زعماء عراقيون سابقون يحكون كيف وقع صدام حسين في الفخ الأميركي؟

الجزء الأول من مقابلات واستجوابات مع مسؤولين بعثيين شهدوا قصة السقوط

TT

ما الذي كان يفكر به ويفعله صدام حسين ومساعدوه في زعامة حزب البعث في مارس وابريل 2003 بينما كانت قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة تشق طريقها عبر العراق وتتجه نحو بغداد؟ الجواب، الذي يصوره تقرير شاهد عيان هذا، والمعتمد على عشرات المقابلات وعمليات الاستجواب، بسيط على نحو مدهش: الدكتاتور ومساعدوه كانوا يشاهدون التلفزيون كثيرا، ويكذبون على بعضهم بعضا بشأن ما يجري حقا. ما توفره المقابلات يتعزز بصورة أكبر بمواد من ملايين الوثائق العراقية الرسمية التي استولت عليها قوات التحالف بعد سقوط بغداد.

وفقا لكتاب جديد بالإنجليزية، يحمل اسم «نظرة في عملية حرية العراق من كبار زعماء نظام صدام» فان صدام حسين كتب سيناريو مصيره عبر افتراضين برهنا على انهما خاطئان:

الافتراض الاول ان الولايات المتحدة، القوة الوحيدة القادرة على تغيير نظامه بالقوة، لن تفعل ذلك. اما الافتراض الثاني فهو انه حتى لو بدأ الأميركيون هجوما على العراق، فان الروس والفرنسيين و«الأصدقاء» الآخرين سيستخدمون، في الحال، الأمم المتحدة لفرض وقف لاطلاق النار ويوفرون له البقاء في سياق مواجهة أخرى.

ويعود جزء من اوهام صدام اليه نفسه. فعبر السنوات اقنع نفسه بأنه باعتماده على «حاسته السادسة» يمكنه قراءة عقل أي خصم في أي وقت. وأبلغ مساعديه: لا تقلقوا! أنا افهم الأميركيين! أنا اقرأهم مثل كتاب!

غير ان توجيه اللوم الى صدام وحده على اوهامه سيكون غير منصف. فقد فعل كل واحد من مساعديه ما في وسعه لتشجيع خيالات الدكتاتور ولم يعبر احد عن ارتيابه بقراره. والأسوأ ان قوى اجنبية عدة، خصوصا روسيا وفرنسا، انضمت الى لعبة استغفال صدام ودفعه الى الاعتقاد بانها ستنقذه في اللحظة المناسبة. وحتى عندما كانت الدراما تتجه نحو الذروة في ربيع 2003، ارسل السفير العراقي في موسكو تقريرا سريا للغاية ناقلا فيه عن مصادر كبرى في المخابرات الروسية قولهم انهم واثقون ان الولايات المتحدة لن تقوم بالغزو. هل لفق السفير التقرير؟ أم انه خدع من جانب ضباط سابقين في المخابرات السوفييتية ممن كانوا يتلقون رشوات من العراق خلال عقود؟

كما لعب الفرنسيون دورا في تشجيع صدام على تحديه عبر التظاهر بأن تهديد استخدام الفيتو في مجلس المن الدولي التابع للأمم المتحدة يمكن أن يجعل من المستحيل على الولايات المتحدة وحلفائها البدء بحرب استباقية.

ويتحدث طارق عزيز، المساعد المخضرم لصدام، وأحد من اجريت مقابلات معهم، بمرارة حول فرنسا وروسيا اللتين يزعم انهما لم تهتما بمصالح العراق وكانتا مهتمتين فقط بالحصول على الأموال عبر السوق العراقية.

وينقل عن عزيز قوله ان «فرنسا وروسيا لم تساعدا العراق. لقد ساعدتا نفسيهما. لقد حاولنا الحصول على تأييد الفرنسيين والروس عبر عقود النفط وعقود أخرى. الفرنسيون مشكوك فيهم، فهم غربيون. وكانوا يعرفون ان عقود ما بعد العقوبات ستذهب الى الشركات الأميركية وانهم سيخسرون الملايين. واستمرت روسيا تدعمنا في مجلس الأمن ولكن للأسباب ذاتها الخاصة بالفرنسيين».

وبالنسبة لصدام بقي التهديد الأميركي، على الرغم من معاناة جيشه منه كل يوم لفترة زادت على 13 عاما، وهما حتى النهاية.

وحتى عندما وصل الأميركيون الى ضواحي بغداد كان صدام قلقا من تمرد داخلي أكثر من قلقه من غزو اجنبي. ولهذا السبب وجه قواته لتجنب الاشتباك الفعلي مع التحالف. وعندما حاول جنرالان عراقيان تجاهل تلك الأوامر لكي يقاتلا الأميركيين تلقيا توبيخا وأبعدا عن جبهة القتال. ودفن صدام أفضل طائراته المقاتلة ودباباته وأمر أفضل وحداته بأخذ اسلحتهم الى أماكن آمنة بدلا من مقاتلة التحالف. وكان يفكر، كما هو حاله على الدوام، بما يمكن أن يحدث بعد مغادرة الأميركيين.

وزعم كثير من كبار قادة الجيش العراقي ممن اجريت مقابلات معهم ان القيادة لم تعد استراتيجية متماسكة للتعامل مع الغزو. بل انه كان لصدام ان يغير رأيه بشأن الخطط المتفق عليها، ولم يكن حتى ابنه المفضل قصي يتجرأ على الضغط عليه.

ولم يكتشف حتى ضباط كبار مثل وزير الدفاع، وقادة الحرس الجمهوري، ورئيس الأركان ما كان يفترض بهم فعله حتى النهاية. وكانت بعض التقارير عما يحدث تأتي من الجنرال عبد حمود التكريتي، السكرتير العسكري لصدام الذي كان يعتبر المساعد الأقرب للطاغية. غير أنه عندما جرت مقابلته لأغراض هذا الكتاب من جانب فريق من المستجوبين العراقيين والأميركيين كان منطلقا في حديثه ولعن ولي نعمته بلغة جديرة بامرأة بذيئة. أما الشخص الآخر المثير الذي أجريت مقابلة معه فكان علي حسن المجيد، الملقب «علي كيماوي»، ابن عم صدام، الذي اختار ايضا التنكر لولي نعمته.

ومن الصعب معرفة أي جزء من السرد الذي قدمه من جرى استجوابهم كان مدفوعا برغبتهم في التعاون مع التحالف على امل تفادي عقوبة أقسى. ومن الواضح ان بعض ما ادلوا به يتوافق مع ما يعتقدون أن الأميركيين يرغبون بسماعه. غير ان هناك شيئا مشتركا بين الجميع يشير الى الفوضى التي اوجدها اسلوب صدام الأوتوقراطي في الحكم. فلسنوات ظل صدام يكذب على مساعديه مثلما ظلوا هم يكذبون عليه بالمقابل. وشكل الطرفان كورس انشاد للأكاذيب امام الشعب العراقي، الذي دفع الثمن عبر الكذب على النظام ايضا (في آخر انتخابات له على سبيل المثال فاز صدام بما يقرب من 100 في المائة من الأصوات!).

وفي مقابلة او اثنتين كان يمكن ان يسمع المرء صوت روح وطنية حقيقية. وذلك الصوت ينتمي الى ضباط عراقيين كانوا يحتفظون بمكان ما في قلوبهم للعراق على الرغم من كونهم جزءا من النظام. ان حقيقة وجود مثل هؤلاء الأشخاص واستعدادهم للقتال والموت في سبيل العراق، على الرغم من المخاطر الكبرى، تأكيد لوجهة النظر التي تقول ان مفهوم «العروقة»، أي النزعة العراقية، ليس مجرد خيال.

وهذا الكتاب، الذي يعتبر الأول في سلسلة من الكتب المعتمدة على مقابلات واستجوابات مع زعماء عراقيين سابقين، يعاني من عدد من نقاط الضعف في بنيته. فقد اخفق في تقديم سرد متعدد الأصوات عبر التركيز على قضايا محددة في وقت معين. كما انه يكرس مساحة كبيرة لقضايا صغيرة نسبيا بينما يمر على قضايا كبيرة مرور الكرام. كما ان هناك أخطاء عديدة في كتابة اسماء بعض الأماكن، وهو ما كان للتحرير الدقيق ان يتفاداه.

وبينما يعتبر هذا الكتاب جذابا للقراءة وموضع ترحيب، فانه يطرح ايضا قضية ما حدث لأطنان الوثائق التي استولى عليها التحالف بعد سقوط نظام البعث. ويزعم مسؤولون اميركيون ان الوثائق محفوظة بعيدا عن الأنظار لأسباب تكنيكية ذات علاقة بالترجمة والتصنيف السري. غير ان ذلك الزعم غير مقنع. وقد أدى احتفاظ الأميركيين بالوثائق الى صناعة اشاعات داخل وخارج العراق، مع «تسريبات مستهدفة» ضد شخصيات يفترض ان صدام كان يدفع لها أموالا.

والطريقة المناسبة لمعالجة هذا الموضوع تتمثل في تسليم الوثائق المستولى عليها الى الحكومة العراقية، على ان تتوفر المادة للصحافيين والأكاديميين والباحثين. وينبغي ان لا تنقل وثيقة من العراق بدون موافقة من السلطات العراقية.

ومن المهم معرفة الكيفية التي كان يعمل بها النظام العراقي، وأية شبكات اقامها داخل وخارج العراق، ومن هم الذين قدم لهم رشوات، وكيف بدد مليارات الدولارات من أموال العراق وأموال دول عربية أخرى خلال ما يزيد على ثلاثة عقود. وسيوفر نشر الوثائق ظروف البدء بمحاكمة نظام البعث في محكمة التاريخ، كما ان قادته يواجهون المحاكمة أمام محاكم العراق الجديد.