تشكيل صورة الشرق في الإعلام الغربي

«تغطية الإسلام» لإدوارد سعيد في ترجمة عربية

TT

موضوع الكتاب يأتي ضمن سياق واسع جدّاً ينطبق فيما ينطبق على أية ظاهرة تاريخية أو دينية أو اجتماعية تتعرض للتشويه المقصود والتسطيح المشغول عليه بعناية وهدوء. إنه يبحث في المشروع المعرفي الأمريكي عموماً، والغربي ضمناً، لجهة الشرق والعرب والمسلمين بشكل خاص.

ليس هذا الكتاب دفاعاً عن الإسلام، وإن كان مؤلفه قد فعل ذلك كثيراً وعلى أفضل ما يكون، عن الإسلام.

دمشق: فيصل خرتش

إنّ أول ما يكشف عنه «تغطية الإسلام» وأهمه هو بنية الإعلام الأمريكي وتركيبته المعقدة وآلية عمله المركبة، ويحيل القارئ إلى مؤلفات مهمة بحثت في طبيعة المشروع الغربي وحللت مكوناته وقواه الرئيسية المقررة، ومن أهمها مؤلفات الدكتور الياس شوفاني والدكتور عبد الوهاب المسيري وتشومسكي. ولعل مؤلفات هؤلاء المفكرين تعين القارئ على المزيد من الاستيعاب لما يطرحه ادوارد سعيد في «تغطية الإسلام».

ينطلق د. سعيد من الإعلام الأمريكي ودوره في تشكيل البنية المعرفية الأمريكية عامة وتجاه الشرق بشكل خاص، ماراً في أروقة البحث الإسلامي الأمريكي والباحثين والخبراء الأكاديميين ومراكز بحوث الشرق أوسطية، محللاً ومشرحاً بأمثلة مسهبة مطولة وواضحة، آلية عملها وأسلوبها ودورها في التصدي لهذا المشروع الضخم الناجع حتى الآن، ويكشف عن توزيع الأدوار بين الباحث وقوى المجتمع الأمريكي المسيطرة والتناغم بينهما، ليحط آخر المطاف على مدارج فرضيته النقدية التي تتناول المعرفة والتأويل والمعرفة والسلطة.

ويكشف د. سعيد عن وضع الباحث الأمريكي فاتحاً أمام القارئ مجالات رحبة لوعي الآخر والابتعاد عن تهويمات آن للعربي وللمسلم أن يتخلى عنها، فثمة تواطؤ ضمني بين الباحث وصناع القرار الأمريكيين من حكومات وشركات عابرة للقارات، وثمة عقيدة مهنية صارمة مفصّلة على مقاس المصالح الأمريكية يتوجب على الباحث والإعلام الإعلامي أن يلتزم بها وأن ينقاد إليها، مستعيضاً بها عن وعي مسبق بمقتضيات البحث والتأويل الأصليين. ومن هنا يتابع د. سعيد: نجد أن هيمنة صورة الحدود الإسلامية ومعابثة الحريم والمسلمين، فثمة تعريف اجتماعي أمريكي لما هو مهم أو غير مهم لجهة الخبر (الشرقي) وعليه يجري استبعاد أية دراسة جادة تحاول تناول الشرق بصورة موضوعية.

في بحث معنّون بـ«الفرضية» يتناول سعيد المعرفة والتأويل، وبعد تعريفه لهما ينتقل باحثاً في المعرفة وعلاقتها بالقوة ومن ثم علاقتها بالسلطة ليلج بعدها موضوعة «الغرب وتأويل الإسلام»، التي يصفها بأنها سياسة وليست معرفة، تحركها المصلحة والذرائعية، وأنها مليئة بالإشكالات المنهجية المرتبطة بدراسة التاريخ أو تحليل النصوص، وهو ما يدعوه بـ«مصادرة الوعي لعِلم مناهج البحث».

فتحصيل المعرفة عن المجتمع الإنساني، يستوجب تحقيق شرطين ينطلق منهما د. سعيد تجاه بسط «فرضيته»: الأول شعور الباحث بالمسؤولية تجاه الثقافة والناس، وأن يكون اتصاله معهم غير قسري، والثاني: أن تعتمد عملية التأويل على النشاط المقصود والإرادي للعقل البشري الذي يقولب مواضيع اهتماماته ويشكلها بعناية وتروٍّ، والذي يكتسب منزلة المعرفة عبر وسائل متنوعة، بعضها فكرية وأكثرها اجتماعية بل وحتى سياسية.

ويعتبر ادوارد سعيد أن صورة الإسلام التي ترسمها دوائر هؤلاء الخبراء «المحلفين» تحتكر تغطية الإسلام إعلامياً ومعرفياً على هذا الأساس، عوضاً عن إيضاحه وشرحه، مستخدمة في ذلك بدعاً وتشكيلات من المعلومات المحدودة المقيدة الساكنة التي لا تمثل الحالة الحقيقة لواقع الإسلام المتشعب المتحرك المتغير والمتطور. وبناء على الأمثلة الحية في مجال الصحافة والإعلام والبحث الإسلامي الأمريكي ومؤسساته، ادوارد سعيد وجهاً لوجه أمام واقع هؤلاء الباحثين الذين وضعوا عقولهم وفكرهم في خدمة السلطة، بدلاً من أن تكون في خدمة النقد والمجتمع والحسّ الأخلاقي، والأهم في خدمة الحقيقة والمعرفة والموضوعية.

لقد حاول ادوارد سعيد تحليل كل دراسة وبحث وخبر روّجت له المؤسسات البحثية الأكاديمية والإعلامية الضخمة لتظهير السبب الحقيقي وراء تلك الدراسات والمقالات والبرامج المقدمة للقارئ والمشاهد الغربي الأمريكي، كي تساهم عن عمد وتصور مسبق في تشكيل قناعاته وأفكاره وتنميطها حول المنطقة «الشرق»، الذي أريد عبر التاريخ أن تكون تغطيته خاضعة للإرادة المتنفدة الاستعمارية، لتبرير عمليات الغزو والنهب، على يد تلك الإدارات التي غذت ووفرت ووجهت آليات العمل البحثي والصحافي دائماً لتصب في مصلحتها. وعبر دراسة علمية هادئة، استخدم فيها جملة من الأساليب والأدوات التفسيرية التي اعتمدها بعيداً عن التحليل البنيوي والوظيفي الذي يعاني من المحدودية، فخرج عمل د. سعيد محققاً وعلى نسق متكامل، فضلاً عن «الفرضية» الأصلية التي قدمها في الفصل الأخير والتي يمكن اعتبارها استكمالاً إبداعياً لعمل العديد من المفكرين والباحثين اللغويين والنقاد في تقديم أساليب وطرق عن كيفية البحث لتحصيل المعرفة فيما يخصّ المجتمعات الإنسانية.

إن كتاب «تغطية الإسلام» يقدم آلية عمل الإعلام ودوره في تشكيل الرأي العام في الولايات المتحدة، وأسلوب عمل مراسليه الذين يؤدون دوراً فعّالاً وحيوياً يخدم مصالح الإدارة والشركات الاحتكارية الكبرى، التي تبحث دائماً عن أمثل الطرق وأنجعها لتظهير سياستها وتبريرها أمام شعب تعمّد معرفته كلية تقريباً على الإعلام والصحافة دون مصادر المعرفة الأخرى لجهة وعي الآخر، وهو مسلّم زمامه تماماً لتلك الوسائل التحليلية، وذلك عبر العديد من الأحداث والأمثلة المعاصرة التي غطاها الإعلام الأمريكي والغربي (الثورة الإسلامية في إيران مثلاً)، لتبيان حقيقة وأهداف العمل الذي يؤديه الإعلام للتغطية على الإسلام وليس لتغطيته.

يمكن اعتبار «تغطية الإسلام» أيضاً، مرجعاً مهماً في العمل الصحافي وعملية تأريخ موضوعية ودراسة مقارنة في العمل الإعلامي، هدف المؤلف من خلاله، إلى التوصل لصيغة تنشد تحصيل المعرفة العلمية الحقيقية التي تخدم الإنسانية بعيداً عن المصالح الحزبية والأهواء السياسية والأيديولوجية مدفوعة الثمن.