أميركا تباهي بافتتاح أكبر متحف في العالم

فنون تستعرض هجانتها وحصولها على «غرين كارد»

TT

الفن الأميركي له خصوصيته التي لا تشبه غيرها، والأميركيون الذين يعرفون ذلك جيداً، ويدركون أن هجانتهم هي سر اختلافهم، أرادوا أن يكون لهم متحف، يعكس شخصيتهم ومزاجهم وخلاصة تجربتهم، وتكون له الضخامة والأهمية التي توازي مكانة بلدهم. انه المتحف الأكبر في العالم ذاك الذي افتتح ابوابه للزوار، في واشنطن، ليحكي قصة شعوب انصهرت في بوتقة اسمها «أميركا».

افتتح أخيراً، في واشنطن، «متحف الفن الاميركي»، الذي هو بمثابة «لوفر الاميركيين». وهو الأكبر من نوعه في اميركا والعالم، وتستطيع ان تقرأ وانت تزوره، تاريخ أميركا وشخصية مواطنيها، عبر فنونها. المتحف هو جزء من مجموعة متاحف «سمثونيان» التي مجتمعة، تتفوق على متحف «اللوفر» حجماً وربما أهمية.

كان «متحف الفن الاميركي» قد تأسس في الأصل سنة 1836، لحفظ المخترعات الاميركية (تأسس «اللوفر» قبل ذلك بأكثر من اربعين سنة، خلال الثورة الفرنسية)، وسمي، في البداية، «معبد الاختراعات»، ثم أطلق عليه اسم «متحف الفضوليين»، ويأتي من حيث الضخامة المعمارية في المرتبة الثانية بعد مبنى الكونغرس القريب منه. وتحول المبنى الى مستشفى خلال الحرب الاهلية (عندما كادت القوات الانفصالية الجنوبية تحتل واشنطن)، ثم احترق جزء منه بعد ذلك بعشر سنوات، وتم اصلاحه. وقبل ست سنوات اغلق لإصلاحات وتصميمات كبيرة، كلفت ثلاثمائة مليون دولار.

خصّ المتحف جورج واشنطن، قائد حرب الاستقلال، واول رئيس للولايات المتحدة، بمكانة مرموقة، وتحتل لوحته العملاقة التي رسمها غلبرت ستيوارت سنة 1796 مكانا بارزاً. ولإعطائها بعداً حيوياً، جلس الى جانبها «جورج واشنطن وزوجته مارثا» (ممثلان يشبهان الاثنين شبها حقيقيا، ويرتديان مثل ملابسهما). الممثلان يتحدثان عن آخر الاخبار (اعادة ترشيح واشنطن لرئاسة الجمهورية)، وعن جيرانهما ومعارفهما (من بينهم توماس جفرسون، ثالث رئيس جمهورية)، وعن الطقس في ذلك اليوم (كان حارا جدا). وسألته «الشرق الأوسط»: «لماذا انت بدون ذقن، والرئيس لنكولن وآخرون مثله كانت عندهم ذقون؟» واجاب، بدون تردد: «لا اعرف. انا توفيت قبل خمسين سنة من لنكولن». ألم تكن ملابسك ثقيلة، خاصة في فصل الصيف؟ اجاب: «لا، انا تعودت عليها، وكل الناس المحترمين يلبسونها». ما رأيك بالملابس التي يلبسها الرجال والنساء اليوم، واغلبيتها قصيرة وخفيفة؟ اجاب: «لم اتوقع ان يأتي يوم يلبس فيه الناس غير الملابس التي ألبسها انا الآن».

في «قاعة لوحات الرؤساء»، التي يتصدرها واشنطن، أخرى لرؤساء غيره، مثل كارتر وريغان وبوش الاب وكلينتون، وقريباً بوش الابن.

وتعكس «لوحات الرؤساء»، كما كتب بليك كوبنك في جريدة «واشنطن بوست»، « نوعاً فريداً من الفخر يخص الاميركيين، وهو: الفخر بالرؤساء».

ربما، لا يوجد شعب في العالم يقدس رؤساءه على هذا النحو: يحفظ تلاميذ المدارس اسماءهم بالترتيب (33 رئيسا)، وتتحول منازلهم إلى متاحف. ويوجد تمثال لكل واحد منهم تقريبا في واشنطن، هذا غير الجامعات التي تحمل أسماءهم لا بل وأسماء زوجاتهم وامهاتهم في بعض الأحيان.

ولاحظ الصحافي بليك أن الحكومة وشركات ومؤسسات خيرية، شاركت في تكاليف متحف الفن الأميركي، معتبراً ان هذا دليل على جانب آخر من جوانب الشخصية الاميركية، وهو «استثمارنا في عبادة ابطالنا»، وهو جزء من الاستثمار الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي. لكن «الابطال» في المتحف ليسوا سياسيين فقط، لأن هناك تماثيل ولوحات لامثال: الفيس بريسلي، ملك اغاني «روك آند رول»، ومارلين مونرو، الممثلة السينمائية الشقراء، وشارلي شابلن، الممثل السينمائي الفكاهي، وتشارلز لندبيرغ، اول طيار عبر المحيط الاطلسي. ولإثبات ان الشخصية الاميركية متنوعة الالوان والاعراق والاديان، هناك تماثيل ورسوم تشكيلية لأمثال: محمد علي، الملاكم المسلم الاسود، وسيزار شافيز، مؤسس اول نقابة للمزارعين اللاتينيين البؤساء. وهناك مهاجرة من الصين، رسمت لوحة عملاقة في شكل «غرين كارد» (بطاقة الاقامة الاميركية الخضراء).

فرنسيون وأميركيون يتنازعون على «العملقة»

وقارن الصحافي بليك بين متحف «اللوفر» الفرنسي الشهير، و«متحف الفن الاميركي»، وقال اذا كان الاول يركز على اللوحات العملاقة، فإن الثاني يهدف إلى إبراز التنوع العملاق. وكأن الاميركيين يعترفون للفرنسيين بالتفوق في الفنون، ويعيبون عليهم انغلاقهم، وخوفهم على ثقافتهم من غزو اجنبي.

ويشاهد زائر المتحف لوحات توضح كيف ان الفن الاميركي، هو في حقيقته خليط من فنون مختلفة. فقد تأثر، على سبيل المثال، الفنان جاكسون بولاك بالفن الفرنسي، وهو الذي وصفته مجلة «لايف» في سنة 1950 بأنه «اعظم فنان تشكيلي اميركي على قيد الحياة». كما تأثر الفنان ادغار ديغاس بالفن الاميركي (وقضى سنوات في نيواورلينز)، وهو رائد الرسم التعبيري (امبريشنست) الفرنسي مع نهاية القرن التاسع عشر، ولوحاته معلقة في متحف «اللوفر». وتأثرت كذلك ماري كاسات بالفن الفرنسي (وقضت نصف حياتها في فرنسا)، وهي رائدة الرسم التعبيري الاميركية، وكان استاذها هو ديغاس نفسه (ورسمها).

افتتح في متحف «اللوفر» في باريس، قبل اسبوعين من افتتاح «متحف الفن الاميركي»، قسم ضم لوحات لثلاثين رساما اميركيا. وافتخر الفرنسيون بأنهم علموا الاميركيين الفن، وخاصة التعبيري. وقال ملصق المعرض ان «اللوفر ظل مصدر الهام للرسامين الاميركيين اجيالا بعد اجيال». الاميركيون لا يجادلون الفرنسيين في هذه الأحكام، لكنهم يقولون، على طريقة مايكل هيزرفيلت، استاذ انثروبولوجيا الفن في «جامعة هارفارد»: «ان افضل الفنون هو الفن الهجين». وهو يقصد شيئين:

الاول، الفن الاميركي مثل اجنبي هاجر الى اميركا، وحصل على الجنسية الاميركية.

ثانيا، الشخصية الاميركية خليط من شخصيات اجنبية تجنست.

واضاف د. هيزرفيلت أن الاجنبي الذي يريد ان يثرى يذهب الى نيويورك، لأن «شوارعها مرصوفة بالذهب»، كما يقول المثل الاميركي. لكن الاجنبي الذي يريد ان يرسم يذهب الى ريف اميركا «لأن الطبيعة الاميركية هي اعظم ثروة اميركية». وقال ان طبيعة اميركا (بلاجات كاليفورنيا، وجليد منيسوتا، وسهول كنساس، وغابات ويست فرجينيا، وصحراء اريزونا، الخ ...) هي «سر الشخصية الاميركية» وان الذي يرسمها يرسم الشخصية الاميركية.

يرى زائر «متحف الفن الاميركي» لوحات عملاقة، تصور حقيقة، الشخصية الاميركية، مثل: لوحة «صقر واشنطن» التي رسمها جون اودوبون، و«جبال سيرا نيفادا»، التي رسمها البرت بيرستاد (تغطي الاخيرة حائطا كاملا، وتمتد لثلاثة امتار). وبيرستاد هو رسام ولد في المانيا، وعاش في لندن، واستفاد من مناظر جبال الالب في سويسرا لرسم لوحات اميركية. ما معنى ذلك؟ معناه، كما قال د. هيزرفيلت: «إن الفن الأميركي هو مجموع فنون غير اميركية».

ولا تذكر الشخصية الاميركية الا وتذكر الحرية الاميركية («حرية فيها حياة»، كما يقول الاميركيون انفسهم). ولا تذكر الحرية الاميركية الا ويذكر تمثال الحرية الواقف عند مدخل ميناء نيويورك. لكن زائر «متحف الفن الاميركي» في واشنطن، يفاجأ به داخل المتحف، او على الأصح، بالنسخة الاصلية منه («الماكيت» الاصغر حجما الذي صمم اولا للتنفيذ على مثاله). وربما يتذكر الزائر ان الفرنسيين هم الذين صمموا وصنعوا التمثال، واهدوه للاميركيين، كمثال آخر على ان فن اميركا هو فن بقية العالم.

ويشاهد زائر المتحف، في قسم آخر، تاريخ اميركا في لوحات تشكيلية عملاقة: «المستعمرات الاميركية» (عندما حكم البريطانيون اميركا)، و«الجمهورية الجديدة» (بعد الاستقلال)، و«دماء الوطن» (الحرب الاهلية).

وعلى الحائط عبارة الرئيس لنكولن داعيا، بعد نهاية الحرب، لفتح صفحة جديدة بين الاميركيين، شماليين وجنوبيين، فيدراليين وكونفدراليين: «بدون كراهية نحو احد، وبرأفة نحو الجميع، وبتمسك بالحق، كما دعانا الله لنرى الحق، لنضمد جراح الامة، ولنكمل العمل المنوط بنا». وهناك الفن الشعبي (بوب)، تجسده لوحة فيها ديك رومي محمر في وسط المائدة يوم عيد الشكر، وزجاجات «كوكا كولا»، وكاميرا، وساندوتشات وآيس كريم. وهناك لوحة المغني الاسود تشارلز راي، ولوحة السناتورة هيلاري كلينتون، ولوحة الممثلة السينمائية كاثرين هيبورن.

ليس كل متحف الفن الاميركي هو مجموعة من التماثيل والتصاميم والرسوم. هناك اقسام «الفن الحي»: غرف للرسم، يجلس فيها الزوار ليرسموا، وغرف للمحترفين، يشاهدهم الزوار، ويسألونهم اذا ارادوا، وغرف للجيل الجديد، ليرسم ويسأل ويتنافس. وهناك غرفة يمكن ان تسمى «سقوط الحضارة الاميركية»: كل الغرفة عبارة عن تصميم من ورق الالومنيوم لمدينة كاملة: حاكمها ومسارحها وحاناتها وجامعاتها. لكن كل التصاميم جمعت من اكوام الاوساخ (علب وزجاج وصناديق)، ثم غطيت بالالومنيوم. والهدف هو تصوير الحياة الاستهلاكية الاميركية، مع زيادة موضة «شوبنغ» (تسوق) التي تكاد ان تحل محل ممارسة الرياضة والتطوع في الحي ومناقشة القضايا العامة. وقد يكون الهدف عكس ذلك: تفاؤل بالمستقبل، خاصة لأن ورق الالومنيوم لامع، ويقدر على تغطية العلب الفارغة في المدينة.

مساوئ الحضارة علب خاوية، ومحاسنها الومنيوم لامع.