«قاموس الجريمة» في الأغنية الجزائرية: مطربون أم إرهابيون؟

عشاق ينتحرون وآخرون مدججون بالمتفجرات

TT

مع شيوع الأغنية الجزائرية ووصولها إلى العالمية، بدأ بعض المغنين الجزائريين يهذبون كلماتهم، ويضفون عليها بعض الرقة، من دون أن يختفي العنف بشكل كامل. فالعلاقة بين الحب والحرب، تكاد تكون عضوية، وقاموس العشق الغنائي الجزائري يؤكد ذلك، والعينات التي نسوقها هنا تبقى نماذج قليلة من ظاهرة مثيرة تستحق الرصد.

قبل أكثر من سنتين نقلت بعض الصحف الجزائرية خبر انتحار شاب قرب إحدى مدن الشرق الجزائري، بطريقة قمة في البشاعة والاستعراض عندما وضع رقبته على السكة الحديدية، واستمر واضعا إياها حتى وصل القطار المنتظر، ليفصل رأسه عن جسده، بل ويهشم رأسه بطريقة بشعة للغاية.

وحسب ما ورد في الخبر فإن المنتحر هو عاشق فاشل، وأن «ملهمته» في تلك النهاية التعيسة هي أغنية شبابية، كانت قنبلة صيف 2003 ميلادي، وما الأغنية إلا «جوزيفين» التي كان يحفظها الكبير والصغير وكانت ساعتها تسمع في كل مكان. وما جوزيفين إلا عنوان لقصة حب بين شاب جزائري مغترب وفتاة أوروبية ويقول رضا الطلياني، صاحب الأغنية القنبلة في مطلعها: «ساعة تبان لي عقلية.. نحط راسي في الراية.. ندير زوج شهود علي.. نقارع الماشينة ونقيس روحي قبالها.. جوزيفين واش درتي فيا»، ومعناها بالعربي الفصيح: «في بعض المرات، يخطر لي.. أن أضع رأسي على السكة الحديدية، وأتخذ شاهدي عدل.. وأنتظر القطار، لأرتمي أمامه.. فماذا فعلت بي ياجوزفين؟»، وحادثة الانتحار تلك لم تكن معزولة.. فقد تكررت ومعها ينفتح أمامنا موضوع يتمثل في أن الكثير من الأغاني الرائجة في السوق الجزائرية موغلة في العنف اللفظي، بل إنها تشجع على العنف في حق الذات وحق الآخرين، وتلك النوعية من الأغنيات ارتبطت بالهامش، وحاولت «الأغنية الرسمية» محاربتها، لكنها ثبتت وتحولت إلى قاعدة وغيرها استثناء.

من أقطاب أغنية الهامش، الذي ثبت ونال شهرة عالمية قبل أن تلتفت إليه المؤسسة الرسمية وتحاول الاستثمار في نجاحه خالد حاج إبراهيم المعروف باسم «الشاب خالد». وهذا الفنان، اشتهر بالكثير من الأغاني الهامشية، فيها الكثير من العنف والضياع، فهو يخاطب حبيبته في إحدى الأغاني القديمة قائلا: «قلبي وقلبك عند البوشي معلقين» ومعناها: «قلبي وقلبك معلقان عند الجزار»، والصورة بقدر ما هي مجازية فهي بالمقابل بشعة، بل ان الكثير من الأغاني التي تحقق النجاح الجماهيري والربح المادي، يتعمد كاتبوها التطرف في الخيال، واستعمال أعنف التعابير من أجل لفت الانتباه في محيط يشجع على الأمر. والشاب خالد اشتهر بأغاني كثيرة أخرى قمة في العنف، مثل التي يقول فيها مودعا حبيبته ووطنه، شاقا البحر على طريقة قوارب الموت الشهيرة: «خلوا البحر ياكلني ولا زعافها» (فلتتركوا البحر يبتلع جثتي، أفضل من القلق الذي عشته مع حبيبتي)، أو التي يقول فيها مودعا مدينة وهران في الغرب الجزائري (وهي مدينته ومدينة أغنية الراي)، «روحي يا وهران، روحي بالسلامة.. القلب اللي كان يبغيك أنا نكويه» (اذهبي يا وهران رافقتك السلامة.. فقلبي الذي كان يحبك سوف أقوم بكيه حتى يرتاح منك»، وغيرها كثير. والشاب خالد الذي حقق الانتشار العالمي في بداية تسعينيات القرن الماضي بأغنية «دي دي»، أصبحت كلمات أغانيه بعد ذلك مهذبة، لكنه انطلق فنانا هامشيا في نهاية السبعينيات، ومعظم أغانيه الأولى عنيفة متطرفة، وهي الأغاني التي ما زالت مطلوبة وما زال الكثير من الجمهور عندما يطلب تلك الأشرطة القديمة من المحل يقول: «اعطني الشاب خالد القديم»، ورغم الاشتغال الواضح للشاب خالد «الجديد»، إلا أن «القديم بكل عنفه ما زال هو المطلوب عند الشباب الجزائري.

ربما النجاح الخرافي الذي ما زال يعرفه «الشاب خالد القديم»، هو الذي جعل الكثير من فناني الهامش الجدد يحاولون الاستثمار في حقل العنف. وقد غنى منذ سنوات أحدهم يقول: «نديها ونروح وإلا تطيح روح»، (سوف آخذ معي حبيبتي وأرحل وإلا سوف تسقط ضحية»، ولس أعنف منها إلا تلك الأغنية التي انتشرت منذ أكثر من سنة بالشرق الجزائري، والتي يقول صاحبها في مطلعها: «نضرب بالموس والموكحلة والكابوس»، (سوف أحارب في سبيل حبي مستعملا السكين، والبندقية والمسدس)، ولم يشذ المطرب المسمى «الشاب عز الدين الشلفي» (المنسوب إلى مدينة الشلف بوابة الغرب الجزائري)، عن القاعدة، فهذا الفنان الهامشي، الذي فجر قنبلة غنائية سنة 2002 بأغنية يقول فيها: «واش جابك لي يا خيرة.. أنت صغيرة وأنا خواف» (ما الذي أتى بك إلي يا خيرة يا حبيبتي.. فأنت صغيرة في السن وأنا رجل جبان؟»، هذا الفنان دخل السجن بعد ذلك بسبب أغنية أخرى هي «شوف الحقرة» (انظر إلى الظلم)، وذلك بتهمة القذف في حق مسؤولين محليين ذكرهم واحدا واحدا، وقد حكمت عليه المحكمة بثمانية أشهر نافذه، وها هو الآن يصدر أغنية أخرى أكثر عنفا، يقول فيها مخاطبا الحبيبة: «هاك البيا (بالباء المضغوطة).. وتيري عليا وفرغي الشارجور» (خذي من يدي المسدس واطلقي علي النار، وافرغي كل الذخيرة الحية). وما زال مطربو الهامش الفني الجزائري، الذي يكاد يصبح مركزا في ظل غياب نموذج فني رسمي ناجح فنيا وجماهريا، يبدع في «ثقافة العنف» وسيتثمر فيها أبشع استثمار.

قد يقول قائلا إن تلك النوعية من الأغاني «الإرهابية» جديدة، وهي صنيعة سنوات الجنون الجزائري في تسعينيات القرن الماضي، غير أن بعض النماذج تفند ذلك وتثبت العكس، فهناك أغنية تراثية يصف فيها صاحبها حبيبته قائلا: «عينيك حب(بفتح الحاء) رصاص)» (عيناك رصاصتان)، بل وهناك نموذج أكثر وضوحا في التراث الغنائي يقول فيه صاحبه، «نزدم في الليل.. حزامي بالكرتوش ثقيل» (أهجم ليلا.. وحزامي تثقله الذخيرة الحربية)، وكل هذا العنف في سبيل الفوز بالحبيبة، وكأن تلك الثقافة الغنائية لا تفرق بين الحرب والحب، مثلما جاء في أحد دواوين غادة السمان.