بودلير أمام محاكم باريس

كان يحدث عندهم كما يحدث عندنا الآن

TT

مضى العهد الذي كان فيه كتْاب فرنسا وعموم أوروبا يقدمون الى المحاكم، كما يحصل الآن في مصر مثلا أو في انحاء شتى من العالم العربي والاسلامي. فحرية التعبير والنشر اصبحت مضمونة في المجتمعات التقدمية المليئة بالحريات. ولكن يكفي ان نعود في الزمن قليلا الى الوراء لكي نجد ان الوضع عندهم كان يشبه الوضع عندنا حاليا. قلت قليلا وكان ينبغي ان أقول قرنا ونصفا من الزمن، فهذه هي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. فرواية فلوبير «مدام بوفاري» قدمت الى المحاكمة قبل ديوان بودلير «ازهار الشر» بشهور معدودة. ولم ينجح الروائي الفرنسي الكبير من العقوبة الا بعد تدخل الأميرة «مايتلد» أخت الامبراطور نابليون الثالث. ولكن حظ بودلير كان أقل لأنه لم يستطع ان يجد شخصيات كبرى تحميه، فدفع الثمن. في الواقع ان بودلير كان يعرف انه خرج على الخط المألوف وانتهك المحرمات الاجتماعية والدينية في هذا الكتاب. والدليل على ذلك انه تردد في نشره سنوات طويلة. فهو ثمرة خمسة عشر عاما من الكتابة الشعرية المضنية والمتواصلة. انه حصيلة عمره في الواقع. فهو لم ينشر ديوانا آخر غيره باستثناء قصائد نثر صغيرة.

وبعد ان نشره عام 1957، أي قبل قرن ونصف القرن من الآن تقريبا، تردد في ارسال نسخة منه الى امه خوفا من ردود فعلها. فقد كان يعرف انها بورجوازية محافظة أو كاثوليكية متدينة ولا تقبل بالخروج على الخط العام ابدا. كان يهمها جدا احترام المجتمع لها ورضى كاهن الكنيسة عنها، وكان هذا الكاهن يعتبر ابنها بمثابة الشيطان، لا أكثر ولا أقل..

ولكن بودلير كان يعرف انها ستسمح عاجلا أو آجلا بظهور ديوانه، فلم يكن له مفر من استباق الامور وارسال نسخة لها على مضض. ثم أرفق النسخة برسالة تبريرية جاء فيها: «انتِ تعلمين اني اعتبر الادب والفن شيئا، والاخلاق شيئا آخر ولا علاقة بينهما، وبالتالي فيكفيني كشاعر جمال التصميم والاسلوب. ان عنوان هذا الكتاب «ازهار الشر» يلخص كل شيء. انه مكسو بجمال كثيب وبارد. وقد كتب في جو من الهيجان المسعور والصبر الطويل. وهو يضع الناس، اذا ما قرأوه في نوع من الهيجان المسعور ايضا. ثم يعطيها بعض النصائح لكيلا تظهر الكتاب أمام جيرانها البورجوازيين المليئين بالأحكام المسبقة والامتثالية الاجتماعية. ولكنه سمح لها بأن تظهر الكتاب أمام الخوري قائلا: «اما فيما يخص الخوري الذي اعرف انك تستقبلينه في بيتك، فبامكانك ان تريه الكتاب. سوف يعتقد حتما بأني شخص ملعون ومهان دينيا، ولكنه لن يجرؤ على أن يقول لك ذلك..». ثم يختتم رسالته قائلا: «هناك اشاعات مبثوثة تقول بأني سوف ألاحق بسبب هذا الديوان. ولكن هذه أوهام لا أساس لها من الصحة. فالحكومة المشغولة بانتخابات باريس الهامة جدا لن يكون لديها الوقت الكافي لكي تلاحق شخصا مجنونا مثلي..».

في الواقع ان بودلير كان هو الواهم، فالاشاعات كانت صحيحة ومحاكمته أصبحت على الأبواب! وقد ابتدأت كالعادة بالحملة الصحافية ضده وضد كتابه (هذا ما يحصل في مصر ايضا. فالحملات الصحافية تسبق المحاكمات..). في جريدة «الفيغارو»، اعرق الجرائد الفرنسية، كتب أحد النقاد يقول: «اذا كان مسموحا لشاعر في العشرين من عمره ان يعالج مثل هذه الموضوعات الخلاعية والمهرطقة، فإنه لا يحق لشخص تجاوز الثلاثين ان يطلع علينا بمثل هذه الحماقات..». من المعلوم ان بودلير كان في السادسة والثلاثين عندما أصدر ديوانه. ولم يدينوا الديوان كله، وانما فقط القصائد التي تتعرض لموضوعات دينية مسيحية أو لموضوعات جنسية، وهي لا تتجاوز الخمس أو ست قصائد في الديوان كله. وفي جريدة بروكسيل قال أحدهم: «ان مدام بوفاري»، تلك الرواية الشائنة، تعتبر بمثابة كتاب مليء بالتقوى بالقياس الى ديوان هذا الشخص الخليع المدعو شارل بودلير!..». ثم وصل تقرير سري الى الادارة العامة للأمن العام (أي وزارة الداخلية والمخابرات بلغتنا المعاصرة) يقول: ان «أزهار الشر» تشكل تحديا للقوانين التي تحمي الدين والأخلاق.

هكذا انطلقت الحملة من كل الجهات واصبحت الاعاصير والعواصف تحوم حول رأس بودلير. فكتب رسالة مستعجلة الى ناشره ينصحه فيها بأن يخبئ جميع النسخ بأقصى سرعة ممكنة، ويلومه لأنه ارسل نسخة الى جريدة «الفيغارو» لكي تتحدث عنه!. والواقع ان أصدقاء بودلير الخلّص كانوا قد نزلوا الى السوق وجمعوا كل النسخ لكيلا يشتريها أحد. ولكن الديوان راح يباع عندئذ في السوق السوداء وبأسعار مضاعفة. وهذا ما يحصل عادة لمعظم الكتب التي تمنع أو تلاحق رسميا أو تثار ضجة كبيرة حولها. وعندما شعر بودلير ان الأرض اخذت تهتز تحت قدميه شعر بالهلع والجزع وكتب رسالة يستشفع فيها رئيس الوزراء: «يا سيدي، اني لا أشعر أبدا بأني مذنب. على العكس، فاني فخور جدا لأني ألفت كتابا تُشْتَمّ منه رائحة الخوف الشديد من الشر. وبما انك حامي حمى الآداب والفنون، فأرجوك يا سيدي أن تخلع عليّ حمايتك..»، لكن بالطبع لم يول رئيس الوزراء أي اهتمام لمشكلته، وأحال الأمور كلها إلى وزارتي الداخلية والعدل.

ولكن ماذا كان موقف المثقفين من هذه الورطة التي وقع فيها بودلير؟، هل تضأمنوا معه، أم تخلوا عنه وتركوه يدبّر أمره بنفسه؟.. لقد انقسموا إلى فرق وشيع كما هي العادة دائماً، فهناك دائماً أولئك الذين يداهنون السلطة ويخشون مخالفتها ولو بشكل بسيط.. وهؤلاء لا يرجى منهم شيء كثير. وهناك المثقفون الكبار الذين يتمتعون باستقلالية ذاتية ولهم كلمتهم وهيبتهم عند الجمهور. من بين هؤلاء فيكتور هيغو وفلوبير نفسه. يقول له فيكتور هيغو في رسالة بعثها إليه منفاه الذي أجبره عليه نظام نابليون الثالث: «إن «أزهار شرك» تشعّ على العالم كالنجوم.. استمرْ على ما أنت عليه.. إني أصرخ «برافو» لك بكل قوة.. إني معجب بروحك الوثابة الجريئة. لا يمكن للنظام الحالي أن يقدم لك وساماً أفضل من هذا الوسام.. إن إدانته شرفٌ لك.. لقد أدانتك عدالته باسم ما يدعوه بالأخلاق، وإدانته هذه تاج يوضع على رأسك. أشدّ على يديك بكل قوة، أيها الشاعر!».

هنا تتجلّى عظمة فيكتور هيغو، فبدلاً من أن يشعر بالحسد أو الغيرة تجاه شاعر جديد صاعد في الساحة قد ينافسه، نجده يتضأمن معه بكل قوة، ينبغي القول بأن هيغو كان آنذاك في أوج مجده، وبودلير لا يزال في بداية طريقه الطويل إلى الشهرة والمجد. وهي شهرة لن يستمتع بها حقيقة إلا بعد موته. لكن هل كان فيكتور هيغو يعرف أن هذا الشاعر الشاب الذي يعتبر بعمر أولاده، سوف ينتصر عليه لاحقاً أمام محكمة الشعر؟، أشك في ذلك كل الشك، لكن على الرغم من هذا، فإننا لا نملك إلا أن نعجب بموقف شخص كبير كفيكتور هيغو، وأن فلوبير الذي ذاق طعم الملاحقات سابقاً، فكتب له رسالة تضأمن يقول فيها: «ضعني في صورة الأحداث، إذا كان ذلك لا يزعجك كثيراً. إني أتابع قضيتك وكأنها قضيتي الشخصية. هذه الملاحقة لا معنى لها، إنها تثير غضبي واستفزازي، إنهم يتهمونك بالمسّ بالمقدسات والأخلاق.. يا له من جهل!».. وأما الناقد الكبير «سانت بيف»، الذي كان بمثابة استاذ لبودلير وجيله، فإنه قدم له بعض النصائح لكي يوصلها لمحاميه من أجل المرافعة والدفاع، ومن بين هذه النصائح هو أن الشعراء الذين سبقوه تناولوا كل الموضوعات النبيلة، وبالتالي فلم يتبق لبودلير إلا أن يتحدث عن موضوع الشر!، وهذا عذر أقبح من ذنب.. فسانت بيف يعتقد أن لامارتين احتكر شعرياً موضوع السماء والأعالي. وأما فيكتور هيغو فاحتكر موضوع الأرض وما هو أكثر من الأرض. وأما الشاعر «لابراد» فتحدث عن موضوع الغابات حتى استنفده. وأما الفريد دوموسيه فاستنفد موضوع الحب والمتع والأهواء الجامحة. وأما شعراء آخرون فتحدثوا عن موضوع العائلة، والحياة الريفية.. إلخ. وأما الشاعر تيوفيل غوتييه، فركز اهتمامه على اسبانيا وألوانها الزاهية.. وبالتالي فماذا بقي لبودلير لكي يتحدث عنه؟ وهل غادر الشعراء من متردم، أليس مضطراً لاختراع موضوع جديد لكيلا يكرر ما قاله أسلافه؟.. وبالتالي فهناك ظروف موضوعية تخفّف من جريمته.. ولا ينبغي على المحكمة أن تكون قاسية معه أكثر مما يجب.. لكن كل ذلك لم يشفع له في نهاية المطاف. ففي تاريخ 20 أغسطس (آب) من عام 1857، قدم شارك بودلير الى محكمة الجُنَح في قصر العدل بباريس.. وهي نفس المحكمة التي استقبلت قبله الزعران، واللصوص، والسكّيرين، والقوّادين، والعاهرات.. وهكذا عومل أكبر شاعر في تاريخ فرنسا وكأنه لص أو مجرم!.. لكن لحسن حظ بودلير فإن الاتهام ركز على «طبيعته النفسية القلقة وغير المتوازنة»، الشيء الذي أدى إلى تخفيف فداحة الحكم ضده، فلا أحد يعاقب المجانين. وأما محامي الدفاع فركز على الأطروحة القائلة بأن «التحدث عن الشر لا يعني الموافقة الإجرامية عليه أو التعاطف معه». فبودلير يريد تشريح الشر والكشف عن تجلياته ومظاهره لكي يتحاشاه الناس، وهناك كتّاب كبار قبله تحدثوا عن موضوعات لاأخلاقية دون أن يقدَّموا للمحاكمة، نذكر من بينهم: فولتير، جان جاك روسو، بلزاك، لامارتين، جورج صاند، الفريد دوموسيه.. إلخ، فالأدب لا يستطيع أن يهمل مسألة الشر، وإهمالها لها لا يعني أنها غير موجودة، أو سوف تختفي عن الأنظار، فهذا موقف يشبه دفن الرؤوس في الرمال كالنعامات. وبودلير أراد أن يواجه المسألة وجهاً لوجه، لا أن يشيح عنها البصر. فالشر موجود في العالم شيءنا أم أبينا، وأزهاره تتفتح كل يوم تحت سمعنا وأبصارنا، فلماذا نخادع الحقيقة والواقع؟ لماذا هذه المغالطة؟.. وفي النهاية حكم على بودلير بدفع ثلاثمائة فرنك فرنسي، وهو مبلغ ضخم بقيمة ذلك الزمان. وبما أنه مفلس كمعظم الكتّاب والشعراء، فإنه استأنف الحكم، وقبلوا بتخفيض المبلغ إلى خمسين فرنكا فقط!، كما وحكم على الناشر بدفع غرامة مالية تصل إلى مائة فرنك. وأمرت المحكمة كذلك بحذف القصائد المدانة، وهكذا نشر الديوان مبتوراً. هذه هي قصة ديوان «أزهار الشر» الذي يعتبره الفرنسيون الآن مفخرة آدابهم. ولكن من كان يعلم آنذاك ان هذا الديوان سوف يصبح لاحقا اشهر دواوين الشعر الفرنسي؟ ربما بودلير وحده كان يحس بذلك، ولكنه حتما لم يكن يعرف حجم الضربة التي ضربها او الخرق الذي احدثه في تاريخ الشعر الفرنسي وربما العالمي. فهذه اشياء لا يمكن ان تفهم في وقتها، وانما يلزمها زمن طويل لكي تنضج وتتفتح في الواقع ان الشيء الذي يجذب في قصائد بودلير ويصدم في ذات الوقت هو عنف الموضوعات المطروحة وغرابتها. فقصيدته مثلا التي تحمل عنوان «جيفة» مرعبة وتثير القرف والاشمئزاز في ذات الوقت. لماذا؟ لأنه يتحدث فيها عن امرأة جميلة ماتت وأنزلوها في القبر تحت الصفائح الثقيلة وراح الدود يقرض جسمها كما يقرض الاحساس بالذنب ضميرنا!..

انها قصيدة قوية جدا، ولكن سوداوية الى حد لا يوصف وانا شخصيا شعرت بالقشعريرة عندما قرأتها. بالمقابل وبشكل معاكس تماما، هناك قصائد مشوقة ورائعة كقصيدة «نداء السفر» او «دعوة الى الرحيل». فهنا نلاحظ التناغم والانسجام سائدين في جو من الجمال. في الواقع أن الديوان كله من اوله الى آخره يقدم نفسه كاعترافات ذاتية لشخص مجنون يتأرجح باستمرار بين الظلمات/ والأنوار.. ولم يكن كتاب بودلير ديوانا محببا مصمما لكي يعجب الجمهور وانما كان عبارة عن سيرة ذاتية لاهثة لشخص مريض، ألم يدع ديوانه في بعض الاحيان بالازهار المريضة؟ انه شخص مريض يطمح الى الجمال والسمو، ولكنه يتخبط في القبح والبشاعة، شخص يريد الخير وينصاع الى الشر، شخص يحتقر نفسه، ويعبدها في آن معا. انه منطو على نفسه ويرفض الاندماج في العالم. وهذه التعرية الفجة للمهاوي السحيقة للذات البشرية هي التي أرعبت معاصري بودلير وجعلتهم ينفرون منه او يرون فيه شخصا شيطانيا خطيرا. فقراءته تشعرك وكأنك تشهد عملية جراحية كما يقول «هنري ترويا» في تحليل ممتاز. والانسان لا يجب ان يرى ذاته على حقيقتها بكل مهاويها، وشرورها وسقوطها الى الدرك الاسفل احيانا. الانسان يحب تجميل ذاته، أو الكذب على نفسه وتشكيل عالم مثالي يختلف عن العالم الواقعي. وبودلير اراد ان يعبر عن الواقع كما هو، وهذا ما ازعج معاصريه ولكن فوق كل هذا الدم النازف او القيح والصديد، كم هو سام ورائع ذلك النور الوهاج؟!