صور فوتوغرافية تثير نقاشاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول الأحقية في الأرض

كاميرا الفنان شالوم نارنسكي ونتائجها التي جاءت عكسية

TT

تعمل إسرائيل جاهدة، هذه الأيام، على استعادة صور فوتوغرافية التقطها الفنان شالوم نارنسكي، في العقد الأول من القرن العشرين، على أساس أنها توثق لفترة مهمة من تاريخ «أرض إسرائيل». لكن الصور تظهر الحضور القوي للشعب الفلسطيني في تلك الفترة، وتذّكر بأماكن سعت الحركة الصهيونية قبل وبعد إقامة دولتها عام 1948، ليس فقط لتغيير أسمائها، وإنما معالمها أيضا. والصور التي التقطها نارنسكي الذي يتبنى الفكر الصهيوني، يمكن أن تكشف بالنسبة للفلسطينيين، في هذه الفترة الحرجة بالذات، ما يطلقون عليه «زيف الدعاية الصهيونية».

منذ شنت الحرب على لبنان، سعت المؤسسة الأمنية في إسرائيل إلى حشد اكبر «إجماع قومي» في المجتمع الإسرائيلي، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير، ويظهر ذلك خصوصا في وسائل الإعلام التي ارتدت البزة العسكرية، وتجند معظم صحافييها خلف دعاوى الجيش الإسرائيلي لتبرير الحرب المدمرة التي معظم ضحاياها من المدنيين.

وبالتزامن مع هذه الحرب، تستعيد إسرائيل أعمال نارنسكي الفنية، للتذكير بأولئك الصهيونيين الأوائل، رواد الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتعزف على وتر الحنين لدى أجيال إسرائيلية، لم تشهد تلك الفترة، وقسم منها قدر له الآن أن يعيش في الملاجئ، في ظروف لم يعرفوها من قبل.

هذه الصور، التي تسلط عليها وسائل الإعلام الإسرائيلية كثيرا من الضوء الآن، أصدرها نارنسكي عام 1920، كبطاقات بريدية، وطرحتها للبيع إحدى شركات الطباعة بالقدس آنذاك، مع تعليق عليها باللغات العبرية، والعربية، والإنجليزية. وظهرت التغييرات الواضحة في أسماء الأماكن بين هذه اللغات على تلك البطاقات، طبقا للفهم الأيديولوجي الصهيوني لتلك الأسماء، والنظرة الغربية التوراتية والاستشراقية لها، بالإضافة إلى أسمائها العربية الأصلية.

وبعد كل هذه السنوات على صدور اكثر من 100 من صور نارنسكي، كبطاقات بريدية باللغات الثلاث، تتصدى صحيفة «يديعوت احرنوت»، اكبر الصحف الإسرائيلية توزيعا، محتجة على الأسماء العربية والى حد ما الإنجليزية، للاماكن التي صورها نارنسكي، ومصرة على التمسك بـ«الأسماء الصهيونية» للأماكن. وهو أمر يكتسب أهمية كبيرة في إسرائيل، التي يفرض على كل يهودي مهاجر إليها، أن يغير اسمه، إن لم يكن اسما يهوديا، إلى اسم يهودي. ومنذ تأسيس إسرائيل سن قانون يفرض على كل مواطن فيها يريد السفر إلى الخارج، أن يغير اسمه أولا إلى اسم يهودي، وهو ما حدث حتى مع معظم قادة إسرائيل، طوال تاريخها، الذين يحملون الآن أسماء يهودية غير أسمائهم الحقيقية.

ولم يكن نارنسكي يحتاج لحرب تشنها إسرائيل على لبنان، ليحتل مكانته في «الذاكرة الصهيونية»، فبعض صوره عن شخصيات يهودية ومستوطنين اوائل، صارت إسرائيليا، من كلاسيكيات الصور عن اليهود في فلسطين أوائل العقد العشرين، رغم انه لا يكتسب نفس الأهمية بالنسبة لتاريخ التصوير الفوتوغرافي في فلسطين، والذي بدأ قبل ظهور نارنسكي على الساحة بوقت طويل، على يد عشرات من المصورين الأجانب والرحالة.

ولد شلومو نارينسكي عام 1885، في روسيا، وتعلم التصوير في أوروبا، وهاجر إلى فلسطين عام 1905 واستقر في القدس، وأصبح عضوا في حركة العمل التي قادها دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل فيما بعد، وآخرون من اليهود الغربيين.

وأسس نارنسكي، لأسباب أيديولوجية وسياسية وحدة التصوير، التابعة للحركة الصهيونية الناشطة آنذاك، وجاب فلسطين ملتقطا مئات الصور. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، هاجر وزوجته سونيا إلى مصر، التي كانت، وفقا لبعض المصادر الإسرائيلية، المرأة الوحيدة التي أصبحت مصورة في مصر في تلك الفترة المبكرة.

وبعد انتهاء الحرب عاد نارنسكي إلى فلسطين، ثم انتقل إلى باريس، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، اعتقل في معسكرات الاعتقال النازية، وضغط بن غوريون على السلطات البريطانية المنتدبة على فلسطين لإجراء «تبادل أسرى»، يتم بموجبه إطلاق جاسوس ألماني ألقت السلطات البريطانية القبض عليه في فلسطين، مقابل الإفراج عن نارنسكي، وهو ما حدث، فعاد إلى فلسطين واستقر في حيفا ممارسا عمله في التصوير حتى توفي عام 1960.

وعاش نارنسكي، وهو ينظر إليه كأحد رواد التصوير في «أرض إسرائيل»، رغم انه ظهر في هذا المجال بشكل متأخر جدا، عن عشرات المصورين الأجانب، وفيما بعد الفلسطينيين وهذا ما يمكن تبينه من كتاب (لقطات مغايرة ـ التصوير المحلي المبكر في فلسطين 1850 ـ 1948) الذي صدر حديثا للباحث عصام نصار، أستاذ التاريخ في جامعة برادلي في الولايات المتحدة الأميركية.

يقول نصار «لقد عمل في الشرق الأدنى بين 1839 ـ 1885 اكثر من مائتين وخمسين مصورا أوروبيا وأميركيا، وكثير منهم صور فلسطين، ولو وصلنا حتى العام 1900 لكان عدد أولئك المصورين اكبر بكثير»، والسبب أن اختراع الأنواع الجديدة من النيجاتيف مكن عشرات من الحجاج والسياح اصطحاب كاميراتهم بدون ألواح النيجاتيف الثقيلة التي كانت مستخدمة قبلا.

ويرى نصار أنه «على الرغم من استحالة تقدير عدد الصور التي التقطها هؤلاء الهواة للقدس في القرن التاسع عشر، فإن المرجح أن العدد كبير جدا».

ويمكن إضافة إلى ذلك، ذكر جهد المصورين الفلسطينيين المحليين، الذي ظهر فيما بعد في كثير من الكتب مثل (قبل الشتات) الذي وضعه الدكتور وليد الخالدي عن التاريخ الفلسطيني مصورا، مستعينا بإرشيفات مصورين فلسطينيين.

ولكن نارنسكي لم يكن مصورا هاويا، ولا باحثا غربيا مستشرقا، ولا فلسطينيا، لكنه صاحب أيديولوجيا صهيونية، وبالتالي اكتسب أهميته كمؤسس لفن «التصوير الفوتوغرافي الإسرائيلي»

وفي صوره المبكرة تلك، التي تخصص لها صحيفة «يديعوت أحرنوت»، هذه الأيام، أكثر من موضوع في أعدادها المتتالية، تظهر الأماكن الفلسطينية، محتفظة بهويتها المحلية رغم الأسماء التوراتية التي أطلقها عليها نارنسكي والنموذج الأبرز، هي الصور التي التقطها في الحرم القدسي الشريف، والتي تظهر فلسطينيين يعبئون الماء في قرب من أحد اسبلة الحرم، ومعالم أخرى في الحرم، يكتفي نارنسكي بالإشارة إلى اسم الموقع بأنه «جبل الهيكل» أو «هيكل سليمان» مثلما فعل غيره من مصورين أوروبيين بشكل يبدو الآن غريبا.

وهو ما جعل نصار يعلق على هذا الإصرار على تغيير الأسماء بالقول «ربما أن الوصف الشائع، آنذاك، لأحد أهم مواقع مدينة القدس على الإطلاق، وهو قبة الصخرة، وبخاصة لدى المصورين الذين غالباً ما أصروا على تصويره على الرغم من الحظر القانوني، على أنه موقع هيكل سليمان، يشكل أكثر الأمثلة تطرفاً وغرابة. فها هو أحد أقدم مباني القدس التاريخية، وأحد أجمل المواقع المعمارية في العالم، وأحد أهم المعالم الدينية في القدس على الإطلاق، يتم تجاهل وجوده، وفي الوقت ذاته يتمكن المصور من رؤية ما يعتقد أنه كان قائما في ذلك الموقع قبل آلاف الأعوام. القدرة هذه على عدم رؤية ما هو واضح، ورؤية ما هو متخيل، تشكل حالة من العمى الثقافي المرتبط بالمخيلة الاستشراقية لفلسطين».

وبالنسبة لنارنسكي، فإن الأمر كان اكثر من ذلك، حيث تحكمت فيه أيديولوجية مسبقة متطرفة سعت لتأسيس «وطن قومي لليهود» على أنقاض شعب آخر. وأطلق نارنسكي أسماء أخرى توراتية على أماكن اقل شهرة، ولكنها مهمة مثل نهر «العوجا» الذي سماه نهر «اليركون»، وهو الاسم المستخدم إسرائيليا الآن.

وإذا كانت بعض الأماكن وقعت ضحية الأسماء التوراتية، فإنها في النهاية حافظت على هويتها وأسمائها، ولكن أماكن أخرى تعرضت لما هو أفدح، مثل قبة راحيل وهي مقام إسلامي بين مدينتي بيت لحم والقدس، يظهر في صور نارنسكي، كواحد مثل عشرات المقامات المنتشرة في فلسطين بعمارته المتواضعة.

ويمكن أن تشكل صور نارنسكي لهذا الموقع، الذي يظهر فيها وادعا مسالما، وثيقة على ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية فيه منذ عام 1967، عندما سيطرت عليه، وحولته إلى كنيس يهودي، والآن اصبح ثكنة عسكرية كبيرة، ومن أبراجها أطلقت النيران على عشرات الفلسطينيين الذين قتلوا في المكان.

في صور نارنسكي تظهر الشخصيات اليهودية، بشكل مختلف عن اليهودي الإسرائيلي الآن، ويغلب عليها الطابع المحلي الفلسطيني، حتى تلك الصور التي التقطها ليهود مع ذكر البلدان التي أتوا منها. وتظهر نزعة نارنسكي اليهودية الغربية في إطلاق أوصاف على بعض الصور مثل صورة «المرأة اليمنية»، وكأنه لا يقر في دواخل نفسه بيهوديتها.

وفي مقابل ذلك، يحتفي بوجوه شابات يهوديات غربيات، التقط صورا لهن بشكل غير عفوي، وإنما بتحضير مسبق، تظهرهن كفتيات جميلات بملابس غربية.

ويساهم نارنسكي، بطريقة غير مقصودة على الإطلاق، في تقديم خدمة للفلسطينيين بصوره ليس فقط عن بعض المواقع الفلسطينية، التي تحولت الآن إلى مستوطنات يهودية، مثل صوره عن قرى تقع غرب القدس، ولكن أيضا عن وجوه فلسطينية، مثل بعض صور الفلاحين في مواسم الحصاد، وصورا لبدو فلسطينيين، ويبدو في هذه الصور الأخيرة متأثرا إلى حد كبير بتراث التصوير الاستشراقي في فلسطين، الذي ركز على مجموعات بعينها ومن ضمنها البدو، ولا يظهر تأثره على هذا فقط، ولكن بصوره عن النساء البدويات، اللواتي يبدون وكأنهن أميرات شرقيات.

ورغم ما قيل ويمكن أن يقال عن صور نارنسكي، إسرائيليا أو من قبل مهتمين فلسطينيين، فإنها في النهاية تظهر الحضور الطاغي للشعب الفلسطيني، الذي تمتد جذوره عميقا في التاريخ. وهو ما جعل بعض القراء الفلسطينيين يكتبون معلقين على المواضيع التي نشرتها الصحف الإسرائيلية، في مواقعها الإلكترونية، عن صور نارنسكي صارخين «هذه بلادنا، وهؤلاء أجدادنا» و«.. ستعود لنا».