فرانسواز لالاند كاتبة بلجيكية بنعال من ريح

المرأة التي أعادت لوالدة أرتور رامبو اعتبارها وبرأتها من تهمة العدوانية

TT

لما التقيت فرانسواز لالاند، في بلجيكا، منذ سنوات خلت، لم أكن أعتقد أن مصائرنا ستتشابك من جديد في المغرب. هذه الكاتبة الفارعة الطول، الأنيقة، الدائمة الابتسام والصريحة إلى حد الصدام، تعتبر وجها أساسيا، يضيء الأدب البلجيكي المعاصر. نصوص روائية وقصصية وشعرية ومسرحية باهرة، تفرض على القارئ غابة كثيفة من المعاني لا يكفي أن تنحني لتلتقطها. من هي هذه المرأة الاستثنائية التي ارتبط اسمها بـ«مدام رامبو»، الكتاب الذي بيعت منه آلاف النسخ وأعيد طبعه مرارا؟ وأعادت فيه الاعتبار لهذه المرأة الحديدية التي صورتها السير كعجوز شمطاء نغصت حياة شاعر كبير، يجري بنعال من ريح هو أرتور رامبو.

ولدت فرانسواز لالاند في منطقة الأردين البلجيكية، في قرية «ليبرامون» في بيت جدها، والمكان يعبق برائحة بارود الحرب العالمية الثانية وعطلات الميلاد والصيف. «ولدت في بيت جدي لأمي، وعشت طفولتي في بروكسل. كنت طفلة هادئة، وحيدة وصامتة. كانت طفولتي عبارة عن هاوية سحيقة ملأتها فيما بعد بحبر الكتابة. كنت أشعر بنفسي مختلفة عن أبي وأمي وعن عائلتي الكبيرة». هذا التحليق على هاوية الحياة، هو الذي منح فرانسواز سر الكتابة المشاكسة التي لا تخشى في الحق لومة لائم. على مرمى حجر من الغابة السوداء (أردين تعني في الأصل الأسود)، سكنها صهيل الخيول الجامحة. خيول الكتابة المغايرة التي لا تساوم في أخلاقيات الكاتب. عملة نادرة هذه الأيام في سوق الأدب العالمي.

مراهقة على إيقاع صهيل الخيول

في مراهقتها، بدأت فرانسواز تفتح عينيها على صهيل الخيول الجريحة. نفس الصهيل الذي سيغذي، لاحقا، كتابتها لعقود. «عندما كنت طفلة، كنت مريضة، على الدوام. وبما أنني كنت ملزمة بالبقاء في الفراش، فقد كان أهلي يعطونني معجم «لاروس» المصور حيث كانت الصور تفتنني. ثم أخذت ألتهم كتب الصغار، فقرأت جاك لندن، والكونتيسة دو سيكور، والروايات التي كان أبطالها أطفالا وحيوانات تعاني. أعتقد أنه منذ نعومة أظافري، شعرت أن موضوع الأدب الوحيد هو معاناة البشر».

في الستينيات، عندما أنهت الكاتبة دراستها في جامعة بروكسيل الحرة في تخصص الفيلولوجيا الرومانية، رحلت إلى زائير. درّست هناك أطفال أفريقيا الشاحبة، ودافعت عنهم أمام صلافة الرجل الأبيض الذي كان يضعهم في مصاف الحيوانات. ألفت مسرحية «هبة أديل» التي لاقت نجاحا كبيرا في أحراش كامبوف. الأدب عصب المقاومة. مقاومة الأفكار الجاهزة والتفوق المزعوم للرجل الأبيض. بلجيكية تحارب بني جلدتها ببارود الكتابة الجذرية. نظمت الإضرابات وعرفت الموت عن قرب. فرق الموت أخطأت بابها لتأخذ عائلة بلجيكية أخرى إلى جحيم التعذيب الذي لا ينتهي. «لن أنسى أفريقيا أبدا. فيها لمست الموت بيدي. اقشعر بدني، لأول مرة عرفت ماذا تعني كلمة خوف، وقررت محاربتها بأظافري». تحكي حلكة الموت في مسرحية «ألما ماهلر»، وفي قصة «الموت المرتحل». كبرت الطفلة الآن، وعرفت طريقها إلى جحيم البشرية المفروش بالنوايا الحسنة.

عاد الطائر الزائيري، إذن، ليحط في عش بروكسل، ليحلق مرة أخرى نحو بوغوتا، في كولومبيا. أشرفت على رواق للفن التشكيلي. الفن ضد العنف اليومي. «أحببت هذا البلد بعنفه وفقره. وإلى يومنا هذا حافظت على بعض العادات الكولومبية. فعندما أسوق سيارتي لا أفتح نافذتها وأضع يدي خارجها. لأن ساعتك اليدوية يمكن أن تختفي في لمح البصر». في الإكوادور: «قضيت سنتين. كنت مكلفة بأطفال الهنود المهمشين. لما عدت إلى بلجيكا انخرطت في منظمة العفو الدولية لمدة سنوات لمحاربة الظلم الذي لا أطيق منظره»، ثم الولايات المتحدة الأميركية. الكتابة تقتفي أثر الأقدام التي عبرت سريعا خيال هذه الطفلة التي كانت مريضة، على الدوام. «في عزلة الطفولة، كنت دائما أحكي لنفسي قصصا كنت أنا بطلتها. وفي الحقيقة، لم أتوقف عن هذا حتى في كبري. أنطلق دائما من تراب المعيش وشرارة الأحداث التي تثلم حديد المجتمع، لأبني عالما روائيا». من تراب المعيش الأصفر، رسمت فرانسواز لالاند وجها إنسانيا لـ«مدام رامبو» التي صورتها المقررات المدرسية كأم عدوانية همها الأساسي قمع أبنائها. لكن من هي أم رامبو؟

الكتابة بالدم في لجج العتمة

هي فيتالي كويف، ولدت سنة 1825، في إحدى ضيعات منطقة الأردين. كانت امرأة بسيطة فقدت أمها في الخامسة من عمرها، وتحملت لوحدها مسؤولية تسيير ضيعة العائلة وتربية إخوتها. تزوجت سنة 1853 القبطان فريديريك رامبو الذي هجرها وترك لها أربعة أبناء أمانة في عنقها. مرة أخرى، تجد نفسها وحيدة في مواجهة مرارة العالم. ثم جاءت الحرب، وتمرد الأبناء، ولا سيما أرتور، ومرضت إحدى بناتها. كانت تقول إنها «منذورة لكل مآسي الدنيا». من غير فرانسواز يعيد الاعتبار لهذه الأم التي سحلتها الخطابات العلمية المدثرة بسم البطريركية؟ الكتابة؟: «ينبغي على الكتاب الذي نكتبه بدمنا أن يكون ضروريا. ولهذه الغاية، أغوص في أعماق كينونتي، في لجج عتماتي، لأنني أكتب الإنسان الشرير أحيانا وليس المثالي الذي يوزع الحلوى في الطرقات. لكن هذا لا يذهب ملح السخرية من نصوصي. تربيتي كانت على يد رامبو، بروست وجويس». ونعم التربية...

وتوالت الكتب. «كرستيان دوترومون مخترع حركة كوبرا»، سيرة لأحد كبار شعراء بلجيكا ومبدع حركة كوبرا التي قلبت الفن الأوروبي رأسا على عقب، ثم مبتكر الرسم على الجليد. «أنا أيضا لي حكاية»، «الرجل الذي أحب»، «ثنايا قلبي الليلية». قصص تنهل فيها فرانسواز من طفولتها البعيدة، ومن معدن الحياة الانسانية التي تعاني كائناتها من صدأ الوقائع العابرة. أسلوب يكتب بالنار على بؤبؤ العين. كتابة يرفعها أسلوبها الشعري إلى قامة الكتابات الأساسية العابرة للقارات اللغوية بقوة الدلالة والحياة. من دون أن ننسى كتابها الرائع «كانا يأتيان من الشمال»، عن رامبو وفان خوخ. توأمان جمعتهما شعرية الهامش والعبقرية المرتحلة. ماذا تقول فرانسواز عن أسلوبها الأدبي؟ «ما يصنع الكاتب هو الأسلوب. أسلوبي غاضب. نعم. ربما أنا غاضبة أمام حال العالم اليوم. جملي طاقات محرّرة. أكتب انطلاقا من النفس، والإيقاع، إذ لا أقع في حبائل السرد الخطي. ثمة فواصل هي عبارة عن رئات يتنفس منها النص. وبعيدا عنها تماما، أضع نقطة النهاية...». يجب ألا ننسى أن فرانسواز لالاند شاعرة أيضا. بدأت رحلتها بديوانين نشرتهما تحت اسم فرانسواز واتشينكو هما «الأرض المدخنة» و«السفير».

مع المغاربة وجدت عائلتي

في الرباط، تحافظ ابنة رامبو وبروست وجويس على عاداتها في الكتابة. الصباح محاربة الصفحة البيضاء. سواد الحروف يغطي بياض شاشة الكومبيوتر شيئا فشيئا كالنمل. ستنشر قريبا روايتها الجديدة. تحدثك عنها بخجل كأنها ستنشر لأول مرة. ثم تعود في الظهيرة لمتعة الكتب التي تنتظر دورها لتقع تحت بصر هذه الكاتبة الاستثنائية. تحدثك عن أحياء الرباط كأنها عاشت فيها منذ الأزل. أما زوجها الروائي دانييل سوال، المسؤول الثقافي لمندوبية والوني بروكسيل، فيدهشك بمعرفته السندبادية للمدن المغربية. عين الكاتب في عين العاشق. فماذا تعني لهذه الرّحالة مدينة الرباط؟ «روحي روح سندباد. عشت في الكونغو، وكولومبيا والإكوادور والآن في المغرب. لكني وقعت بدون مقدمات في حب الرباط. ليس لي تفسير عقلاني لهذا الأمر! لا أحب المغرب لشمسه أو لرفاهية الحياة فيه، بل لأن المغاربة فتحوا لي بوابة العالم العربي الذي لم أكن أعرف عنه أي شيء. عندما سأكتب عنه، بالتأكيد، لن أسقط في الفولكلور، بل سأكتب عن حقيقة سكان هذا البلد. في المغرب ومع المغاربة، عندي إحساس بأنني وجدت عائلتي الحقيقية». بالفعل، عندما زوجت فرانسواز لالاند مؤخرا ابنها البكر بفتاة مغربية دخلت مباشرة إلى شجرة أنساب الأسرة المغربية الكبيرة.

ـ آلو فرانسواز، هل ستحضرين لتقديم «رواية العلبة» السوداء لإدريس كسيكس، هذا المساء؟ ـ بالتأكيد، عزيزي. فرانسواز حاضرة دائما في متاهات الرباط. ندوات، توقيعات كتب، معارض لمنتوجات النساء القرويات، معارض تشكيلية. إنها سمكة في مياه المغرب الجديد الذي جعلها تنتبه إلى فتنة الثقافات العربية المنفتحة على المطلق. وتمضي بهدوئها المعتاد في مسالك الكتابة الحرة التي تريد أن تضيء بفانوسها ليل عالم، يخيم عليه عماء الجهل والظلم واستضعاف الكائنات الحقيقية الخارجة توا، من عتمات تاريخ متوحش، معمد بدم الأبرياء.