فساتين النساء الجزائريات سجلات لتاريخ وطني من الأحداث الجسام

قراءة في إبداعات تجار الأقمشة

TT

أسماء أقمشة الفساتين النسائية في الجزائر، تكاد تتحول إلى سجل للحقب السياسية والثقافية التي مرت بها البلاد. فتجار الأقمشة لا يفوتون فرصة إلا ويستغلونها للترويج لبضائعهم، وربطها بالحدث الساخن والمزاج العام، وهنا محاولة لفهم العلاقة بين أسماء الأقمشة والأحداث السياسية المتلاحقة التي عصفت بالجزائر منذ سبعينات القرن الماضي.

ما تزال المرأة الجزائرية ترتدي أنواعا من الفساتين التقليدية، يتم شراء اقمشتها المستوردة من الشرق أو الغرب، ثم تخاط في ورشات صغيرة في البيوت، وتسمى تلك الأنواع من الفساتين بأسماء مختلفة، في كل منطقة من مناطق البلاد الشاسعة، مثل «البينوار» أو «الجبة» أو «الروبة» (وهي مأخوذة من اللغة الفرنسية)، أو القندورة، وغير ذلك من التسميات. والقضية ليست هنا، بل تكمن في تسمية أنواع القماش التي تصنع منها تلك الفساتين. وهي في العادة من وضع تجار محترفين يلعبون على «موضة» كل مرحلة التي قد تكون سياسية أو ثقافية أو فنية أو رياضية أو اجتماعية، فيطلقون الأسماء على تلك الأقمشة من وحي المرحلة. ولو عدنا إلى الوراء قليلا واستحضرنا بعض تلك التسميات لتمكنا من إعادة كتابة بعض من تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي والثقافي من خلال ذلك.

من اشتراكية بومدين إلى ليبرالية الشاذلي

في جزائر سبعينات القرن الماضي، أيام العقيد الراحل هواري بومدين ونهجه الاشتراكي وثوراته الثلاث (الزراعية والثقافية والصناعية)، كان الممثل الرسمي للفن بدون أي منزع هو رابح درياسة، الذي تغنى بالتأميمات وتلك الثورات وهو يقول في إحدى أغنياته «خذ المفتاح وافتح دارك يا فلاح»، في إشارة إلى مشروع «ألف قرية فلاحية اشتراكية»، كان نظام بومدين يزمع تشييدها في إطار الثورة الزراعية. وكان لزاما على تجار تلك المرحلة أن يركبوا الموجة ويسموا بعض الأقمشة بأسماء بعض أغاني رابح درياسة التي كانت مكرسة في الإذاعة والقناة التلفزيونية الوحيدة، وما تزال النسوة في بعض مناطق الشرق الجزائري يذكرن فساتين «وردة بيضاء»، و«نجمة قطبية»، وهي من عناوين أغاني رابح درياسة. وفي نهاية السبعينات وقبيل موت الزعيم، ظهرت مطربة شابة وقتها، هي زليخة (توفيت بالسرطان في بداية التسعينات) بأغنية «صب الرشراش» وكانت قنبلة المرحلة، وجاء قماش اسمه «صب الرشراش».

ومات العقيد هواري بومدين في نهاية سنة 1978، ووصل إلى الحكم عقيد آخر هو الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، الذي عرف بنهجه الليبرالي وبشعار «من أجل حياة أفضل»، وهي دعوة للرفاهية معاكسة للتقشف الاشتراكي الذي ذهب مع بومدين. ولما كان الشاذلي بن جديد غريبا في شكله، وهو أبيض الشعر تماما، وشنبه أبيض هو الآخر، جاء قماش اسمه «شلاغم الشاذلي» (شنبات الشاذلي). ومن أعاجيب القدر أن الشاذلي بن جديد تخلص من شنباته بعد ذلك وبقيت تسمية القماش شاهدة على ذلك. وتزامنا مع تلك المرحلة الانفتاحية، كان التلفزيون الرسمي بقناته الوحيدة يبث مسلسلا أميركيا مدبلجا إلى اللغة الفرنسية هو «دالاس»، الذي يمثل الحلم الأميركي بكل أبعاده وجاء قماش بتسمية «دالاس»، مثلما جاء قماش آخر باسم «باميلا» وهي إحدى بطلات التلفزيون الغربيات.

«خطوة ماجر في إسبانيا»

تزامنت سياسة الانفتاح التي جاء بها نظام الشاذلي بن جديد مع العصر الذهبي الذي عرفته كرة القدم الجزائرية مع النجوم مصطفى دحلب ورابح ماجر والأخضر بلومي وغيرهم كثر، وما زال الناس في الجزائر يذكرون ما سمي في الاعلام الجزائري «ملحمة خيخون» وهو المكان الذي لعب فيه رفقاء بلومي في مونديال إسبانيا وفازوا في مباراة تاريخية على منتخب ألمانيا الاتحادية بهدفي رابح ماجر والأخضر بلومي. ولما كان رابح ماجر الشاب الوسيم نجما مسجلا للأهداف، ظهر قماش حمل اسم «خطوة ماجر في إسبانيا». واليوم وفي ظل الانهيار الذي تعرفه الكرة الجزائرية، ما زالت تلك التسمية تعيدنا إلى ذلك العصر الذهبي الذي يتمنى معظم الجزائريين «أن يعود يوما».

ومع تلك المرحلة تراجعت الأغنية الرسمية، لصالح أغنية الراي الآتية من الهامش والحاملة لخطاب مضاد للخطاب الرسمي. وفي قمة نجاح الشاب خالد والشاب مامي، قرر رابح درياسة اعتزال الفن (قبل أن يعود في السنوات الأخيرة ببعض الأغاني الوطنية) احتجاجا على ما أسماه «تشجيع الراي» وبقيت الأقمشة التي تحمل أسماء بعض أغانيه شاهدة على مرحلة لن تعود، وتعددت أسماء الأقمشة متخذة من بعض أغاني المرحلة أو من نجوم التلفزيون أسماء لها. ولما جاءت مرحلة التسعينات، وما تبعها من عنف دموي جاءت معها المسلسلات الميكسيكية والبرازيلية والفنزويلية المدبلجة إلى العربية هذه المرة، وظهر في نهاية التسعينات قماش باسم «كاسندرا» وهي بطلة المسلسل الأميركي ـ اللاتيني المدبلج الشهير.

في نهاية تسعينات القرن الماضي، جاء إلى الحكم عبد العزيز بوتفليقة حاملا معه مشاريع السلم من «الوئام المدني» إلى «المصالحة الوطنية»، ولم تكن لتمر تلك المشاريع السياسية هكذا، دون أن يستغلها تجار الأقمشة النسوية في سلعهم، وهكذا هم يعملون مع كل حدث أو موضة سياسية أو ثقافية أو فنية. ففي كل موسم تظهر في السوق المحلي أقمشة جديدة تحمل التسمية التي تدغدغ مشاعر الجماهير، وتؤرخ للمرحلة باسم قماشة ما.

واليوم وبعد نطحة اللاعب ذي الأصل الجزائري زين الدين زيدان للاعب الإيطالي ماتيرازي قال أحدهم ساخرا أنه ينتظر قماشا باسم «نطحة زيدان في ألمانيا» على غرار «خطوة ماجر في إسبانيا» وقد يحدث ذلك، فمن يدري؟