غاب كارل أبل تاركا كائناته الأسطورية من حولنا

كان فنه خلاصة لكل ما انتهى اليه فنانو الغرب من نتائج جمالية

TT

عشرات الرسامين العرب تأثروا برسوم الفنان الهولندي كارل أبل الذي توفي مؤخرا في زيورخ بسويسرا عن عمر ناهز الخامسة والثمانين (ولد عام 1921 في امستردام). وليس غريبا أن يقع هذا التأثير، فقد كان أبل واحدا من أهم فناني النصف الثاني من القرن العشرين، بل أن نقاد الفن يعدون فنه خلاصة متمردة ونقية لكل الاتجاهات الفنية التي سادت في النصف الأول من ذلك القرن وكانت مصدرا لحيوية التحول الحداثوي.

كان فن كارل أبل مزيجا مريحا وغير مضطرب من اتجاهات فنية متباعدة ومتناقضة: البدائية والسوريالية والتعبيرية والرمزية والوحشية والواقعية، كما لو أن أبل قد قرر أن يرث الجميع، ليتيح لعبقريته فيما بعد انتاج فن لا يشير إلى سواه، وهذا ما حدث فعلا. كان تأثير بيكاسو وماتيس عليه مباشرا في بداياته، يوم أقام معرضه الاول في العاصمة الهولندية عام 1947، غير أنه وبعد فترة قصيرة وجد في صنيع الفرنسي جان دوبوفيه ضالته، وكان ذلك يوم انتقل الى باريس نهاية الاربعينات ليكون واحدا من مؤسسي حركة «كوبرا»، وهي الحركة التي اضطلعت بدور فني رئيس في انجاز التحولات الفنية في ظل غياب وخفوت تأثيرات الجماعات الفنية الكبرى، التي نشطت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. و«كوبرا» هي الافعى الذي يختصر اسمها ثلاث عواصم ينتمي اليها أفراد تلك الجماعة الفنية: كانت كوبنهاكن هي الرأس والجسد بروكسل اما الذنب فامستردام. نجح فنانو «كوبرا» في اذابة النتائج الفنية (تقنيات وأشكالا وافكارا) التي انتهت اليها الاتجاهات الحداثوية، لتطلع علينا بفن يصالح بين المتناقضات، لكن من خلال التسامي بها: خشونة ناعمة، صخب هادئ وعصيان بريء. وهي صفات ظل أبل حريصا على التماهي معها في فنه.

كان كارل أبل نوعا من الفنان الشامل. صحيح أن تأثيراته رساما هي التي بلغت به درجة العالمية، حيث صارت المتاحف تتسابق على اقتناء لوحاته في وقت مبكر من حياته، غير أنه كان على الدوام يسعى الى التخلي عن قناع الرسام ليكون: نحاتا وخزافا وكاتبا وسينمائيا. حتى في رسومه كانت تقنيته تحيلنا إلى خياره المفارق لسطح اللوحة، فكانت كثافة المادة المستعملة بعنف تحيلنا الى خيال مصدرها النحتي. يصفه النقاد وهو يذهب الى قماشة اللوحة مثل فارس يتجه الى مبارزة مؤكدة، كانت فرشاته أو السكين أو أنبوب الصبغ الذي غالبا ما كان يستعمله بشكل مباشر هي اسلحته في تلك المبارزة. كان أبل يرى إلى نفسه من جهة كونه واحدا من رموز عصر البربرية، وهو النعت الذي استعمله في أحد أفلامه. كانت رسومه مبهرجة والوانه براقة ومشرقة، غير أن موقفه النقدي ازاء عصرنا لم ينزلق به على الاطلاق الى التزيين أو الحياد. فكانت حيواناته الخرافية (وهو العنوان الذي غالبا ما لجأ اليه لتسمية لوحاته) هي بمثابة طوق نجاة تلقيه يدا طفل بريء لانقاذ العالم من واقعيته البليدة. تلك الحيوانات تعيدنا إلى زمن الاسطورة، يوم كانت الحكاية بالنسبة للانسان هي الوسيلة الوحيدة لتفسير ما يقع من حوله. ليست رسوم أبل مجرد مرثيات لعصرنا الذي تراجع إلى بدائيته، بل هي أيضا تنطوي على هجاء صريح لصفة الانسان، كائنا وضع ذاته في مركز الكون. تنبعث من رسوم أبل رائحة مكر مبيت، هو مصدر كل تعريف بصري محتمل لانسان، صار مستهلكا للمبادئ التي وهبته معاني انسانيته، وتوجته بعزلة الراعي الوحيد لشؤون الكون، في صفته وارثا. هنا ينتسب أبل الى القلة من المراجعين الكبار لدور الانسان في تدبير شؤون ذلك الارث العظيم. وليس الشكل العشوائي الذي يظهر فيه الانسان في رسوم أبل إلا نوعا من الاعتراف بعدم اهليته للتميز عن الكائنات الأخرى.

صارت المعاني التي انتهى اليها أبل في رحلته المضادة لمسيرة الانسان تلهمه الأشكال التي يود لو أنها صارت مثالا. في واحد من أهم أنصابه تظهر سمكة، لكنها بالرغم من ضخامتها توحي لمن يراها كما لو أنها صنعت من ورق ملون، دمية هي عبارة عن سطح مؤقت لخيال طائش. لا أحد في امكانه أن يتخيل أن ذلك النصب كان ينافس بارتفاعه بناية بثلاثة طوابق أو أنه وضع هناك ليبقى ثابتا. في الواقع فان تلك السمكة التي تلقي بظلالها على ريف بأكمله كان في امكانها أن تحرك هواء ذلك الريف وتهبه حياة ملونة، حتى الطبيعة تعجز عن الاتيان بمثل تلك الحياة في لحظة واحدة من لحظات منطقها. لقد كان لأبل مزاج متوحش، يميل الى البراري، بصفتها مأوى للكائن الذي عجزت البشرية عن احتوائه. وهو كائن يقدم جمالياته على كل معنى قابل للتأويل. كانت رسوم أبل تحارب بجمالها من أجل خلق عالم مثالي يليق بكائن، حياته هي مزيج من سبل العيش وسبل الحلم، كائن خرافي يعيش حياته بصفتها نوعا من القداسة المطلقة. وهي قداسة فريدة من نوعها، ذلك لانها تكتسب من اليومي العابر صلابتها وطراوتها في الوقت نفسه.