بعين المصور الأميركي ارنولد نيومان الذي توفي أخيرا عن 88 عاما، يبدو الرسام اندي وارهول كما لو أنه شخص آخر. إذ يضيف نيومان الى وجه رسام الـ«بوب أرت» الشهير قناعا مستلهما من وجهه، لا يشبه أي قناع من تلك الاقنعة الوهمية التي كان مولعا بارتدائها في حياته. نيومان هو هكذا دائما، في جميع الصور الشخصية التي التقطها لمشاهير السياسة والثقافة في أميركا والعالم. حتى هيلا سيلاسي ديكتاتور الحبشة في ماضيها الامبراطوري القديم، تهبه عين نيومان ملمحا اسطوريا طارئا، يغلب عليه تناقض التساؤل الحائر وإنكار الحقيقة. كان لبابلو بيكاسو حصة الأسد من شغف نيومان بالوجوه المعبرة والمغيرة. استعراضية بيكاسو الوحشية وبريته لا تكفيان لتفسير ذلك الشغف، كان لدى الرسام الاسباني الذي كان مخترعا أصيلا قوة الثور وعناده في المضي قدما في اتجاه ما يخيف، وهو ما التقطه نيومان ليقدم من خلاله بيكاسو في صفته وحشا حزينا وعنيدا. نيومان الذي هو واحد من أهم كلاسيكيي التصوير المبدعين في عصرنا، ظل مقيما في معظم صوره، في المسافة التي تفصل بين الأسود والأبيض. وهي مسافة ملأها خياله بالأحلام الهادئة والعميقة في آن. وجه مارلين مونرو يطلع جانبيا من العتمة، ممتلئا برغبة حارقة في البكاء. مارلين هي الأخرى رآها نيومان، لا كما رآها الآخرون، لقد أعاد اليها جانبها الإنساني الذي غيبته صورتها الاعلامية كموضوع للتسلية الايروتيكية العابرة. بفضل فن نيومان نتعرف على ذلك الجانب الذي يمسنا بإشفاق وحنان لننسى الدمية الشقراء. تبدو جرأة نيومان واضحة أكثر في الصورة التي التقطها للموسيقي الروسي ايغور سترافنسكي. لقد ارتضى سترافنسكي أن يكون ممثلا ثانويا في صورة يفترض أنها تمثله شخصيا، فيما احتل البيانو الجزء الأكبر من تلك الصورة. ما فعله نيومان هنا لا يتعلق بالبلاغ الرمزي الواضح، وحسب بل وايضا بإنشاء الصورة التي تغلب عليها نزعة تجريدية تستخرج من الأشياء نغما يرتجله انبعاثها في الفضاء.
بدأ نيومان سيرته الفنية في سنوات مبكرة من أربعينات القرن العشرين، ولم يتوقف عن التصوير حتى نهاية حياته. وجوه أبطاله التي تطلع من عتمة صوره الواقعية تكشف عن رغبته الكامنة في أن يرينا عالما متخيلا، تكون فيه تلك الوجوه جزءا يسيرا من كون معرفي مضغوط في صورة. في امكان الصور التي يصنعها خيال نيومان أن تقول أشياء كثيرة، غير تلك التي نتوقعها. اما إذا كنا نجهل من تكون الشخصية التي تظهر في الصورة، فإن نيومان يضع بين أيدينا مفاتيح كثيرة تعيننا على حل اللغز. على سبيل المثال، فإن صورة الرسام الهولندي بيت موندريان تشبه إلى حد كبير الرسوم التجريدية ـ الهندسية التي كان يخترعها ذلك الرسام المتقشف والزاهد بالأشكال الفائضة. أما الرسام الاسباني خوان ميرو فقد صار في صورته الشخصية أشبه بتلك الايقاعات اللونية الساحرة التي كان يقذفها على سطح لوحاته. كان نيومان صارما مع موندريان فيما بدا مرحا مع ميرو. في حقيقته، فإن نيومان لم يكن يرغب في أن يصف الشخص بقدر ما كان يسعى إلى القبض على اسطورة ذلك الشخص واختبارها جماليا. وإذا ما كانت الصور التي التقطها الفنان الفرنسي نادار (1820ـ 1915) قد تحولت إلى نوع من الايقونات التي تؤرخ للحظات توتر خلاق عاشتها البشرية وهي تنتقل إلى العصر الحديث، فإن صور نيومان هي بمثابة تكريس لتلك التحولات العميقة التي طبعت شخصية عصرنا بعصف انفعالاتها. يبدو نيومان وريثا أصيلا وشجاعا لنادار لا من جهة إخلاصه للتصوير بالاسود والأبيض فقط، بل وايضا من جهة حساسيته المبكرة إزاء وقائع عصره التي يجسدها أفراد خصهم القدر بالريادة.
عام 1975 ينفرد نيومان بالرسام فرانسيس بيكون، ليسلط عليه ضوء مصباح وحيد فيما يظهر وجهه أسفل الصورة. كل لوحات بيكون يمكننا أن نراها في تلك الصورة، بالرغم من أننا لا نتعرف على أي من مفردات الرسام في لوحاته. وكما أرى فإن هذه الصورة تعبر بطريقة مثالية عن عمق الدرس الجمالي الذي تتركه صور نيومان في الروح قبل العين. في تلك الصورة يؤلف نيومان معجما يقدم من خلاله عالم الرسام بيكون مختصرا، لا يقدم رسومه بل يتقدم بخطوات مغامرة إلى هواجسه الخفية ليكشف النقاب عنها. التصوير هنا لا يحاكي بل يستلهم، ودور المصور لا يقتصر على ما يراه بل يتجاوزه إلى ما يشكل دافعا خفيا للنظر: البصيرة التي ترفع من شأن الحدس. ربما كانت صورته الشخصية تلك هي مصدر سرور له، بيكون الذي لا يسر النظر إلى لوحاته أحدا. ذلك لأن تلك اللوحات مثلما هي روايات كافكا تصر على أن ليس سوى الهاوية ما ينتظرنا. سرور بيكون يكمن سببه في شعوره بأن هناك من بني عصره، من استطاع أن يكتشف اسرار اللعبة كلها، وهي اسرار لا تمت إلى الاشكال بأية صلة. كانت صور نيومان أشبه بالنبوءات لعصر لم يكتمل بعد.