مبدعون أم جواسيس في بلاط السلطة

ظاهرة الوشاية بين مثقفي مصر وقع في حبائلها رموز من الكتاب

TT

ظاهرة الوشاية بين المثقفين، وتفشي كتاب التقارير ضد المبدعين، في مصر وباقي البلدان العربية، هي من القضايا الشائكة في التاريخ الثقافي المصري والعربي، على حد سواء. وقد شغلت الظاهرة بال الكثيرين، وتحدث عنها كتاب كثر، في مذكراتهم أمثال، نوال السعداوي، والناقدة الراحلة لطيفة الزيات، والكاتب سليمان فياض وغيرهم، ممن عملوا مع مبدعين أو صاحبوهم فترة من حياتهم. وهناك صحافيون وكتاب اتهموا مثقفين كبارا، جميعهم أحياء، ومازالوا مقربين من السلطة حتى الآن، بأنهم وشوا بزملائهم، وتسببوا لهم بأذى كبير ما تزال آثاره تحرق وتؤرق.

ثمة وشايات بين المثقفين، مازال يذكرها الكتاب المصريون حتى الآن، وتشكل علامات استفهام كبيرة، كان أكثرها دويا تلك الخطابات التي أرسلها الناقد مصطفى هدارة إلى وزارة الثقافة وجهات سيادية أخرى يستعديهم فيها ضد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وزملائه من العاملين في مجلة «إبداع» بسبب نشرهم عددا من القصائد مصحوبة بصور، رآها هدارة مسيئة للدين، واتهمهم في خطابه بأنهم مجموعة من الشيوعيين وانهم صاروا مسيطرين على المؤسسات الثقافية المصرية. وقد فوجئ هدارة بحجازي ينشر الخطاب الذي أرسله إلى وزير الثقافة. وقبل هذا بسنوات راح الشاعر صلاح عبد الصبور ضحية اتهام رسام الكاريكاتير بهجت عثمان له بأنه باع نفسه للسلطة وخان قضايا الوطن عندما قبل العمل رئيسا لهيئة الكتاب المصرية بعد عودته من الهند حيث كان يعمل ملحقا ثقافيا في السفارة المصرية هناك. وفي منصبه الجديد وافق عبد الصبور على اشتراك إسرائيل للمرة الوحيدة في «معرض القاهرة للكتاب». وقد أحرق المتظاهرون مقر إسرائيل في المعرض، وتعرض عبد الصبور لحرج شديد.

تفاعلت التقارير بقوة أيام عبد الناصر

ظاهرة كتاب السلطة في المرحلتين الناصرية والساداتية، بلغت ذروتها، بحسب سعيد الكفراوي، بحيث كان في كل مطبوعة رقيب تعينه السلطات وتتجاوز مسؤولياته دور رئيس التحرير نفسه، والذي صار حاليا يقوم بالدور نيابة عن الرقيب في المجلة أو الجريدة التي يكون مسؤولا عنها.

كان دور الرقيب اختيار الأعمال التي تصلح للنشر، والإبلاغ عن المواد التي تختلف مع سياسة النظام وتنتقده. كما كان دور الآخرين من كتاب السلطة تقديم بلاغات عما يقدمه زملاؤهم من إبداعات. وكان المصير المحتوم لآي كاتب يتجاوز الخط الأحمر، هو دخول المعتقل الذي لم يسلم منه أحد من الكتاب. ووصل الأمر حد إغلاق المجلات وطرد وتشريد العاملين فيها. ولم يسلم من هذه الإجراءات كتاب كبار مثل لطفي الخولي والمفكر ابو سيف يوسف وغالي شكري، وقد اجبر بعضهم على مغادرة مصر، كما حصل للكاتب الراحل احمد عباس صالح، بعد ما اخذ السادات على عاتقه تصفية المرحلة الناصرية. وكان عباس صالح رئيسا لتحرير مجلة «الكاتب» في ذلك الوقت، وتم طرده هو ويوسف أدريس واسماعيل صبري عبد الله وصلاح حافظ وصلاح عيسى.

سعيد الكفراوي ينفي ان يكون كاتب السلطة بالضرورة كاتبا عديم القيمة، وهناك كثير من الاسماء التي ذكرها، تدعم وجهة نظره امثال، «ف. ف» والراحل «ج. أ» و«ع.س» و«م.أ.س» وغيرهم ، قال عنهم انهم مثقفون كبار ضمن لجنة تضم كبار النقاد تستعين بهم السلطة كلما المت بها الملمات. وقد استعانت بهم السلطة في مصر أثناء مواجهاتها مع التيارات الدينية، وعندما انتهت معاركها معهم استغنت عن هؤلاء الكتاب، لكنهم بقوا جاهزين باستمرار لتقديم المشورة كلما كانت هناك حاجة لذلك. ويؤكد سعيد الكفراوي ان السلطة تجند كتابا كبارا لخدمة مصالحها، وان هؤلاء يجب أن يكونوا قادرين على فك رموز الكتابات الابداعية والبحث فيما وراءها من معان. وهؤلاء الذين استخدمتهم السلطة في المرحلة الناصرية والساداتية، مازالت تستخدمهم حتى الان. وهم الذين كانوا وراء زج الكثيرين في السجون والمعتقلات المصرية، وقدموا تفسيرات رمزية لابداعات هامة مثل «والنهر يلبس الاقنعة» للشاعر محمد عفيفي مطر و«الخماسين» لغالب هلسا و«ثلاث شجرات تثمر برتقالا» ليحي الطاهر عبد الله و«تلك الرائحة» لصنع الله ابراهيم. كل هذه الاعمال وغيرها، كانت ذات منحى رمزي، وكانت السلطة وكتابها الرسميون قادرين على توظيف ملكاتهم في البحث وراء الرموز وزج الكتاب في السجون.

أفكار حديثة للوشاية

الكاتب الصحافي محمد عبد الواحد الذي كان موظفا في وزارة الثقافة، ومقربا من وزيرها حتى وقت قريب، تحدث في كتابه «مثقفون تحت الطلب» عن وقائع دالة لاستعداء السلطة على المثقفين، ولفت الى طرق جديدة يستخدمها مثقفون للوشاية بزملائهم. وذكر محمد أسماء رموز مازالوا في قمة مجدهم يستخدمون الهواتف الجوالة لأداء الخدمات للسلطة مثل، «ف.ف» الذي فتح خط هاتفه الخاص من اجل ان يسمعه عبد الواحد وهو يعنف مثقفا كبيرا مسؤولا عن مؤسسة كانت تستعد لاستضافة شاعر يمر بأزمة مع الأزهر، وكان يحذره ويأمره أن يلغي الندوة. وعندما انتهى من المهمة رفع «ف.ف» الهاتف، محدثا عبد الواحد أن «كله تمام، والمهمة تمت حسب ما تريدون». الغريب أن عبد الواحد نفسه يعترف في كتابه انه كان وراء الكثير من هذه المؤامرات، وانه وراء إلغاء أمسية للشاعر أحمد الشهاوي الذي دعي لقراءة عدد من قصائد ديوانه «الوصايا العشر في عشق النساء» في هيئة الكتاب المصرية وكانت الندوة ضمن امسيات رمضانية، ورأى عبد الواحد أنها يمكن ان تثير ازمة مع الازهر الذي دخل معه أحمد في معركة، قبل موعد الامسية بقليل.

كتاب التقارير في مصر لم يتوقفوا عند استعداء السلطة على زملائهم، باتهامهم بالانتماء لتنظيمات شيوعية، ووصل الأمر حد اتهام البعض بالانتماء الى تنظيمات دينية مثل الاخوان المسلمين. هذا ما حصل مع أنيس منصور، وأدى إلى فصله ثلاث سنوات وطرده من الجامعة.

تقارير المثقفين، ضد بعضهم البعض، لم تفرق بين المنتمين لليسار أو اليمين، وقد طالت نقادا كبارا مثل رجاء النقاش الذي اعتبره النظام الناصري خارجا عليه مع الناقد الدكتور لطفي عبد البديع. الاغرب من ذلك، حسب ما يقول سليمان فياض، أن عبد الناصر والسادات استفادا جديا من التقارير. وكان عبد الناصر يطلب ملفات الكتاب قبل لقائهم، ولعل هذا من وجهة نظر فياض، ما سهل مهمة السلطة الناصرية في ضرب رموز الثقافة المصرية التي افرزتها المرحلة الليبرالية ايام الملكية، بعدما قسمتهم الى جبهتين واحدة معها والاخرى ضدها بالاضافة الى تجنيدها المثقفين لخدمة اغراضها وسياساتها، وبالتالي جعلت منهم كتاب تقارير ضد بعضهم البعض.

خلافات مع السلطة وأخرى شخصية

لم يكن سبب التنكيل بالكتاب والمفكرين المصريين متوقفا عند حدود اختلافهم مع السلطة وسياساتها في المرحلتين الناصرية والساداتية، فقد اختلط الاختلاف مع السلطة بالاختلاف مع رجالها من مفكرين ونقاد، الذين كانوا يديرون مؤسساتها ويمسكون بالقرار الثقافي، وصار المساس بهم مساسا بالدولة والنظام. وقد منع الناقد الراحل عبد القادر القط من السفر بصحبة زوجته الاجنبية، لانه انتقد عملا ادبيا ألفه رشاد رشدي المقرب من نظام السادات في السبعينات. وما حدث مع القط حدث مع لويس عوض الذي كان رشدي يتصارع معه للفوز بمنصب رئيس قسم اللغة الانجليزية. ونتيجة هذا الصراع فصل عوض من الجامعة، ومنع من السفر بعد ان اتهمه رشدي بأنه شيوعي، وهو ما أدى الي اعتقاله بعد ذلك. علما بأن لويس عوض ـ والكلام هنا لسعيد الكفراوي ـ لم تكن له علاقة بالتنظيمات الشيوعية العاملة في مصر.

ويتذكر الكفراوي ان السلطة كانت تتعقب أثر بعض الكتاب، وترسل من يقيد ما يقولونه من احاديث. فأيام ندوة نجيب محفوظ في مقهي ريش، «كنا فور انتهاء الندوة نفاجأ بمن ينادي على أديبنا الكبير نجيب محفوظ ويقول له انه لم يفهم شيئا مما قاله المشاركون، وانه لو عاد إلى رؤسائه بدون تقرير عن الندوة سوف ينال عقابا شديدا. ولان محفوظ رجل رحيم، فقد كان يقول له: اقعد يا ابني، ويملي عليه ما قاله هو وزملاؤه في الندوة». ضمن قائمة كتاب التقارير، كان ثمة كتاب من المستوى المتدني، تعاونوا مع السلطة بهدف الوصول إلى مناصب. وكان رجال السلطة يغرونهم بالعمل معهم من اجل الحصول على المكاسب التي يحلمون بها. وهذا ما كانوا يفعلونه حتى مع المعتقلين فور خروجهم. إذ يتم استدعاء الكتاب ـ حسب الكفراوي ـ والحديث معهم حول إمكانية التعاون مع السلطة وكتابة تقارير عن زملائهم. كان كل هذا يحدث بالترهيب والاعتقال مرات ومرات ثم الترغيب بامتيازات في نشر الكتب، عدا الإغراءات المالية. ولم يسلم الكفراوي الذي دخل المعتقل، بسبب قصة نشرها في مجلة «سنابل» التي كان يحررها الشاعر محمد عفيفي مطر، من المرور بهذه التجربة المرة.

سعيد الكفراوي يروي أن التعاون مع السلطة، ضمن ما أسماه «القوة الأمنية الثقافية» أدى بكثيرين إلى الموت جوعا. وهذا ما حصل لمثقف كبير، طلب التحفظ على اسمه، استغله الأمن واحتقره بعد ذلك، رغم وعود ورديه لم يتحقق منها شيء. لكن الكفراوي يشير ايضاً إلى أن عديدين من المبدعين في مصر تعاونوا مع السلطة لقناعات شخصية.

الأديب عبده جبير يشكك في وجود كتاب تقارير بين المبدعين المصريين لأن الأجهزة الأمنية لا تأمنهم، وقال: منذ العام 1965 لم اسمع ولم أشاهد إطلاقا من يكتبون التقارير، ولم يكن هناك مثقف مصري يقبل بالتجسس على زملائه. ورجّح جبير ان الكتاب كانوا يحاسبون على ما ينشرونه في الصحف والمجلات. فقد اعتقل الشاعر زين العابدين فؤاد ومحمد سيف ونجيب شهاب الدين بسبب كلام قالوه في استطلاع رأي نشرته مجلة «الطليعة» المصرية الني كان يرأس تحريرها الكاتب لطفي الخولي، وقد قام السادات بإغلاقها بعدما شعر أن الشيوعيين يسيطرون عليها.

نوال السعداوي: النساء أيضا جندتهن السلطة

وضرب جبير أمثلة لأسماء كثيرة يعتقد انهم لا يمكن أن يكونوا مرشدين لدى السلطة مثل الكاتبين «م.م.أ» و«ع.أ» والشاعر «ع.أ» وكاتب القصة «ي.أ». ونفى أن يكون هؤلاء ـ مثلما يقال عنهم ـ قد ارتموا في أحضان السلطة وكتبوا ضد زملائهم وتسببوا في اعتقالهم. وذكر جبير أن هؤلاء كانوا من رجال السلطة وجزءاً من النظام، والأجهزة الأمنية دائما ما تستخدم رجالها من أجل التغلغل وسط المثقفين، وبعضهم يدعي أنه مبدع ويظل طوال وجوده وسط المبدعين لا نرى قصيدة له أو قصة وعندما يشعر أنه أنجز مهامه أو على وشك انفضاح أمره يختفي تماما ولا نراه بعد ذلك.

ظاهرة كتابة التقارير من وجهة نظر الأديب فتحي أمبابي كانت منتشرة بشكل كبير بين كتاب الستينيات بسبب وعيهم انهم ابناء الثورة ويجب الدفاع عنها، لكن أمبابي عاد واشار الى أن بعض هؤلاء كان يعمل ضد أي شكل من أشكال الحرية ولا يهمه الإبداع أو الفكر. فقد كان يعمل ضمن منظومة استبدادية ولا يهمه سوى الوصول لوظائف عليا تخوله النفاذ الى دوائر اعلى في منظومة صنع القرار. وقد راح ضحية لهؤلاء، كثير من الكتاب. وكان هناك الكثير من المآسي التي منها أن تقارير هؤلاء كانت ترشح للوظائف الشاغرة، الاقل كفاءة، دائماً. وبذلك سيطروا على معظم المراكز والمؤسسات الثقافية في الدولة ما أدى الى تردي أوضاعها.

أما أصحاب الأفكار الانسانية الكبيرة فلم يتورطوا في السلطة وحبائلها، حسب أمبابي، وكان هذا سببا في وقوعهم في كثير من الأزمات، ومن هؤلاء الناقد ابراهيم فتحي والقاص محمد ابراهيم مبروك وعبد العظيم انيس والمفكر محمود أمين العالم، وقد دفع هؤلاء ثمنا غاليا لمواقفهم المثالية الداعية الى حفظ كرامة الانسان.

ولم تسلم النساء المعتقلات من السلطة وكتاب تقاريرها، حسب نوال السعداوي. وكانت السلطات ترسل لهن نساء يسجلن كل ما يتفوهن به، ولاحظت السعداوي أنهن غير مدربات وكان بالإمكان كشفهن بسهولة، واشارت إلى أن هذه الأجواء المخابراتية نشرت الشك بين الزميلات المعتقلات. وقد تحدثت عن ذلك في كتابها «مذكراتي في سجن النساء»، وأكدت أن هناك كتابا كبارا يحملون لدى السلطة لقب «كتاب التقارير»، وهم يوقعون بزملائهم ويساهمون في تشريدهم وإيذائهم مقابل ثمن تافه.