هل حين أنشد المتنبي «وكم ذا بمصر من المضحكات، لكنه ضحك كالبكا»، كان يقصد الأيام الجارية، وهذه اللحظة التاريخية من عمر مصر بالذات؟ يمكن للمتأمل للكتابة الحالية في مصر، أن يلمح وببساطة شديدة، غياب الحفاوة بالحياة، أو ما يمكن تسميته بثقافة الضحك. بعيدا عن الكتابة الساخرة، سيطرت هواجس الغربة والموت والحزن على الكتابات الشابة في مختلف مجالات الإبداع: الشعر، والقصة والرواية والمسرح. وقد تبدو حال الكتابة السينمائية مختلفة عن ذلك، بسبب موجة أفلام الضحك. لكن النقاد يؤكدون أن ذلك ليس حقيقيا، بل هو اصطناع لضحك مسطّح.
أين ذهبت حفاوة المصريين بحياتهم، ولماذا انقلب ضحكهم عبوساً في الشعر والرواية والمسرحية. وهل ما يزال صحيحاً أن المصري «ابن نكتة»، أم الأجدى أن نتذكر أن أول كتب المصريين هو الكتاب الفرعوني الخالد «الخروج إلى النهار» أو ما يعرف باسم «كتاب الموتى»؟ هنا تحاول «الشرق الأوسط» طرح هذه القضية للنقاش مع عدد من الكتاب والنقاد والسينمائيين المصريين.
تقول الكاتبة والمترجمة هدى حسين «إننا ما زلنا نسخر، من الواقع ومن أنفسنا، من قلة حيلتنا أحياناً ومن أعباء الأحداث الضاغطة علينا»، على حد تعبيرها. وتضيف «لكنني في النهاية لا أظن أن الهدف من الأدب هو رفع معنويات أحد بمحاولة إضحاكه. فالواقع الذي نعيشه كمصريين، وعرب، ودول نامية أو عالم ثالث، تجعلنا، بصراحة، من الصعب جدا أن نملك مثل هذه «الرفاهية». ثقافة الضحك، ارتبطت في الذاكرة الجمعية لشعوبنا بثقافة التسلية، وهذه كارثة، بحد ذاتها. إذ ما زلنا نعتقد أن الفيلم الكوميدي فيلم سطحي أو بالضرورة «خفيف»، كذلك المسرحية الكوميدية. وتأصلت لدينا أيضا كليشيهات الكاتب المهموم أبو نظارة الذي يجلس وحيداً مع فنجان قهوة، ولا يفهمه أحد. كل هذا ترسخ عبر وسائل الإعلام من ناحية، والخوف من الخروج عن الذي صار مألوفا من ناحية أخرى».
هدى حسن، تعتقد أننا لو دققنا النظر قليلا، سنجد قصائد كوميدية جدا، عند عماد أبو صالح، مثلا، وأسامة الدناصوري، وإيمان مرسال، وياسر عبد اللطيف، وغيرهم. وتضيف «لكننا تعودنا عند القراءة أن نتجهم في أغلب الأحيان، أو أن نفترض التجهم في الكاتب الذي نقرأ له. وإذا كنا لا نضحك في أغلب الأحيان، فذلك لأننا لا نبكي أيضاً، لا هذا ولا ذاك مسموح لنا به. لم يعد بإمكاننا إلا أن نراقب. ما يحدث، لا حيلة لنا فيه، فقط نتابعه، نعلق عليه أو نرصد تفاصيله. نحاول فهم العلاقات الجديدة التي نشأت في غفلة منا بين مفرداته. تريدني أن أقرأ قصيدة وأقول ها ها ها؟ أنا شخصيا لا مانع عندي، وكثيرا ما أقرأ قصيدة وأضحك فعلاً، وأذيلها بجملة: «يا ابن الإيه!!! لقطتها ازاي دي؟»، لكني لا أهتم بأن أقول «يا بن الإيه عرفت تضحكني».
القاص سعيد الكفراوي يعتقد أنه لا يوجد أديب يكتب، وفي وعيه أنه سيكتب عن الضحك أو الحزن أو التفاؤل. فالكتابة بحسب تعبيره، هي سعي للتعبير عن موقف الكاتب من العالم أو للتعبير عن أحوال الإنسان في مكان وزمان معينين، مشيرا إلى أن تيمة الحزن، أو ذلك النشيد الداخلي، كما يسميه، في الروح المصرية هو شيء موروث، بمعنى أن إحساس المصري بالأبدية، يلتقي مع ذلك الصوت الذي يأتي من الآماد البعيدة يرعبنا. ويضيف الكفراوي: المصري عاش طبقات من الحياة الميتافيزيقية، والاجتماعية، وعلاقته بالسلطة قائمة على القمع، وإحساسه بالزمن في إطار هذه العلاقة، يعد إحساسا كثيفا. وفي إحدى قصصي ـ والكلام مازال للكفراوي ـ البطل يصرخ ويقول «غايتي أن أستحوذ على زمن يضيع»، وهذا صراخ جنون، فلا أحد يستحوذ على الزمن، وكل هذه العوامل بالنسبة لى شكلت بنية معينة لكتابة مصرية تخصني.
الكفراوي ليس ضد الحفاوة بالحياة، والتفاؤل في الكتابة كما يقول: «كان من الممكن أن أكون روحا تبشر بالحرية والعدالة والمساواة، ولكن فليفعل ذلك غيري، وأنا ربما أتخلص من ذلك النشيد الداخلي ـ المسمى الحزن ـ وربما لا أتخلص. أنا صادق أو غير صادق، وهذه التجربة استطعت أن أكتبها وفق معايير الحفاوة بالزمان والمكان، ومن ثم استطعت من خلال هذا النص، طرح سؤال نسعى به نحو معرفة خاصة، تعين القارئ على الإدراك».
الكتابة لا تبتعد عما نقول شفاهة، في ظن الكفراوي، فالعملية الإبداعية لا تأتي من فراغ. ولا أحد يكتب بمخيلته وحدها، انما الكاتب هو ابن المتغير، وابن لتراث داخله، وابن تاريخ يمتد من المقبرة الفرعونية وحتى الآن. نحن لا نكتب الحياة ولكن نستعين بالحياة للكتابة. بورخيس ذلك الرجل المكتبة، هو ابن ثقافة عاشها، وغارسيا ماركيز، خالق الأساطير العظيم، الذي وجد البديل لكتابة الواقع بكتابة المتخيل، هو ابن تجربة حياتية ساعدته على ما يكتب.
يكاد الكفراوي يجزم أن ما نراه في الواقع، أو حتى في الحلم يشكل «موقعنا من العالم، واختياراتنا في الكتابة، فكيف إذن نطالب الكاتب بالاهتمام بثقافة الضحك، وبالحفاوة بالحياة، وهو يرى كل هذا يجري حوله؟!».
لكن هذا قد يختلف من كاتب إلى آخر، حسب انغماس الأديب في تفاصيل الحياة، وتشكيلات ذاكرته. الناقدة عفاف عبد المعطى، تحلل الأمر بقولها «الأدب مرآة المجتمع. وحري بنا ان نتساءل: «هل المجتمعات ـ عربية كانت أم عالمية ـ تسير في مسار اجتماعي قويم؟». الإجابة في اعتقاد عفاف تكون بالنفي، وتعلل ذلك بقولها: «كل مجتمعات القارات الست تحمل بين طياتها عطبها الخاص، وان تفاوت هذا العطب من مجتمع الى آخر. من هنا علينا ان نتساءل، من اي مناخ يستقى الأديب أدبه ـ شعرا كان ام رواية ام قصة قصيرة ام أي نوع أدبي كان؟ بالطبع سوف يستقيه من المناخ الاجتماعي الذي يستقر به، هذا على النطاق العالمي. أما عن النطاق العربي، فلقد ابتليت المجتمعات العربية ـ الشعوب بالطبع ـ بركود اجتماعي واضطراب سياسي، وتشظي في كل جنب من جنباتها، فماذا عساه المبدع ان يكتب وسط مجتمعات تغط في الفوضى والجهل والتعاسة التي تحيط به. إذا لم تفرض الواقعية الاجتماعية نفسها على الكاتب، فهل يكتب ـ وهو ابن المجتمع المتشظي ـ بطريقة رومانسية؟ مؤكد أن الواقع المنحدر يؤثر على الكاتب، لكن يبقى الكاتب الحاذق الذي يستخدم الأسلوب الرمزي في كشف العطب الاجتماعي مثلما يفعل أغلب الكتاب الذين صدر لهم عمل إبداعي أو عملان».
وتذكر عفاف في هذا الصدد، مصطفى ذكرى صاحب رواية «هراء متاهة قوطية»، وحسن هند صاحب رواية «عناقيد الروح» من مصر، ونورما خوري من الاردن صاحبة رواية «جريمة شرف»، وخديجة مروازي من المغرب صاحبة رواية «جراح الروح والجسد»، وزهرة ديك صاحبة رواية «بين فكى وطن»، وسعيد مقدم صاحب رواية «البرانويا» من الجزائر، وأبكر إسماعيل صاحب رواية «الوصول الى المدن المستحيلة» من السودان. كل هؤلاء الكتاب حملوا على عاتقهم، في رأيها، كشف الواقع الاجتماعي الزائف الذي نعيشه جميعا، وربما نريد التعبير عنه بطريقة أو بأخرى.
ولكن هل تبرر طفرة أفلام السينما المصرية الكوميدية، مقولة أن المصريين يضحكون، ويحتفون بحياتهم؟ بحسب السيناريست والكاتب الساخر سمير الجمل فإن ما تقدمه هذه الأفلام ليس ضحكا حقيقيا، ولا يعبر عن الواقع المصري. بل هي أفلام في رأيه تقوم على سوقية الشارع، لذلك يستطيع من يحلل أي فيلم منها أن يقول إنها تعتمد على أغنية، ورقصة، من دون مناقشة أي قضايا حقيقية.
ليس المطلوب من الكاتب الساخر، في ظن الجمل، أن يكون مهرجا، لكن الفيلسوف فقط هو من يستطيع استخلاص الضحك من وسط كل ركام الحزن، والمشاكل الحياتية التي تحيط بنا. أزمة الضحك، ليست في الكتابة وحدها، وسمير الجمل يرى أن «الكارثة الكبرى تكمن في أن هناك أزمة في الكوميديا، لدى شعب، يعتبر الضحك سلاح دماره الشامل الذي لا يستطيع مليون شخص مثل محمد البرادعي انتزاعه منه، أو اكتشاف سره. والمصيبة تكون عظيمة عندما تتوقف عن الضحك، أو حتى لا تعرف كيف تضحك».
لماذا توقفت مصر عن الضحك؟ السبب من وجهة نظر سمير الجمل أن الأمور اختلطت على الناس ما بين المضحك والمبكي، تماما كما قال المتنبي «وكم ذا بمصر من المضحكات، لكنه ضحك كالبكا». الضحك فلسفة، وأخشى أن يكون الشعب المصري فقد فلسفته وسط ضغوط الحياة، لكنه يقول: الشعب المصري مع ذلك هو فيلسوف الضحك، وناقل هذه العدوى إلى العالم العربي، لذا لا بد من عمل مؤتمر عن الضحك في مصر، ثم نسأل أنفسنا بعدها «لماذا لا نضحك، ولماذا اختفت ثقافة الضحك من الشارع المصري؟».
ويعتقد الجمل أن سبب غياب الضحك الحقيقي عن الدراما المصرية هو ندرة الكتاب القادرين على ذلك، لذلك يتحدى أن يتذكر أي شخص اي شيء مضحك في الأفلام الكوميدية الآن بعد خروجه من باب دار السينما، ويقول «في هوليوود عندما يكون هناك مشهد كوميدي في فيلم، يحضرون كاتبا خاصا له». والسبب في رأي الجمل، يرجع إلى أنه لا يوجد أحد يجهد نفسه لدينا، أو يبحث عن كاتب حقيقي أو سيناريو حقيقي، أو حتى سبب حقيقي للضحك.
الأمر متعلق بالمحيط الاجتماعي، هكذا يجزم د. علي فهمي، أستاذ علم الاجتماع، ويتساءل: كيف تطلب من مبدع يرى الأمن المركزي وهو يضرب المتظاهرين، ويقف ساعة في انتظار الأتوبيس، ويعاني من البطالة، وينشر أعماله الإبداعية على حسابه، ويرى التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي حوله، كيف تطالبه بأن يكتب عن الضحك، أو ان يقدم كتابة تحتفي بالحياة؟
وفي حين يؤكد فهمي أن المصريين كانوا يستخدمون السخرية والضحك كسلاح ضد المحتل والحاكم الظالم، إلا انه يقول إن المصريين في الفترة الأخيرة استبدلوا هذا السلاح بغيره. فالصمت سلاح، والتظاهر سلاح، والغضب الكامن في النفوس سلاح، منوها إلى أن على السلطة أن تخاف من الشعب حين يتخلى عن سلاحه الشهير، لأنه سيستبدله بسلاح آخر قد لا يكون لها قبل به.
وقد يعني عدم القدرة على السخرية والحفاوة بالحياة، الانكباب على الذات والانغلاق عليها، لكنه يعني أيضا في رأي علي فهمي أن سلاح الضحك فشل، فلا بد إذن من تجربة سلاح آخر قد يكون أكثر نفعا، منوها إلى أن الواقع الاجتماعي والسياسي له دور كبير في تشكيل وجدان المبدعين أيا كانت مجالات إبداعاتهم.