يروي خروتشوف زعيم الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي السابق، ما بين 1953 ولغاية 1964 والذي تنسب إليه إصلاحات فكرية تخص محاربة الجمود العقائدي والاستفراد بالحكم، وأحد أهم الذين وقفوا ضد العدوان الثلاثي على مصر، في مذكراته الشفوية المسجلة على شريط، وترجمها السوري غياث الموصلي (حمص ـ 2006) جانبا من مجازر ستالين وسياسة الاتحاد السوفياتي في فترة عريضة دون ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة، ومع طلب الغفران من الأجيال اللاحقة على أخطاء تطبيق الاشتراكية اللينينية.
ولد الاوكراني خروتشوف (1894 – 1971) لأحد العساكر في الجيش، وأبدى في طفولته كراهية لمادة اللاهوت بسبب قسوة مدرسها. عمل في صباه في خراطة الحديد وسمع عن الاقتصاد السياسي وقرأ باكرا الصحف البلشفية مثل زفيزدا وبرافدا اللتين كانت تخطفان من الأيدي. واشتهر كمتحدث بارع بين العمال، ثم انتسب للحزب عند قيام الثورة وارتقى في المناصب الحزبية بسرعة.
خيانة ستالين
يعتقد خروتشوف ان ناديجدا سرغيوفا اليليوفوفا زوجة ستالين الثانية انتحرت في 1932احتجاجا على خيانة ستالين الزوجية مع زوجة جوشيف الجميلة التي كانت برفقته في بيت فورشيلوف. وعرفت ناديجدا المعلومة من حارسه فلاسيك المعروف بإخلاصه لستالين وبساطته ايضا. العلاقة بين الزوجين كانت سيئة، وكثيرا ما كان ستالين المخمور يروي احتجاجات زوجته التي تهدده بتقديم شكوى فيه، قائلاً: لمن ستشكين فترد: للطباخ!
ونعرف من المذكرات، كيف تحولت الانتخابات منذ عام 1937 إلى تعيينات تحددها الاستخبارات، ونعرف الشيء الكثير عن الاغتيالات أيضاً. فقد اغتيل كيروف من قبل نيكولاييف الذي اختفى ايضا، واختفى صديق كيروف مدفيد كذلك، ويرجع سبب اغتياله إلى ان كيروف كان محبوبا في صفوف الحزب. بعدها قام «مفرمة اللحم» ستالين بتطهيرات واسعة في الحزب مكنته من التخلص من «زهرات المجتمع السوفياتي» مثل المارشال توخاتشيفسكي وياكيرا وابوريفتش وكوساريف وتشوبارو اعضاء الكومنترن البولوني بتهم مختلفة، اما بالتعاطف مع التروتسكيين، أو بالتآمر مع الأعداء. ويذكر مآسي تطهيرات أوكرانيا التي كانت سببها امرأتان «مخبولتان» هما نيكولايوفنا وميشكوفا اللتين نددتا بأعداء الشعب بتحريض من الصحافة الرسمية المتواطئة! فأعدم جيل كامل من «الرفاق» المؤسسين. مات ستالين تاركا مليون مخبر ملأوا السجون بالأبرياء وألوف الضحايا بينهم نخبة اليهود الذين كان يكرههم.
ستالين عسكريا
يقدم خروتشوف معركة كورسكا نموذجا على غباء ستالين العسكري. ففي عام 1942، زجِ بالقوات في كورسك على العكس من خروتشوف الذي كان يعتقد ان القوات الألمانية ستجتاح موسكو وتتجه إلى القفقاس، من جهة أخرى وفعلا حصل ما توقعه خروتشوف وتم أسر آلاف الجنود الروس. لاحقا اقر ستالين بأهمية رؤية خروتشوف فدعمه، وقوّى جبهة خراكوف لكنه لم يكن يتمتع بفضيلة الاعتراف بخطئه مما أدى إلى إطالة الحرب سنتين وخسارة ملايين الجنود. أكثر ما كان خروتشوف يتضايق منه زمن الحرب إلى درجة التقزز هو مشاركة ستالين العشاء الذي كان ينتهي بسكر ستالين وقذفه الناعسين بحبات البندورة!
يتطرق خروتشوف إلى سبب تشكيل حلف وارسو 1955 وهو الرد على المناهضين للمنظومة الاشتراكية من خلال حلف الناتو الذي تكون عام 1949. كان مولوتوف (وزير الخارجية) يريد استبعاد ألبانيا وألمانيا الديمقراطية من الحلف لأسباب «ستالينية». وبذل خروتشوف جهدا كبيرا لإقناعه بعدم ترك هاتين الدولتين غنيمة للغرب. ويتطرق أيضاً إلى عقد السلام مع النمسا الذي علمهم فن التفاوض والى المشكل مع اليابان وجزر الكوريل (56 جزيرة) المحتلة. لكنّ رفض ستالين ـ الذي استمر تأثيره سنوات بعد موته ـ حضور توقيع صك استسلام اليابان افقدهم عامل المناورة للمطالبة بها، وضيع عليهم مكاسب كثيرة وعمقت العزلة عن العالم وأخرت تطور الاتحاد السوفياتي.
في العلاقات مع الحلفاء
يلوم خروتشوف ستالين على تسميم علاقة الاتحاد السوفياتي بيوغوسلافيا التي كان تيتو يقودها إلى إصلاحات جذرية دون الرجوع إلى ستالين الذي كان يريد الحلفاء أن يكونوا نسخة طبق الأصل عن الاتحاد، فما هو «جيد للاتحاد السوفياتي جيد للعالم»! وبدأ بإرسال جواسيس متخصصين إلى دول الحلفاء لاغتيال وتصفية كل الخونة. ويعترف خروتشوف بأنهم القوا بحقيبة دبلوماسية من الطائرة على الأراضي اليوغوسلافية لإرعابهم وقد فهموا الرسالة. وكان الاتحاد يدعم ألبانيا بالسلاح والأغذية والألبسة مجانا لكونها قاعدة جيدة للاتحاد في البحر المتوسط ولكن رغم هذا تحول الألبان إلى حضن ماو تسي تونغ. اما الرومان فلم يكونوا مخلصين مثل اليوغوسلاف والألبان إبان الحرب العالمية الثانية. ويبدي خروتشوف دهشته من الصناعات الرومانية المتطورة، لكن التعاون لم يكن متوازنا، ففي الحين الذي كان فيه الاتحاد بقرة حلوب للحلفاء، كان البلغار يصدرون زبالة البندورة إلى الاتحاد.
يتابع خروتشوف ذكر الحماقات السوفياتية مثل التدخل العسكري في المجر ضد «ايمره ناجي» وغزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968 وتخريب ستالين للعلاقات مع الصين لأنه لم يكن يثق بماو تسي تونغ.
ينبه خروتشوف إلى ضرورة تمتع الديمقراطيات الشعبية بثرواتها والحصول على العملة الصعبة، لكن ستالين لم يكن يتفهم حاجات الدول الأخرى ومصالحها وخصوصياتها. ويهجو ستالين لتخليه عن كيم ايل سونغ الذي شنّ حربا على كوريا الجنوبية لضمها، ولولا تدخل الصينيين في اللحظات الأخيرة من الحرب لانتهت كوريا الشمالية وهكذا خسر ستالين كوريا كما خسر من قبل يوغوسلافيا وألبانيا لصالح الصينيين. ويسخر خروتشوف من تفكير ماو السياسي الساذج وحبه لعبادة الفرد مثل ستالين وشعارات «القفزة الكبرى إلى الأمام ومساوئ تجميع الزراعة بدلا من حرية الاختيار في التنظيم الجماعي الذي نادى به لينين».
ويروي بحزن استقبال ستالين لهوشي منه الذي كان يريد من ستالين استقباله كرئيس دولة، بل انه بخل عليه برغبة شخصية هي توقيعه على نسخة من مجلة «البناء في الاتحاد السوفياتي»! بل انه خذل هوشي منه في إرسال مادة الكينين لمكافحة الملاريا المنتشرة في فيتنام والسبب انه لم يكن يثق في انتصار فيتنام على أميركا الجبارة التي ترعبه فألقى بها ايضا في حضن الصينيين.
كما يعود الى فكرة بناء جدار برلين التي اقترحها على والتر بريخت لمنع تسرب الأدمغة والأيدي العاملة إلى ألمانيا الغربية وإلى رحلة زرع الرؤوس النووية في كوبا كاسترو لحمايتها من أميركا ومن ثم تفكيكها بعد اتفاق مع كنيدي على عدم الاعتداء على كوبا.
أدباء وعلماء
يعرض خرشوف علاقاته وذكرياته عن علماء وأدباء مثل كروليوف، ويلوم نفسه لأنه شارك في محاربة رواية الدكتور «زيفاكو» لباسترناك التي حصل على نوبل للآداب عام 1958، واستسلامهم لتقرير لجنة الرقابة التي يرأسها سوسلوف. ولكنه يعتز بالطريقة التي اقنع بها الرفاق بالسماح برواية سولجنستين «يوم في حياة ابفان دينسوقيتش» التي تفضح الإساءات لفضح الإساءات التي حدثت للمثقفين والأبرياء في سجون ستالين، لكن ذلك لم يدم طويلا فقد جرد من جنسيته في عام 1974، وكذلك كتاب ذكريات الجنرال كورباتوف عن المنفى والمعتقلات، سولجنستين، كما يتذكر المشاكل التي حدثت مع كتاب كازاكوفيتش «الدفتر الازرق» الذي اتهم بأنه يصور لينين وصديقه زينو فيتش تصويرا مضللا. وبصعوبة اقنع خروتشوف، كما يذكر، منظر الحزب سوسلوف بأن الرواية تعود إلى بداية الثورة قبل ان يرتد زينو فيتش برجوازيا؟