والدة جبران خليل جبران مسترجلة وجدته تسلقت جبل الأرز على ظهر حصان

علاقته الملتبسة بالمرأة تفسرها شخصية أم فولاذية ومتمردة

TT

علاقة جبران خليل جبران بالمرأة شغلت الباحثين، ومع ذلك نادراً ما سلط الضوء على والدته وتأثيرها المباشر على سلوكه. علماً بأن هذه الأم كانت ذات شخصية قوية واستثنائية، وحياتها وحدها تستحق دراسة منفردة، فهي جريئة وقوية، وصاحبة نزعة استقلالية، تتزوج من تريد وتطلّق حين تشاء، كما انها ركبت البحر مع أطفالها إلى الولايات المتحدة الأميركية، يوم كانت الهجرة حملا، تنوء به كواهل الرجال. فإلى أي مدى أثرت مغامرات كاملة رحمة على حياة ابنها جبران.

في مسرحية «الوجوه الملونة» لجبران خليل جبران، تلعب حنة البشواتي دور الخادمة في منزل عائلة لبنانية ثرية في نيويورك. والخادمة حنة هاجرت من شمال لبنان، وكانت في بحبوحة من العيش، وذات منزلة محترمة». وتلعب الآنسة وردة العازار، في المسرحية القصيرة، دور الفتاة المثقفة ذات الشخصية القوية التي تتكلم في الصالونات «الرجالية» بمعرفة عميقة ونبرة عالية، مخالفة التقاليد التي تقضي بأن تبقى «صامتة صمت القبور، جامدة جمود الصخور».

ليس اسهل من الاستنتاج بأن حنة البشواتي هو الاسم المستعار لكاملة اسطفان عبد القادر رحمة (1854 ـ 1903) زوجة خليل يوسف جبران، ووالدة الاديب والرسام الشهير جبران. فهي من مصيف بشري في لبنان الشمالي، وتنتمي الى عائلة رحمة المرتاحة مالياً والمحترمة اجتماعياً، وقد اضطرتها الظروف الى استيطان بوسطن والخدمة في المنازل. وكان جبران الرسام دقيقاً في لوحته «وجه أمي وجه امتي». ذلك ان امته كانت ـ وما زالت ـ مريضة، حزينة، فقيرة، كما هو حال امه.

ولكن، هل تكون وردة العازار الاسم المستعار الآخر لأم جبران الذي يعرفه جبران ويجهله الآخرون، والذي يجسّد التمرد والقوة والاستقلال والجمال؟ بسؤال آخر، هل اراد الرسام، عبر لوحته «وجه امي وجه امتي» ان تكون امته مستقلة، حديدية، متواضعة وطموحة، اسوة بأمه؟ هذا السؤال يطرح نفسه في ذكرى مرور ثلاثة ارباع القرن على رحيل جبران، لأن الاجابة عنه، قد تكشف عمق احد محاور نتاجه وجهاده، وهو نصرته لتحرير المرأة بلا حدود.

كانت كاملة رحمة جبران مزواجة. تزوجت، اولاً، من حنا عبد السلام رحمة، الذي اصطحبها الى مكان هجرته البرازيل. وكان ثمرة الزواج الاول، الطفل بطرس. ولكن الزوج رحل بُعيد ولادة طفله الوحيد. وسرعان ما عادت الارملة كاملة مع طفلها الى بشري، لتعيش في منزل اهلها. ولكنها لم تطو صفحة الزواج او تؤجله. فهل كان خليل جبران العريس رقم 2؟

معظم الذين كتبوا سيرة جبران كرروا ما ذكره جميل جبر في كتابه «جبران» وخلاصته ان كاملة «لما عادت الى ابويها، سمعها خليل تغني المواليا ذات يوم، فاضطرب، وقاربها، وما انفك حتى نال يدها. وقد ولت منه سلطانة ومريانة، بعد جبران». ص 15

ربما يعود خطأ هذه المعلومة الى عدم معرفة د. جميل جبر، والدكاترة انطون غطاس كرم والشاعر خليل حاوي والآخرين، الى جهلهم بوجود وثيقة هامة في محفوظات البطريركية المارونية. وقد نشرها الدكتور بولس العاصي طوق في الجزء 12 من كتابه «شخصية جبران في ابعادها التكونية والحياتية». وتضم الوثيقة، وقائع الجلسات التي عقدتها المحكمة الروحية المارونية للنظر في دعوى الطلاق التي قدمتها بحجة ان الزواج غير مشروع لوجود صلة قربى من الدرجة السابعة مع العريس. ومن خلال جلسات الاستجواب وقرار المحكمة، تتماهى كاملة رحمة مع وردة العازار التي خرجت من اجتماعها بالرجال «بشدة وعزم».

كانت كاملة رحمة في السادسة والعشرين لحظة دخولها القفص الذهبي للمرة الثانية، في 14 آب 1880، كان العريس الجديد من بشري ويدعى يوسف الياس جعجع، وهو اصغر منها بعامين. جرى الاكليل في منزل ساسين جعجع ابن عم العريس، بقيادة الخوري حنا جعجع وحضور الاشبينين او الشاهدين حنة رحمة وصاحب المنزل.

لم يدم الزواج اكثر من شهر بسبب اصرار الزوجة على الطلاق وليس لوجود مانع شرعي يمكن تذليله من قِبل المحكمة. ولنقرأ الحوار التالي بين رئيس المحكمة وكاملة رحمة الذي جرى في جلسة استجوابها بتاريخ 25 ايلول/ سبتمبر 1880.

> ما هي دعواكِ؟

ـ انا ادعي بطلان زواجي بيوسف الياس جعجع، لوجود مانع قرابة دموية بوجه سابع، ظهر بعد الاكليل، ولم اقبل بحله.

> هل كان بينكما معاشرة قبل التكليل، او عهد بالزواج؟

ـ كلا. لم يكن بيننا معاشرة قبل الاكليل ولا عهد ولا وعد بالزواج.

> هل تساكنتما بعد الاكليل، وتم بينكما التصرف الزواجي؟

ـ كلا، لم نتساكن بعد الاكليل، ولا تم بيننا شيء من التصرف الزواجي ولا مرة واحدة. لأننا بعد الاكليل، انصرف كل منا الى بيته، وبقينا كذلك حتى الآن دون ان نختلي مع بعضنا البتة.

> ما هو سبب عدم رضاك بحل المانع واصلاح الزواج؟

ـ اني منذ الابتداء، لم اكن ارغب الزواج، لأني ارملة ولي ولد قاصر يهمني ان اربيه وابقى بحريتي وراحتي.

لم يقتصر التحقيق على افادة العروس. فقد خصصت المحكمة جلستين لسماع افادة الشهود الرئيسيين وهم: العريس، الاشبين، الاشبينة، والكاهن الذي اقام مراسم الزواج.

سئل الكاهن حنا جعجع: «هل اخذت رضى كل منهما بالزواج»؟ فأجاب: «نعم، اخذت رضاهما، فقد صرحا به امامي وامام الشهود». وسئلت الاشبينة حنة رحمة، وهي من عائلة العروس: «هل كان يوسف يتردد على كاملة قبل الاكليل؟ وهل كان بينهما عهد او وعد بالزواج؟». فأجابت: «نعم، اعلم ان يوسف يتردد على كاملة قبل الاكليل بنحو سنة، وكان بينهما عهد ووعد بالزواج». وعندما سئلت عما اذا تساكنا بعد الاكليل بحسب سنة الزواج»؟ قالت: «نعم، اعلم انهما تساكنا بعد الاكليل وتم بينها التصرف الزواجي، اذ كنت اراهما يرقدان معا في بيتي، واحياناً في بيت اخت كاملة امرأة طنوس رحمة، وذلك نهاراً وليلاً وهي اخبرتني عن تمام التصرف الزواجي بينهما، وكذلك اختها اخبرتني».

وحول المعاشرة قبل الزواج قال العريس «نعم كان بيننا معاشرة قبل الاكليل بمدة عشرة اشهر. وكان بيننا وعود بالزواج. وكنت في هذه المدة اصرف عليها من مآكل وملابس. وقد اعطيتها ستة ريالات مجيدية». واضاف حول المساكنة: «نعم، تساكنا بعد الاكليل بحسب سنة الزواج، وتم بيننا التصرف الزواجي في بيتها وبيت اختها وفي بيت الاشبينة». وحول الموضوع الاخير اكد الاشبين ساسين الياس جعجع «انهما تساكنا بعد الاكليل، وتم بينهما التصرف الزواجي مراراً».

ليس واضحاً السبب الحقيقي لاصرار كاملة على ابطال الزواج. وحتى مسألة الراحة والحرية والتفرغ للطفل بطرس، ليست واردة. ذلك انها تزوجت للمرة الثالثة بعد فترة قصيرة من ابطال زواجها الثاني.

ولكن الواضح الساطع، ان ام جبران استمعت الى الشهادات المناقضة لشهادتها، من غير ان يرف لها جفن او ان تتراجع قيد انملة. ومثل هذا التصرف، في ذلك الزمن، يدل على انها امرأة حديدية، تعبّر عن قناعاتها، وتصر على تنفيذها. ويعزز هذه الحقيقة تنفيذها لمشروع الهجرة الثانية. فهي سافرت الى بوسطن في العام 1895 وليس في 2006. وفي ذلك الزمن، كان السفر يتم بحراً، وسط صعوبات تنوء من تحتها اكتاف الرجال. لذلك، لم يحدث ان هاجرت امرأة منفردة حتى لو كانت ارملة او مطلقة. ولكن كاملة لم تكن مطلقة، وزوجها خليل جبران «شديد البأس» على حد تأكيد الباحث جميل جبر. والظاهر ان الزوجة كانت اشد بأساً، بدليل انها لم تكتف بترك زوجها في بشري والابحار الى بوسطن، بل ونجحت في اصطحاب ابنها جبران وبطرس، وابنتيها سلطانة ومريانة.

يبقى، ان كاملة رحمة جبران ورثت قوة الشخصية من والدتها «الشديدة المراس والمسترجلة، والتي عاشت عشر سنوات، بعد المائة. ويروى انها تسلقت جبل الارز على ظهر الحصان وهي في الثمانين». لعل الفرق الوحيد بينهما، ان كاملة رحلت وهي في التاسعة والاربعين.