إدريس كسيكس: التعليم هو التمرد الجذري على فكرة القطيع

كاتب مغربي مهمته اقتفاء أثر الجنة المفقودة

TT

كان موعدنا في «الكنغز الرمادي» بأحد أحياء الرباط الهادئة. إدريس كسيكس، كعادته محرك لا يتوقف عن العمل. كان له قبل لقائنا حوار مع أحد الوجوه البارزة في المشهد السياسي المغربي. هاتفه الجوال لا يتوقف عن الرنين. زاوية حادة في الصحافة المغربية «المستقلة». مهمّته كرئيس تحرير في أسبوعية «تيل كيل» جعلته من المحاربين القلائل عن شمس الثقافة في الصحافة المغربية المكتوبة. مساحة تتقلص يوما عن يوم لتترك مكانها للجريمة والإثارة أو التهجم المجاني على الآخرين. في معمعان الصحافة هذا، يخطو إدريس كسيكس بعوالم أدبية مميزة ويقاوم بغريزة الكاتب حبر الجرائد الذي يغرق عادة حملة الأقلام الجريحة في ذهب الخبر الزائل. كتّاب حقيقيون يتّمتهم الصحافة..

ر إدريس أخيرا رواية «علبتي السوداء»*، وهي رواية تحتفي بالحوّاس وبجنّة الشباب المفقودة. لكن قبل الرواية، قضى صاحبنا عشر سنوات في رفقة المسرح، حيث كتب عدة مسرحيات بث فيها أسئلته الصغيرة والكبيرة مقتفيا آثار كتابة متحوّلة تروم بناء مسرح مغربي جديد. من هو إدريس كسيكس؟ «ولدت في مدينة الدار البيضاء في أسرة متوسطة. كان أبي مهندسا وأمي موظفة في بنك. كانا ليبراليّان، لكن ليس كثيرا؛ ومحافظان قليلا. كان أبي صارما في أخلاقه، وأمي تحضننا بحب شديدّ كأن شلالا سيختطفنا في أي لحظة. كنت أقضي أغلب أوقاتي عند عمّاتي وخالاتي في جوّ تغلب عليه التقاليد الصارمة. مما كان يسمح لي باكتشاف الأحياء الشعبية كـ«بوسيجور». في أحياء الآخرين، تعرفت على العنف، وفي حيّنا، تعلمت الاحتراس. يقول إدريس كسيكس: «عندما كنت يافعا، انتقلت من صورة التلميذ المجتهد سليل العائلة المحترمة إلى مشاغب ومتمرد، على الدوام». هذا التمرد هو الذي دفع بالمختار إلى هجر بيت العائلة ليحقق ذاته، في الرواية.

هذه العوالم «الواقعية» نجدها في «علبتي السوداء». طبعا، لا يمكن لنا أن نقرأها بعيون القارئ المتلصص على السيرة الذاتية. فالكاتب واع بلعبة السرد. لذلك، فالمختار الأستاذ في إحدى المؤسسات التعليمية يستعيد علبة سوداء بعد وفاة خالته المتسلّطة «مارية» التي كانت بالمرصاد لعلاقة حبه مراهقا مع «زينة». هذه العلبة التي كان يخفي فيها البطل الكلمات التي كانت تفتنه. نفس الكلمات التي كان يرصع بها مواضيعه الإنشائية في حصة اللغة الفرنسية،

مما جعل أستاذته تنهره عن هذا الهوس بكلمات صعبة تفرض على المواضيع فرضا. الرواية، إذن، احتفاء باللغة والكتابة. إنها علاقة حميمة مع الكلمات كما هو الحال مع الشخصيات الأنثوية التي تؤثث النص. كما أن الشخصية المحورية فككّت علائقها بكل من الأب والأسرة والتقاليد والمدرسة، أي بكل المظاهر البنيوية التي تسمى المجتمعات العربية البطريركية.

لم «يقايض» إدريس كسيكس الشكل «المسرحي» بـ«الروائي»، كما يحلو له أن يقول. فلكل مقام مقال، لكن الشكل الروائي فرض نفسه على الكاتب بالنظر إلى تركيبة التخييل الذاتي الماسكة بأطراف الرواية. فالملحّ في «علبتي السوداء» هو ضرورة البوح بالسيرة الشخصية الحقيقية أو المتخيّلة لإعادة ترتيب ذاكرة الجسد؛ وبالتالي التاريخ الشخصي الذي تشيّد عليه شجرة الأنساب النقدية. الشخصيات النسائية في الرواية، تحتل المفاصل الرمزية للكتاب. زينة، وردة، زوجة المختار الخائنة، مارية، الجارة المشبوهة، صديقات الدراسة... هذه الوجوه النسائية، تنظم علاقة المختار بالعالم. فهي مسالك متفرقة تقوده إلى جنة الملذات الأرضية أو إلى جحيم الآخرين الذاتي، العائلي أو الاجتماعي. المختار في النهاية اختار المجاز. مجاز حياة محلوم بها لم يتمتع بها إلاّ لماما. ومجاز الأدب. فالكتب، كانت أراض خضراء تمتعه بغذاء الأبدية. الكتاب سلاح يأخذه بيد وشجرة الأنساب المتعدد باليد الأخرى. «أحببت الرؤية الفلسفية في «سيزيف» و«الغريب» لألبير كامو. كما استفدت من تعددية الأزمنة عند فرجينيا وولف، ومن تفكيك أنظمة السرد عند صول بيلو وتوماس بانشون. وكلما قرأت ازدادت رغبتي في الكتابة. لم أكن أريد أن أتشبّه بهؤلاء الكتاب، بل لأسافر بدوري في عوالم أخرى». التعليم، أيضا، هو التمرد الجذري على فكر القطيع. لذلك، فاختيار ادريس كسيكس لهذه المهنة لم يكن اعتباطيا في الرواية. دفعت هذه المهنة الثمن غاليا خلال سنوات الرصاص في المغرب. وهذا ما نجده في «علبتي السوداء» أيضا. اختفاء حبيب وردة، ابنة خالة السارد، في رماد هذه السنوات. وردة التي صارة «مغنية» في الخليج. واكتشفت بعد موت والدها الصامت أنه كان مخبرا للشرطة السياسية، وأنه هو من تخلّص من حبيبها. الرواية، إذن، حملت على عاتقها كل الأسئلة الحارقة التي مزقت سياطها أجيالا كاملة في مغرب اليوم. تداخل فيها الذاتي بالجماعي بدون أن يضرّ ذلك بحبكة النص وجماليته.

ما هي الكتابة بالنسبة لإدريس كسيكس؟ «أعتبر الكتابة غريزة جوانية، ضرورة حيوية. لا أفرق بين الكتابة والحياة. الكتابة/ الحياة، كأن الطعام والشراب والجماع طرق تؤدي إلى ذات المكان: إعادة بناء الذات. كتبت لمدة 10 سنوات للمسرح، وكنت فرحا أشد الفرح عندما أشاهد مسرحياتي تؤدى على الخشبة. لكن منذ 6 سنوات، صارت لي رغبة عارمة للعودة إلى «ذاتي»، والغوص في وعيي الشخصي لأعطي معنى جديدا لحياتي، لأترك آثارا حتى لا أمرّ مرور الكرام في هذه الدنيا». إن هذا الوعي الحاد بالكتابة هو الذي جعل رواية إدريس كسيكس تقطع مع قتامة مشهد الرواية المغربية الجديدة المكتوبة بالفرنسية. كما مكّن الروائي بإعادة قراءة فعّالة للتراث السردي الغربي الذي تمتح منه الرواية العربية بشكل عام، إذ تخلص من ديكتاتورية الرواية الجديدة الفرنسية والبنيوية وفزاعة النقود الجديدة التي لحست عقول كتّاب ونقّاد كثر في عالمنا العربي.

إن «علبتي السوداء» هي محاولة للمصالحة مع نفسي، إذ نمضي حياتنا في البحث عن المفتاح الصالح لولوج عوالمنا الجوّانية، مجتمعنا، موتنا. عندما قابلت المختار، الباحث عن الجنّة الأرضية، بالانتحاريين، الذين اعتبروا برجي نيويورك، معبرا نحو الجنة، حاولت في الحقيقة أن أعيد التفكير في الثنائية الكونية. هذه الرواية، تحكي البحث الأبدي عن هذه السعادة الضائعة».

يلخص الكاتب هنا ماهية كتابة عملت على حدود الموت والحياة لتخرجنا عبر أقنعة شخصيات معقدة ومعبرة إلى فسحة الأسئلة الملحاحة التي تطرح، يوميا، على الكائن العربي سجين التقاليد وقيود مجتمعات تتحرك بالكاد.

تبقى الرواية، في الأخير، في زمن خفوت صوت الشعر، الملاذ غير الآمن للعديد من كتاب الجيل الجديد ليرسموا لنا ملامح طرق قد تؤدي إلى فهم مغاير لهزائم الذات الثقافية العربية.

* منشورات طارق ودار نشر

«النفس الكبير» الباريسية