«الفلسطينيون في لبنان» أزمة متفجرة والحوار هو الحل الأوحد

ممنوعون من ممارسة 60 مهنة أو من تملّك سقف يحميهم

TT

كتاب «الفلسطينيون في لبنان» أشرف على إعداده شوكت أشتي، وأجرى حواراته الثرية غازي خلف الذي وافته المنية بعد أن أتمه، وساهم بتصحيحه، وبدأ حبر المطبعة يدمغ حروفه على الورق.

المؤلّف عبارة عن حوارات مع القوى والأحزاب وشخصيات سياسية وأكاديمية فلسطينية ولبنانية ذات صلة بموضوع الوجود الفلسطيني في لبنان، أملاً بإرساء أطر ناظمة تحكم العلاقات بين الشعبين، بعيداً عن التوتر واستحضار رواسب الماضي ومآسيه، وذلك بطرح الأمور الخلافية بهدوء وجرأة بدءاً من طبيعة العلاقات وعثراتها، مروراً بالحقوق الإنسانية والاجتماعية وضروراتها، وصولاً إلى مسألة التوطين وانفلاش السلاح الفلسطيني. وذلك بهدف الوصول إلى أسس مشتركة سياسية وعقلانية للتضامن والتلاقي المشترك مما يخدم قضية الشعبين.

القسم الأول من كتاب «الفلسطينيون في لبنان»، يحمل عنوان «كيف ينظر الفلسطينيون إلى وجودهم في لبنان؟». وهو عبارة عن حوارات أجريت مع ثماني جهات، بينها حركات ومنظمات وجبهات وفصائل وشخصيات فلسطينية تمثل مختلف الآراء. أما القسم الثاني، فيحمل عنوان «كيف ينظر اللبنانيون إلى الوجود الفلسطيني في لبنان؟»، وفيه حوارات مع أناس يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي اللبناني من يساريين ويمينيين ومعتدلين ومتطرفين، ينتمون إلى 18 حزباً وحركة، إضافة إلى ثلاث شخصيات، تمثل تيارات شعبية واسعة فتم بذلك عرض آراء معظم شرائح الشعب اللبناني إن لم نقل أجمعه. أما القسم الثالث فقد خصص لوقائع اللقاء اللبناني الفلسطيني. وهي الندوة التي عقدها قادة وممثلو الأحزاب اللبنانية والفصائل الفلسطينية وحشد من الشخصيات والهيئات السياسية لمعالجة موضوع التوطين ومقاومته من خلال النقاش والحوار بين اللبنانيين والفلسطينيين، وللبحث في الحقوق الإنسانية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان.

بعدما احتضن الشعب اللبناني أفواج اللاجئين بعد نكبة 1948، سرعان ما اختلفت القوى والهيئات السياسية حول الموقف تجاههم. لأن الوضع الفلسطيني في لبنان يملك خصوصية في بلد يعاني بدوره من خصوصية تكوينه القائم على التوازن الطائفي الدقيق والحساس، ومن شأن الاخلال بأي من مكوناته أن يهدد بتفجير الكيان اللبناني برمته. فتجربة الحرب الأهلية ما زالت حاضرة في الأذهان وتشكل دليلاً كافيا على صحة هذا القول.

يقول الفلسطينيون إن السلبية كانت وما زالت عصب الموقف الرسمي اللبناني المحكوم باعتبارات طائفية ومذهبية، أفضت بدورها إلى تنمية ورعاية ظاهرة التناقض بين الشعبين. ومن الواضح أن مجموعة عوامل قوية التأثير جعلت من الفلسطيني ضيفاً غير مرحب به. ولعل الدور الفلسطيني في الحرب اللبنانية يأتي في مقدمة هذه الأسباب. وبصرف النظر عن واقعية من يتحمل مسؤولية إشعال تلك الحرب، وعناصر التفجير الداخلية والاقليمية الأخرى فهناك اتجاه قوي لإرغام الفلسطينيين على دفع فاتورتها كاملة.

إن معاناة الشعب الفلسطيني في لبنان هي أولاً، كما اتفقت جميع الحوارات ـ من منطلقات مختلفة ـ تتجلى في القيود التالية:

ـ القيود المتعلقة بالسكن: فعلى الرغم من تضاعف أعداد اللاجئين عدة مرات منذ العام 1948 بحكم النمو الطبيعي للسكان البالغ 3% سنوياً (إذا استثنينا الأعداد الوافدة بعد هذا التاريخ). فإن الحكومات اللبنانية المتعاقبة رفضت إعادة بناء المخيمات كما رفضت بناء مخيمات جديدة أو توسيع المخيمات القائمة. كما أن ترميم بعض المنازل دونه معوقات لا حصر لها. بفعل هذه السياسة فإن مخيمات الفلسطينيين تعاني من عدم توافر أبسط الشروط اللازمة للحياة الإنسانية. فالاكتظاظ السكاني بلغ 18 شخصاً في المائة متر، فضلاً عن عدم توافر مصادر المياه الآمنة وانعدام الأساليب المناسبة للتخلص من النفايات.

ـ القيود المتعلقة بحق العمل: بناء على التشريعات اللبنانية لا يحق للفلسطيني المقيم في لبنان مزاولة أي عمل دون الحصول المسبق على إذن من وزارة العمل. وعليه يحظر على الفلسطيني مزاولة ما يناهز 60 مهنة بينها الطب والصيدلة والمحاسبة والهندسة والسكرتيريا والنقل العام. لذلك فالعمالة الفلسطينية لا تجد لها مكاناً إلاّ في سوق الأعمال الدنيا كالزراعة وقطاع البناء، مع المنافسة المتزايدة في هذين القطاعين مع اليد العاملة العربية والآسيوية. كما أن العمال الفلسطينيين لا يحق لهم الاستفادة من الضمان الاجتماعي على الرغم من إلزامية دفعهم رسوم هذا الضمان. هكذا تتفشى ظاهرة البطالة وترتفع معدلاتها. ومع تدهور الأوضاع المعيشية نتيجة تراجع تقديمات منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وخدمات «وكالة الأونروا» أصبح الوضع الاجتماعي والصحي والتربوي مأساوياً. مما حدا بالأولاد للتسرب من المدارس وانخراطهم في قطاعات العمل القاسية.

ـ قيود تحديد حق الإقامة والتنقل: تفرض التشريعات اللبنانية على الفلسطينيين الإقامة في أماكن محددة، كما تفرض الأنظمة التنقل بموجب تراخيص خاصة دونها الكثير من الصعوبات. وهناك قيود إقامة المؤسسات، والعمل النقابي، والحريات السياسية، والملكية: لا يستطيع الفلسطيني ممارسة حقه في حرية الرأي، أو في إنشاء مؤسسة خاصة به، وتشترط القوانين شروطا صعبة وعالية الكلفة من حيث رسوم التسجيل لتملك مسكن شرط انتفاء ملكيته لمسكن آخر.

وتخضع هذه القيود لاعتبارين أساسيين: الأول، الموقف من القضية الفلسطينية بحد ذاتها. فقد صرّح المحاورون على اختلاف انتماءاتهم بالتأكيد على حق العودة ورفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فالنظرة اللبنانية ورغم كافة الانتماءات والخلفيات والتعرجات لحظت الأطماع الصهيونية تجاه لبنان. وأكدت الأحداث والوقائع ومجريات الأحداث هذا الاتجاه. الأمر الذي جعل التضامن مع القضية الفلسطينية، وخصوصاً حق العودة جزءاً من التضامن مع الذات في الدفاع عن الوجود الوطني والهوية، ومنعاً للاختلالات الخطيرة في التركيبة اللبنانية.

إن اللبنانيين أخذوا في تفهم الواقع الفلسطيني خصوصاً بعد اتفاق الطائف، ومسيرة السلم الأهلي التي جعلت الفرصة مناسبة لبحث القضايا كافة بجدية ومسؤولية. غير أن القرار الدولي رقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن في العام 2004 أجَّج الوضع مجدداً حيث ركز في بنده الثالث على تفكيك الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها. وفي بنده الرابع أكد على ضرورة مد سلطة الحكومة اللبنانية إلى كل الأراضي اللبنانية.

بالتالي جذب هذا القرار الوجود الفلسطيني إلى شقه الأمني، وحصره في المجال المتفجر وفي الحدود الخلافية، مما زاد التوتر وعمٌق الارتباكات الفلسطينية ونفخ في جمر العلاقات اللبنانية الفلسطينية خاصة أن المطب الأخطر تمثل في التعبئة السياسية لتطبيق القرار الدولي من البوابة الفلسطينية والسلاح الفلسطيني قبل تطبيق القرار بأبعاده اللبنانية. ولهذا التوجه أبعاده الداخلية وامتداداته الإقليمية وغاياته الإقليمية والدولية التي تلحق الضرر بلبنان والقضية الفلسطينية.

هذا القرار يحتاج إلى وقفة عقلانية، فهل يمكن أن نرتقي إلى مستوى هذا التحدي؟ وهل يمكن أن نزيل فتائل الألغام؟ خصوصاً إن اللبنانيين والفلسطينيين، وهذا ما تشير إليه الحوارات في هذا الكتاب، متفقون على أسس جوهرية في علاقاتهم تتمثل بإجماع اللبنانيين والفلسطينيين على إقامة وترسيخ أسس موضوعية لبناء تصور مشترك لعلاقات مستقبلية غير خاضعة للأهواء، قاعدتها المصالح المشتركة والانتماء الواحد.

وأجمع اللبنانيون والفلسطينيون على رفض التوطين ورفض كل الأشكال الملتوية لمحاولة تمريره.. اللبنانيون لأنهم مصرون على حماية وطنهم وصون وحدته، والفلسطينيون لأنهم يتمسكون بهويتهم في وجه محاولات الطمس والإلغاء. وهذا التقاطع حول هذا الموضوع يسحب أحد أهم الفتائل المفجِّرة، الأمر الذي يجعل فسحة الحوار أكثر اتساعاً.

أما بالنسبة للحقوق المدنية والإنسانية: يتفق اللبنانيون والفلسطينيون على أن الأوضاع في المخيمات غير إنسانية ويجب تحسينها. ويتفق الطرفان على أن إقرار الحقوق الإنسانية والمدنية لتخفيف حدة التوترات الاجتماعية والنفسية والسياسية. ولإقرار هذه الحقوق يفترض بالفلسطينيين الإقرار بسلطة الدولة واحترام القوانين النافذة. وهذا يفترض رفض كل مظاهر ما أطلق عليه «الغيتوات» أو الجزر الأمنية.

كما يفترض أن تقوم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بمسؤولياتهم تجاه اللاجئين الفلسطينيين، بتنشيط دور الأونروا، والاهتمام برعاية قضايا اللاجئين وشؤونهم الحياتية. كما أن على الجامعة العربية بما يفرضه عليها الواجب القومي الاهتمام بأوضاع اللاجئين الحياتية والمعيشية.

أما السلاح الفلسطيني، والذي تطرق له الكتاب، فمن المفيد الإشارة إلى أن ما تمر به المنطقة ولبنان والتحولات التي شهدها لبنان بعد 14/2/2004 وما انتجه 11/9/2001 من حروب واحتلالات وإملاءات، وتعاظم العنصرية الصهيونية ضد شعب فلسطين وأرضها زادت الموضوع تعقيداً. غير أنه من الممكن التوافق اللبناني الفلسطيني على ضبط هذا السلاح بعيداً عن التسيب والانفلاش بما يخدم مصلحة الطرفين.

إن معالجة الموضوع الفلسطيني في لبنان وبحثه بشفافية وجرأة وبكافة تفاصيله وقضاياه أصبح قضية وطنية إضافة لكونه قضية قومية. وهذا الأمر يستلزم المزيد من المكاشفة والحوارات. وقد أثبت هذا الكتاب أن إمكانية الحوار موجودة بالفعل وما علينا سوى التقاطها وتثميرها لخدمة فلسطين ولبنان.