تنويعات أكاديمية توزع خارطة المغرب

ظاهرة مجموعات مغربية للبحث في مجال الدراسات والأدب آخذة بالانتشار

TT

أصبح من الممكن الحديث اليوم، في المغرب، عن ظاهرة «مجموعات للبحث» آخذة بالإنتشار في مجال الدراسات والأبحاث الأدبية، ولو أن ذلك مازال يتم بطرق غير مؤطرة مؤسساتيا. ففي شمال المغرب (طنجة وتطوان والشاون) يهيمن اليوم البحث في «الصورة» تحديدا، بمختلف تجلياتها النصية ـ الأدبية والمرئية ـ السينمائية، على يد باحثين أضحوا متخصصين في هذا النوع من الدراسات والأبحاث الأكاديمية والنقدية. أما في وسط المغرب (فاس ومكناس)، فيهمن نوع آخر من البحث في «الجسد«، بما في ذلك هيمنة هذه الثيمة على مستوى مجموعة من النصوص الأدبية، كما أن معظم الباحثين في هذا المجال ينتمون إلى هاتين المدينتين، بما في ذلك انتماؤهم إلى مؤسساتهما الأكاديمية. أما في الوسط الغربي (الرباط والدار البيضاء) فيهيمن البحث في «الخطاب السردي» بشكل عام، في الوقت الذي يهيمن فيه البحث في «الأدب الشخصي» جنوب المغرب (أكادير)، دون أن يعني ذلك أن ثمة حدودا صارمة أو فواصل على مستوى البحث بين هذا المجال وذاك في هذه المنطقة أو تلك، حيث إن المتتبع فقط للإصدارات والدراسات المنشورة، والندوات المنظمة، ومجموعات البحث المحدثة هنا أو هناك (مجموعة البحث في الأدب الشخصي ـ مجموعة البحث في القصة القصيرة ـ مختبرالسرديات ـ مجموعة البحث في الأدب الحديث)، قد يتأكد له جانباً من الوضع الأدبي والنقدي القائم داخل هذا المجال الجغرافي والأكاديمي أو ذاك.

ويعتبر الباحث هشام العلوي واحداً من النقاد والباحثين المغاربة الذين ينتمون اليوم إلى مجال البحث في موضوعة «الجسد» بشكل خاص، فقد صدر له كتاب جديد بعنوان «الجسد والمعنى: قراءات في السيرة الروائية المغربية» (عن شركة النشر والتوزيع المدارس2006). ويبدو للوهلة الأولى أنه كتاب يحاور الكتابين السابقين للمؤلف نفسه: «الجسد بين الشرق والغرب»، و«في قبضة الثقافة»، كما يحاور طروحاتهما ويطور تصوراتهما حول قضية «الجسد» وتمثلاتها في الثقافة والأدب، باعتبارها كتباً تشكل جميعها إضافة نوعية إلى الأبحاث القليلة في ثقافتنا النقدية التي اشتغلت على ثيمة «الجسد» في الثقافة والأدب بشكل عام، في محاولة من الباحث إعادة تمثل هذه الثيمة والكشف عن تجلياتها وتكويناتها ومعانيها ودلالاتها المختلفة في الثقافة العربية والإسلامية والغربية، من منطلق وعي نقدي متحرر لدى الباحث العلوي بمقولة «الجسد»، تمكن من امتلاكه وتطويعه من جراء اتساع إطلاعه على إشكالية الجسد في الفكر الغربي، وعلى المحاولات العديدة لمفهمته وموضعته وتشخيصه في حقول الفلسفة وعلم الجمال والنقد الفني.

وتبرز بعض جوانب امتلاك الباحث وتمثله لمقولة «الجسد» في كتاب «الجسد والمعنى»، انطلاقا أيضا مما يكشفه عنه هذا الكتاب من إمكانات معرفية ونظرية ونقدية وتحليلية خاصة في تمثل الموضوع ومقاربته، كما يحسب له كذلك انتصاره للأفق السردي المغربي، ومراهنته على إبراز إمكاناته السردية والتخيلية والشعرية والدلالية، في أبعادها ومكوناتها المختلفة.

يقع كتاب «الجسد والمعنى» في 136 صفحة من القطع الكبير، ويشتمل على تقديم ومدخل وأربعة فصول، يقارب فيها الباحث أربعة نصوص سردية مغربية («الخبز الحافي» لمحمد شكري ـ «لعبة النسيان» لمحمد برادة ـ «دهاليز الحبس القديم» لحميد لحمداني ـ «مسالك الزيتون» للميلودي شغموم)، وتشكل متناً متنوعاً وملائماً لقراءة ثيمة «الجسد» فيها، بالنظر إلى استجابتها الجمالية والتعبيرية والدلالية لمقولة «الجسد».

ويتوسل الباحث في تناول هذه الثيمة منهجاً تحليلياً تبناه في أبحاثه وكتاباته، هو «المنهج الموضوعاتي» تحديداً، على اعتبار أن الموضوعاتية هي الإحاطة الأقدر على الجمع بين البعدين المضموني والشكلي، والأنسب للاشتغال على عالم المعنى من غير أن تصادر القدرة التوليدية للنص والجهد التأويلي للقارئ (ص9).

ويحرص الباحث، في مدخل كتابه وخصوصا في بداية كل فصل تحليلي، مطارحة السؤال الأجناسي على مستوى كل نص على حدة، من منطلقات مختلفة، يتداخل فيها البعد النظري بالمكون النصي بالنص الموازي، لكنها تبقى مع ذلك منطلقات متجانسة تكشف عن نجاعة المقاربة التحليلية في هذا الكتاب، بناء على تبني مفهوم «السيرة الرواية».

ومن شأن المتتبع لأبحاث العلوي أن يدرك، للوهلة الأولى، أنه يشتغل في إطار مشروع فكري ونقدي بقي وفيا له ولديناميته في التحليل والمقاربة، كتابا بعد آخر وبحثا بعد آخر.

وتكمن أهمية هذا المشروع النقدي حول مقولة «الجسد» بشكل عام في اشتغاله على المتن الأدبي المغربي تحديدا، وخصوصا اشتغاله على نصوص سردية تنتمي في مجملها إلى مجال «التخيل الذاتي»، من منطلق اعتبار معظم النصوص السردية المغربية تستعصي على الانتماء إلى الأصناف الجاهزة، ومن ثم، فإن مفهوم «السيرة الروائية»، كما يضيف الباحث، هو «الوعاء الملائم والقادر على احتواء هذه الهجانة، وهذا التنطع». (ص 6).

يقارب الباحث في كتاب «الجسد والمعنى» النصوص السردية المذكورة في ضوء ثلاثة أسئلة مغايرة، تتجاذب مباحث هذا الكتاب ورهاناته: «السؤال الأجناسي» و«السؤال الثقافي» و«السؤال المنهجي»، ينضاف إليها سؤال رابع حدده الباحث في «السؤال النقدي»، باعتباره سؤالا ضمنيا متخللا بين ثنايا الكتاب.

ورغم أن الثيمة المبحوث فيها في هذا الكتاب، على مستوى النصوص الأربعة، هي ثيمة واحدة (الجسد) فإن طرائق التحليل وعناصره ونتائجه جاءت متنوعة من نص لآخر ومن فصل لآخر أيضا، بشكل تبرز معه أهمية النصوص السردية المقروءة وتنوع عوالمها واتساع فضاءاتها التخيلية وتعدد رموزها وعلاماتها وأسئلتها وخصائصها من ناحية، وتنوع زوايا قراءاتها بحسب مستويات تلوينات مكون «الجسد» ووظائفه فيها، في ارتباطه بأبعاد ومقولات موازية، في محاولة من الباحث تمثل تجلياتها ووظائفها وسبر أغوارها وإدراك عوالمها الإبداعية، وفهم جماليات الجسد في تلك النصوص، من منطلق اعتبار «الجسد»، هنا، مدخلا ملائما أيضا لفهم النص السردي والكشف عن أبعاده الجمالية والتعبيرية.