الصحف الدينية في إسرائيل ترفض السلام وتخطط لإسرائيل المستقبل

كتاب جديد يكشف خباياها ويفضح عنصريتها وعداءها للديمقراطية

TT

الصحافة الدينية في إسرائيل، تهيمن عليها الحركات اليهودية المتشددة وتخضع مباشرة للحاخامات والقادة الدينيين، وتتسع فيها قائمة الممنوعات التي تتسق مع العقيدة اليهودية، بل وتتجاوزها إلى نوع من التشدد يحرمها من استخدام الكثير من الكلمات والتعبيرات، أو عرض العديد من الأفكار أو حتى توظيف الصور. انها صحف مسخرة لخدمة مصالح الحاخامات، وللتنافس فيما بينهم، كما أنها صحف لا تؤمن بالديمقراطية، ولها رؤيا لإسرائيل تخالف تماما تلك التي يريدها العلمانيون أن تسود.

تفرض الصحف الدينية في إسرائيل، وصاية على القارئ فتختار الأخبار والقضايا التي تعتقد أنها مناسبة له وتحجب الموضوعات التي ترى أنها تشوش عليه إيمانه وعقيدته. إلا أن هذه الصحف تعد الوسيلة الوحيدة للتعرف على الأحداث وما يدور في العالم لدى المتدينين اليهود. فهم محرمون من الاطلاع على الصحف العلمانية والإنترنت ومشاهدة التلفزيون والاستماع إلى الإذاعة.

وقد قامت الصحافة الدينية اليهودية بدور، قبل قيام دولة إسرائيل يختلف عن الدور الذي تقوم به في الوقت الحاضر. فالصحيفة العبرية منذ نشأتها روجت للعديد من الأفكار كالدعوة لحركة التنوير اليهودية في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم الترويج للحركة الصهيونية واللغة العبرية كلغة الاستيطان في فلسطين. وقد ظلت السمة الأيديولوجية من أهم سمات هذه الصحافة، كما ارتبطت بوسائل الدعاية الإسرائيلية عموما بأهداف السياسة الخارجية ومنها المحافظة علي ما يطلق عليه الوجود القانوني لإسرائيل، وضمان أمنها الإقليمي وزيادة أعداد المهاجرين اليهود، وتنسيق المصالح مع القوي الكبرى لضمان التفوق على الدول العربية.

في هذا السياق يأتي هذا الجهد المتميز الذي بذله الباحث أحمد فؤاد أنور، وهو متخصص في الشؤون الاسرائيلية من خلال كتابه «الصحافة الدينية في إسرائيل بين قضايا الصراع مع العرب والتناحر الداخلي» الذي صدر أخيرا عن «عالم الكتب» في القاهرة.

حق القارئ في ألا يعرف

يذكر المؤلف في بداية الكتاب بعض القواعد التي تلتزم بها الصحافة الدينية في إسرائيل مثل قاعدة «حق القارئ في ألا يعرف»، وهو المبدأ الذي تطبقه بصرامة لجان رقابة داخلية في كل صحيفة، وقاعدة منع نشر صور للنساء في الصحف الدينية مع استثناءات قليلة لزوجات أو بنات أو حفيدات شخصيات دينية. وقد وصل التشدد، درجة تدعو للسخرية. ففي فبراير (شباط) 1988 نشرت الصحف العلمانية إعلانا لنوع من حفاضات الأطفال، تبدو فيه طفلة رضيعة ترتدي حفاضة. وقد نشرت صحيفة «عيريف شبات» الدينية الإعلان أيضا، لكن بعد أن أدخلت عليه تعديلات، حيث تم عمل مونتاج بالصورة لترتدي نفس الطفلة قميصا مع قلنسوة الصلاة على رأسها، وتتحول لطفل ذكر.

ويشير الكتاب الى قاعدة ثالثة، تتمثل في انه لا توجد في الصحف الدينية ظواهر سلبية تثير الغرائز أو بها قدر من الإثارة، وفي الأغلب يتم تخصيص رقيب للتأكد من حذف أي مواد بها شبهة. ومن النماذج على ذلك الغضبة الشديدة التي ثارت في اعقاب نشر «يتيد نئمان» خبرا ذكر كلمة «اغتصاب» في تقديمه لحادثة وقعت بين مجندٍ ومجندة، وقد تلقت الصحيفة سيلا من المكالمات التلفونية الغاضبة، لنشر كلمة «اغتصاب»، واضطرت «يتيد نئمان» لإصدار بيان في العدد التالي قالت فيه على لسان رئيس التحرير: لقد كان مراقب الصحيفة منهكا من صوم التاسع من أغسطس، في يوم طويل وحار، لذا لم ينتبه لهذه الكلمة التي تضمنها الخبر.

أما القاعدة الرابعة التى تلتزم بها هذه الصحف كما أشار الكتاب فهي عدم تغطية الأنشطة الرياضية، حتى ولو كانت متعلقة بفوز فرق إسرائيلية ببطولات رسمية أوروبية، بل قد يتم نشر بعض الاخبار عن البطولة والفريق الإسرائيلي بشكل سلبي لو حدث تدنيس للسبت، ولا توجد أيضا أخبار فنية عن ممثلين أو مغنيين باستثناء منشدين للأغاني الدينية. ومن القواعد الأخرى انه لا توجد أية إشارات للحاخام المنافس للحاخام الذي يتزعم التيار الديني، الذي تعبر عنه الصحيفة.

ويؤكد المؤلف أن القوي الدينية في إسرائيل، تنظر للصحف المعبرة عنها كأداة في الصراع والتصدي، لما تسميه إعلاما معاديا أي الصحف العلمانية. كما تتفق الصحف الحزبية الدينية في عدم السعي وراء الأرباح وضعف إمكاناتها الفنية. ويتناول الكتاب الجديد، طريقة معالجة الصحافة الدينية لقضية الصراع بين المتدينين والعلمانيين الذي تعود جذوره الأولى إلي حياة اليهود خارج فلسطين وانقسامهم إلى غالبية علمانية وأقلية متدينة. ورغم اشتراكهم معا في بناء دولة واحدة، ظل الخلاف قائما، ومن المتوقع أن تتزايد حدته في المستقبل، خاصة وأن غالبية الاحتجاجات تأتي من جانب المتدينين الذين يتهمون الجانب الآخر بالجهل بالدين إلى حد مساواتهم بغير اليهود الذين لا يتمتعون بقدسية شعب إسرائيل النابعة من سموه الروحي فوق كل شعوب الأرض. وتشجع الصحف الدينية علي الانعزال عن العلمانيين، كإقامة كل طائفة في منطقة خاصة بها، كما ترفض مؤسسات وقوانين الدولة بما فيها القضاء لعدم تطبيقها للشريعة اليهودية.

ويذكر الكتاب بعض وجوه الخلاف بين المتدينين والعلمانيين التي تلعب الصحف الدينية فيها دورا بارزا، خاصة حول أساليب التنظيم الداخلي للمجتمع كتطبيق أحكام يوم السبت وترجع قدسيته إلي تمثيله ـ طبقا للعقيدة اليهودية ـ لإحدى صفات الرب بخلق العالم في ستة أيام والتوقف في اليوم السابع، وضرورة أن يسير البشر على نفس النهج، وكذلك امتنانا للتحرر من العبودية بخروج بني إسرائيل من مصر. فيكون السبت، بذلك، راحة لجميع المظلومين، ولا يمثل بالنسبة لليهودي المتدين مجرد عطلة لتلاوة الصلوات، بل سكون تام وانقطاع عن العمل والحركة. فيسعى لفرض احترامه على الجميع. الأمر الذي يعارضه العلمانيون بسبب تقييد حريتهم في المقاهي والسفر والسينما. وتعبيرا عن هذا الموقف تدعو الصحف الدينية إلى فرض احترام السبت بكل الوسائل بما فيها مقاطعة العلمانيين، وممارسة الضغوط الاقتصادية عليهم، كما توجه انتقادات حادة لكبار السياسيين لقيامهم بمحادثات وأنشطة تنتهك حرمة يوم السبت مثل انتقاد رئيس الوزراء الأسبق باراك لمحادثاته في «واي بلانتيشن» يوم السبت.

ويوضح الكتاب أن الصحف الدينية تتبنى نفس الموقف فيما يتعلق بالأطعمة الشرعية، فتعمل على حمل الدولة على الالتزام بها في كل المؤسسات الحكومية وشركات الطيران والملاحة، رغم تضرر أصحاب الفنادق والمطاعم من ابتزاز الحاخامات للحصول على تراخيص شرعية، تتعدى تكاليفها عشرات الملايين من الدولارات سنويا. ويخصص المؤلف مساحة كبيرة يرصد فيها أوجه الخلاف في المجتمع الإسرائيلي حول واجب التجنيد في الجيش ـ والمفروض إجباريا من سن 18 سنة ـ والمطالبة بتطبيق ذلك على كل أبناء الدولة وليس العلمانيين فقط. حيث يعفي القانون طلبة المدارس الدينية والفتيات المتدينات من التجنيد ويفرض عليهم أحيانا تأدية خدمة مختصرة من شهرين لأربعة شهور وعلى الفتيات تأدية الخدمة الوطنية البديلة. فالعلمانيون يرون أن هذا بمثابة تكريس لعدم المساواة، وتفريق لوحدة المجتمع. ويشمل الخلاف أيضا مدى أحقية الجندي المتدين في عدم تنفيذ الأوامر التي يراها غير متسقة مع الشريعة، كرفض الانسحاب من بعض الأراضي، وتحريم إخلاء القتلى والمصابين يوم السبت. ويؤكد المؤلف أن الصحف الدينية تنظر لدعوة تجنيد طلبة المدارس الدينية بوصفها كارثة تؤدي بهم إلى الإصابة والموت والابتعاد عن الطريق القويم، لأنها ترى الجيش معقلا للحياة العلمانية، وأن الطلاب بدراستهم للتوراة يحفظون وجود إسرائيل.

ويعالج المؤلف قضية مهمة بالنسبة للعرب والمسلمين، تتمثل في موقف الصحافة الدينية في إسرائيل من العلاقات مع مصر، ويشير إلى أن مصر ارتبطت في أذهان اليهود بالعذاب والعبودية على يد فرعون حتى حررهم الرب وأخرجهم منها. وكثيرا ما تسقط الصحافة الدينية نصوصا قديمة عن كراهية مصر الفرعونية على العلاقات مع مصر المعاصرة، من خلال التأكيد على جذور العداء التاريخية والدينية، وتؤمن بأنه كما كان التنافس بين موسى، عليه السلام، وفرعون على السيادة، فإن مصر تخشى منافسة إسرائيل لها، فتسعى لإضعافها بإلزامها التخلص من سلاحها النووي. كما تروج هذه الصحف لضرورة عدم الركون لاتفاقيات السلام الموقعة بين البلدين، لأن مصر، حسب زعمها، ما زالت الخطر الأكبر على إسرائيل وتخطط لشن حرب مقبلة مع استخدام معلومات غير موثقة حول أسلحة مصر البيولوجية والنووية والكيمائية. أيضا تحذر الصحف الدينية من وصول إسلاميين للحكم في مصر، وإلغائهم للاتفاقيات الموقعة، وتركز على انتهاك مصر لاتفاقية السلام برفض التطبيع الاقتصادي ومشروع الشرق أوسطية الذي سيخرج إسرائيل من عزلتها والرفض الشعبي الكبير للتطبيع الثقافي وشيوع الروح العدائية تجاهها في الإعلام، كما تنتقد تردد القيادات السياسية الإسرائيلية على مصر، لأنها برأيها وسيط غير محايد في عملية السلام.

يتطرق الكتاب إلى موقف الصحافة الدينية من قضية السلام مع الفلسطينيين باعتبارها جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، مشيرا إلى أن الصحف الدينية تدعو لإلغاء اتفاقيات أوسلو بدعوى انتهاك الفلسطينيين لها، وسعيهم لمواجهة شاملة مع إسرائيل، واستغلال المفاوضات لكسب الوقت فقط. وتتهم هذه الصحف الحكومات الإسرائيلية بالخيانة لتوقيعها هذه الاتفاقات المسؤولة عن مقتل أعداد كبيرة من اليهود، وتعتبر أن احتلال أرض فلسطين تطبيق للإرادة السماوية، وأي تنازل عن هذه الأرض هو مخالفة للشريعة تستوجب العقاب الإلهي. كما تكتسب أي جريمة ضد الفلسطينيين شرعية وقدسية، كما لو كانت قربانا من أجل رضا الرب.

ويذكر المؤلف، ان الصحافة الدينية تتبنى نفس الموقف والأسلوب في تناولها لأوضاع مدينة القدس، باستغلال أكاذيب حول حق اليهود التاريخي فيها، وأنها المكان الوحيد والمناسب لتنفيذ التوراة، وتؤكد على الرفض التام للتفاوض الحالي أو المستقبلي حول القدس أو القبول بحلول وسط فيها، وترى ان مواجهة الضغوط المستمرة علي إسرائيل بشأن القدس يكون بتأجيل المفاوضات حتي تستكمل خطط تهويد المدينة وبسط سيطرة إسرائيلية كاملة على الحرم القدسي لإقامة الصلوات فيه.