كتّاب سوريون: ثمة جديد تحت الشمس العربية.. لكن الأسئلة محرجة

TT

يثار جدل حاد، اليوم، بشأن تقييم الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان. فالانقسام بين المثقفين على أشده، ويظهر ذلك في الكتابات والتصريحات وفي الجلسات الخاصة. وقد لا يختلف هؤلاء المختلفون على أن إسرائيل هي العدو، ولكنهم يختلفون حول الأولويات والطريقة. وإذا كان الجدل قائماً ضمن حدود الجدل، فهذا أمر حيوي وإيجابي شريطة ألا يتحول إلى انقسام ينعكس على الشارع والمجتمع ويهدد وحدته الهشة أو استقراره. فالمخاوف كثيرة عند بعض المثقفين الذين يخشون من تحول هذا الجدل إلى صراع فعلي على أرض الواقع، ويحذرون من الانسياق وراء التحريض، الذي تمارسه بعض النخب عن قصد أو غير قصد أو كتعبير عن صراعاتها السياسية والعقائدية. وإذا كان من الصعب وفي جو الحرب ووسط الدمار والمجازر، التي ارتكبها العدوان أن تخفت الانفعالات ويتلاشى الغضب بهذه السرعة، فمن الواضح، وبعد وقف إطلاق النار، أن التعقل ولملمة الجراح والتوحد وتفويت الفرصة على المتربصين أمر في غاية الأهمية، ويقع على عاتق المثقفين الجادين وأصحاب الخبرة مسؤوليات جسام في تخطي هذه المرحلة بسلام، كما أن على الإعلام العربي مسؤولية كبيرة في ذلك، إذا سمح له في تخطي الخلافات بين الدول العربية فيما بينها من جهة، وبين الشعوب العربية والحكومات من جهة ثانية. ويطالب عدد من المثقفين وبحرص شديد وقف التراشق الإعلامي ليصار إلى الهدوء واستكمال إعمار ما خلفته هذه الحرب، وتوظيف الجهود العربية كاملة من أجل حل شامل وعادل للصراع العربي الإسرائيلي. ومثل هذه الدعوات نسمعها اليوم من مثقفين عرب من هذا البلد أو ذاك، وإن كان هؤلاء قلة اليوم وصوتهم غير مسموع، إلا أن حرصهم وخوفهم المتزايد على الاستقرار، يجعل الإصغاء إليهم حاجة ضرورية، ويرى هؤلاء من خلال دعواتهم، أن بالإمكان استثمار المقاومة والصمود اللذين أبداهما الشعب اللبناني، لتأسيس مرحلة جديدة يتم من خلالها استكمال النصر الذي تحقق.

وكنا قد توجهنا إلى بعض المثقفين في سورية بالأسئلة التالية: هل تعتبر هذه الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان مفصلاً تاريخياً؟ وهل غيرت في أنماط التفكير، أم أن ما بعدها يشبه ما قبلها؟ يقال إن الذاكرة العربية قصيرة، فهل ستطوى هذه الحرب وتذهب آثارها معها، وإن تراكم شيء ما في الذاكرة فما الذي سيبقى؟ يقال عادة ان لا جديد تحت الشمس العربية، ولكن اليوم ثمة من يقول، إن التغيرات كثيرة لكننا لا نلحظها، فهل هذا صحيح، وكيف؟ البعض ممن سألناهم اعتذر عن الإجابة، والبعض قال إنه لا يريد أن يحدد موقفاً، وإن الأسئلة محرجة!

المفكر عطية مسوح: صورتان لن تمحيا من الذاكرة

لكن الباحث والمفكر عطية مسوح، يرى أن النصر مسألة نسبية، وما تحقق لنا نحن العرب نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان يمكن أن نعده نصراً استناداً إلى نقطتين: الأولى هي أن إسرائيل لم تستطع رغم ضخامة هجومها الجوي والبري والبحري أن تحقق أهدافها المعلنة والمضمرة ـ استطاعت تدمير البنية التحتية والممتلكات اللبنانية، وقتل الكثير من الأطفال والمدنيين، لكن ما أرادته، وهو تدمير المقاومة وقتل روح الصمود وجعل لبنان منطقة أمان لها لم تستطع تحقيقه. الثانية، هي أن المقاومة اللبنانية قدمت صورة جديدة للصراع الحربي مع العدو الصهيوني. فللمرة الأولى في حروبنا مع إسرائيل ننزل بها هذه الخسائر الفادحة، وللمرة الأولى نحارب شهراً من دون أن ننهار. لقد حقق الصمود الشعبي والمقاومة، ما لم تحققه الجيوش العربية في عدة حروب. انطلاقاً من هاتين النقطتين المعياريتين يمكن أن نتحدث عن انتصار سيؤثر في نمط التفكير العربي. إنه سيلغي من أذهان العرب فكرة التميز الإسرائيلي وفكرة أننا ضعفاء في المطلق، وسيعزز في النفس العربية فكرة المواجهة وعدم الانطواء أمام المشكلات مهما تكن كبيرة. وعن الذاكرة العربية يقول مسوح: هل الذاكرة العربية قصيرة بالمطلق أو أنها قصيرة في أشياء ومديدة في أشياء؟ أقول أحياناً ليست الذاكرة العربية قصيرة، وليتنا نلغي منها الكثير مما يشدنا إلى الوراء ويقيد حركتنا وتطلعنا. ويؤلمنا أن بعض المواقف التي يتخذها عدد من الناس تجاه القضايا المعاصرة هي مواقف مستقاة من الذاكرة الجمعية للأمة، وأذكر مثلاً أن خبر ضرب البارجة الإسرائيلية بصواريخ المقاومة في هذه الحرب جعل ذاكرتي تستحضر فوراً جول جمال ونسف البارجة الثلاثية في العدوان الثلاثي على مصر. وبين هذين الحدثين رابطة كبيرة هي روح المقاومة والتضحية.

ما ستتركه هذه الحرب بطرفيها: العدوان الوحشي الإسرائيلي، والبطولي المقاوم المعاند اللبناني، لن يذهب من دون تأثير. ولعل أهم ما سيبقى في ذاكرة الجميع صورتان وفكرتان: الصورة الأولى، صورة المقاتل الصامد الذي يواجه الميركافا والقصف الجوي والحرب النفسية غير مكترث إلا بحلم النصر. والثانية، هي صورة مئات ألوف من النازحين الذين دمرت منازلهم وخربت قراهم لكنهم لم يتذمروا، صورة الوحدة الوطنية اللبنانية التي جعلت الشعب صفاً واحداً وفرضت نفسها حتى على بعض السياسيين الذين لا يأبهون بها. أما الفكرتان فهما أن المقاومة الشعبية أكثر نفعاً من الجيوش، وان لدى شعبنا ذخيرة من الإيمان بقضاياه والتمسك بحرية الوطن، ينبغي أن يستفيد منها السياسيون والقادة، فهي مصدر قوة لا يعوض ولا يعاند. والفكرة الثانية هي أن المقاومة ثقافة وروح وحداثة، وكي تصل المقاومة إلى أعلى درجات فاعليتها ينبغي أن تكون شاملة. وهذا يفتح أمامنا نافذة جديدة نطل منها على ضرورة البحث في عقلنة المجتمع العربي ودمقرطته وعلمنته.

الروائي فوزي حداد: مفصل تاريخي لا لبس في ذلك

الروائي فواز حداد، يعتقد أن هذه الحرب ستشكل سواء بالنسبة للعرب أو للإسرائيليين منعطفاً كبيراً، ولن يكون من الصعب بالنسبة للعرب التنبؤ إلى أين سيأخذهم بوضوح، هل إلى إعادة الاعتبار لكيانهم ووجودهم وكرامتهم؟ فالحرب التي شنتها إسرائيل بهدف الإجهاز على الممانعة في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص أحبطت تماماً، مع إعلان المقاومة بالنيابة عن العرب خياراً أكيداً، وباختراقها مسلسلا تسارعت فصوله: دول عربية تستسلم الواحدة تلو الأخرى للحلول الأمريكية الإسرائيلية تحت ذريعة الالتحاق بالسلام، ولو كان مموهاً، وفي حقيقته استسلام من غير شروط، والتواطؤ على تطبيع فعلي غير معلن. ويرى حداد أن هذه اللحظة مفصل تاريخي، ولن تقبل الشعوب العربية، بعد اليوم، بما قبلت به مرغمة سابقاً. لقد ذاقت طعم الانتصار. انتصار لم يكن مصادفة، كان أشبه برؤيا غير قابلة للتأويل، صنعت على أرض حقيقية، وبنيران متبادلة غير متكافئة، وبضحايا شهداء، وبدمار حاقد فاق التصور، وبانكشاف نوايا غرب (متحضر) مراء وصفيق، نوايا لم تكن خافية، وإنما مضببة. هذه المعركة تحيلنا إلى ما هو قادم، أو على ما ينبغي أن نتذكره: إن الصراع ما زال مستمراً. وعن الذاكرة العربية، يقول الروائي فواز حداد: لا يشكو العرب من فقدان الذاكرة، بقدر ما يشكون من حضورها القوي، وغالباً ما كان الحاضر، لا يساعد على استنهاض إرادة، وإنما اللغو بما يحول كل شيء إلى عبث. وإذا كان العرب يكررون أخطاءهم فهي أخطاء أنظمتهم. لا أرى أن الذاكرة العربية قصيرة أو قاصرة، مشكلتها أنها موغلة في القديم، وكأنه حدث البارحة. ولكن من محاسن الذاكرة الإنسانية، أنها تهضم الهزائم أو تتجاهلها، لكن تستوقفها الانتصارات حتى الزائفة منها! هذه الحرب ستترك آثاراً لن تذهب هباء. لقد عرف العرب الطريق الحقيقية إلى المعركة، بعد تجارب تتراكم مع الأيام، ودرس مستمر تعلموا منه أن أمريكا والغرب ليسا قدراً، وهم الذين يكرهوننا. والإسرائيليون ليسوا جيراننا الأبديين، إلا إذا أدركوا بأنهم واحد من عناصر المنطقة لا سفاحيها أو سادتها.

الروائي أسعد الجبوري: النصر جرافة كنست الذاكرة

الشاعر والروائي العراقي أسعد الجبوري، المقيم في الدنمارك والذي يزور دمشق الآن، عن هذه الحرب: إسرائيل في التاريخ العربي هي الحرب، لذلك لا تعني مفصلا لا على هذا الصعيد ولا على ذاك. هي أرض جهنم التي تعبر فوقها أنماط التفكير الخاص بالموت أو بالحرائق. وما دامت إسرائيل هي الحرب لحماً وعظماً، فإن أنماط التفكير الخاصة بالمعركة الأخيرة، سوف تتجه نحو ركن جديد آخر، وهذه المرة على الفرن الذي وجدت فيه إسرائيل نفسها، وهي تتآكل وسط ألسنة النيران. ومع ذلك أشك بأن تكون إسرائيل قد تعلمت درساً لأنها دولة بعوض لا استغناء له عن عمليات امتصاص دم آخر. النصر الذي حققته المقاومة اللبنانية يأتي بمثابة جرافة لكنس ما كان يتراكم في الذاكرة العربية من رماد وأنقاض. ويقول الجبوري: لا أعتقد بأن الذاكرة العربية قصيرة، بل هي ضيقة بفعل الخيبات. وإن يخسر المواطن العربي تلك الذاكرة، فهذا أمر غير مأسوف عليه. الذاكرة القديمة كيس ماضوي من ثقافة الكهف. الآن، وإذا كان لا بد من ذاكرة جديدة، فسيتم خلقها أو الاستعاضة عنها بشرعية إلكترونية. ويقول الجبوري: لا جديد تحت الشمس، لأننا احترقنا تحتها منذ زمن بعيد. ثم لا حاجة للعرب إلى شمس بقدر حاجتهم إلى شموع للتأمل بكل ما نرغب في تغييره، على الرغم من أن التغييرات تقع في سياق اللاممكن في حياتنا على الدوام. الجديد الآتي أن الجمجمة الإسرائيلية قد تصدعت، وهو ما يعني الكثير.