عدد الروائيات لا يزال قليلاً إذا ما قيس بعدد الروائيين، وكأنه حكم على النساء أبدياً، أن يحكين الحكايات في البيوت، كما يحكن الصوف، أما الكتابة فهي ميزة احتكرها الذكور!

تقول الناقدة يمنى العيد: «المرأة منذ بداية التاريخ وهي تكتب، وكان لها حضور، دائماً، وعلى كافة الصعد، ولكن هذا الدور ظلت نسبته قليلة أولاً، وغيب ثانياً، وقالت: سبق لي أن قدمت بحثاً حول المرأة الكاتبة في لبنان، وذهلت بعدد النساء الممارسات للكتابة. وعندما تكتب المرأة تهاجم ولا تقدّر. ومع بداية النهضة هناك من شجع المرأة على الكتابة من الرجال، ولكن هذه استثناءات في موقف الرجل، المبدع الحقيقي».

ولكن متى حدث الاختراق وكيف؟! لا بد أن انتشار التعليم، ودعوات تحرر المجتمع، وغفلة أصابت القيمين على الأمور، سمحت بخروج بعض الأصوات النسائية إلى العلن، وإن يكن وفق شروط المهيمنين وقواعد لعبتهم. فمنذ خمسينات القرن الماضي، ومع لطيفة الزيات، وجاذبية صدقي من مصر، ووداد سكاكيني، وألفة الأدلبي، وكوليت خوري من سورية، وليلى بعلبكي من لبنان، وأخريات لا تحضرنا أسماؤهن، بدأت النواة تتسع، والرواية النسوية تتشكل ملامحها، ليأتي بعدهن في الستينات روائيات أكثر جذرية، مثل: نوال السعداوي، وغادة السمان، وليلى عسيران، وأميلي نصر الله. وفي أجيال لاحقة: سحر خليفة، وحميدة نعنع، وناديا خوست، ورضوى عاشور، وسلوى بكر، وهالة البدري، وميرال طحاوي، وليلى العثمان، ورجاء عالم، ورشا الأمير، وحنان الشيخ، وهدى بركات، وعلوية صبح، وأنيسة عبود، وسميحة خريس. والدائرة تتسع لعشرات الأسماء من الروائيات العربيات اللواتي يصعب اليوم إحصاؤهن، وقد أضيفت إليهن أسماء جديدة من الجزيرة العربية، والمغرب العربي، والسودان. وكلهن، رغم تفاوت المستوى، يشكلن إضافة نوعية في النسيج الروائي لا يمكن إغفاله، وحضورهن بهذا الزخم أعاد إلى خارطة الرواية العربية نوعاً من التوازن الفكري. والبعض منهن، لا سيما المتحررات من عقدة (الذكورة/الأنوثة)، تقدمن في الفن الروائي، وكن أكثر جرأة في طرح القضايا وفي التعامل مع الواقع.

الانتقال المظفر من الهامش إلى المتن

ظلت الرواية النسوية حتى وقت قريب رواية الأقلية المهمشة، وربما لم تأخذ على محمل الجد حتى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حين صارت ظاهرة واسعة الانتشار، وتخلصت الكاتبات من الشعور بأنهن جماعة دخيلة، وحين بدأ جيل الفحول من الروائيين العرب يذوي، وبعد تجربة كفاح خاضتها الروائيات السابقات لخلخلة الواقع الذكوري، ولفرض صوتهن النافر والناقد للمجتمع. وقد وفرت التيارات اليسارية لهن غطاء للتحرك، ومعظمهن كنّ يساريات أو قريبات من اليسار. ولكن اليسار العربي لم يكن على أحسن حال، ولم يبرأ من أمراض المجتمع في النظرة إلى المرأة بشكل خاص. وبتأثير هذا اليسار تكرست عندهن صورة البطل (الفحل)، والمرأة تابعة له ومعجبة به، وتجلى ذلك في كتاباتهن التي إن بدت جريئة أحياناً، لكنها ظلت تدور في فلك ردود الفعل والتحدي للذكورة من موقع التضاد أو التناظر بين (الذكورة والأنوثة). وفي مثل هذه الحالة تكون الغلبة للأقوى، وهو الأقدر على فرض شروطه. ووفق ذلك تم التعامل مع كل روائية على أنها (أنثى) لعوب أو مشاكسة، كما هو الأمر عند ليلى بعلبكي وغادة السمان، أو مسترجلة (كما أطلق على نوال السعداوي)، ولكن فيما بعد أنصف النقد الروائيات. ويرى عزيز العظمة، أن ليلى بعلبكي وغادة السمان لم تنتجا خطاباً نسوياً بالضرورة، لكنه يؤنسن المرأة. واليوم ينظر إلى روايات نوال السعداوي على أنها جزء أساسي في مكونات الرواية العربية، وعلى أنها كانت الأكثر جرأة في تصوير معاناة المرأة جسدياً وعاطفياً في مجتمع تحكمه تقاليد وأعراف ذكورية.

ويشبه الغذامي دخول المرأة إلى عالم الكتابة، «بأنه أشبه بدخول قروية إلى المدينة لأول مرة، وهي مهددة بالضياع والخوف وفقدان الأمان..» ويرى أن المرأة عندما خرجت من ليل الحكي إلى نهار اللغة، كما حصل مطلع القرن العشرين وما قبله، تحول الجيل الرائد من الكاتبات العربيات إلى حكاية حضارية. وفي كثير من الأحيان تكون أحوال المرأة مقياساً للتقدم الحضاري. وترى الناقدة المصرية شيرين أبو النجا، أننا اليوم في زمن التلقي المتعدد الذي يصار فيه إلى إمكانية استقبال صوت آخر، يخلخل الرؤية المعرفية والمنظور المهيمن، ويسمح بدخول خطاب المرأة خطاباً أصيلاً من الهامش إلى المتن، حتى إن كان لا يستجيب للشروط الحالية المؤسسية السائدة (الذكورية).

جدل مستمر حول ثنائية: المذكر والمؤنث

يجمع النقاد الجدد على استخدام مصطلح (السرد النسوي) بديلاً عن الرواية الأنثوية، وذلك من أجل اختراق الحدين المتضادين للذكورة والأنوثة. إلا أن الناقد فيصل دراج، يرفض هذا المصطلح، ويرى أن القول بثنائية: (السرد النسوي/ السرد الذكوري) زائف المعنى لأنه يضع المرأة والرجل في حيزين اجتماعيين مختلفين، متناسياً أنهما أثر لعلاقات اجتماعية متجانسة، وأنهما يتعاملان، نظريا، في ممارستهما الأدبية مع مصطلح الإنسان، الذي لا يميز بين الذكر والأنثى. ويقول دراج: «إن رواية رضوى عاشور»: «قطعة من أوروبا» عمل إبداعي لا يحتمل التذكير ولا التأنيث... لكونها تفتح أفقاً جديدا للكتابة الروائية العربية». وبالعودة إلى المصطلح السابق، يقول دراج: «إن القول بالسرد النسوي لا يحمل من الفضيلة أشياء كثيرة، ذلك أن إبداع النص يقوم في تعدديته التي تنطوي على المذكر والمؤنث والمكان والزمان والطبيعة والمجتمع والتاريخ وعلى اللغة في مستوياتها المتعددة». ولكن لعبد الله الغذامي، رأياً مختلفاً، فهو يقول: «المرأة العربية إن كتبت، فهي تكتب وتبدع ضد نفسها، لأنها تتكلم بلغة الرجل وثقافته وتفكر بتفكيره»، ويرى أن غادة السمان، مثلاً، تقود كل معارك الرفض إلى موقع الاستسلام في مجازها القصصي، وهي والحالة هذه تغدو عاجزة عن تجاوز مملكة الفحولة، وغير قادرة على تأنيث المكان والذاكرة. ويدعو الغذامي لتأسيس قيمة إبداعية للأنوثة (النص الأنثى) تضارع الفحولة، من خلال كتابة تحمل سمات الأنوثة، ومحملة بطاقة الخصب والقدرة على التوالد. وترفض الناقدة شيرين أبو النجا التمييز الجنسوي الذي يكرس مفهوم الخصوصية والاختلاف في كتابة المرأة، وتدعو إلى كتابة حديثة تغذي فكرة التلقي المتعدد الذي يرفض الأحكام المسبقة والجاهزة.

وتشارك الروائيات في هذا السجال حول جنس الكتابة، ففي حوار للروائية سلوى بكر، تقول: «أنطلق من ضرورة البناء في المجتمعات العربية وفق قاعدة الشراكة، وليس وفق ما هو سائد من أحادية.. يجب ألا يظل المجتمع العربي يسير على قدم واحدة، وهي قدم الرجل، وأحياناً أرى أنها عرجاء».