لماذا قرر غراس الكشف عن ماضيه الآن؟

قدم النازية وكأنها ظاهرة خارقة للطبيعة قدمت من السماء

TT

كانت لدى غونتر غراس، لمدة نصف قرن تقريبا، صفة واحدة لكل من لا يعجبه: فاشي.

وبالنسبة لمؤلف «الطبل الصفيح»، والحائز جائزة نوبل للادب لعام 1999، كانت هذه الصفة هي الإهانة الكبرى.

وكان غراس يشعر عادة بالغضب من شعبه، الالمان، لانه يدعي انهم لم يتمكنوا من التخلى عن ماضيهم الفاشي، من خلال الاعتراف بدورهم في الجرائم التي ارتكبت باسمهم في ظل نظام هتلر النازي. وعبر الحرب الباردة، كان غراس يؤيد الكتلة السوفياتية ضد الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، لان الاميركيين، كما ادعى، سمحوا لعدد من النازيين بإعادة بناء حياتهم في المانيا الاتحادية وفي اماكن اخرى.

غير ان الالمان صدموا من ماضي غراس كجندي في كتائب الحماية المسلحة (WAFEN SS)، وهي القوات الخاصة لهتلر، مع اقتراب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وقد كشف غراس في الاسبوع الماضي عن هذه المعلومات، في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر الغماين تسيتونغ»، قبل نشر سيرته الذاتية. وتحدث عن قراره بالانضمام الى القوة العسكرية النازية كشاب وخبرته في جبهة الحرب الى ان اسره الجيش الاميركي. ويعني ذلك ان غراس كان، بالضبط، واحدا من هؤلاء النازيين الذين افرجت عنهم الولايات المتحدة بدون وضع افعالهم في الحساب.

والسؤال هو: لماذا قرر غراس الكشف عن ماضيه الان؟ هل ذلك عملية دعائية لعودته للاضواء مرة اخرى ومساعدته على الترويج لسيرته الذاتية؟ أم هل يجب علينا النظر الى الابعاد الدينية لهذا الاعتراف المتأخر؟ هل يحاول غراس البالغ من العمر 78 سنة الاستعداد للحياة الاخرى؟

غير ان رده في مقابلته مع صحيفة «فرانكوفرتر الغماين» لم يكن مقنعا.

«الامر بأكمله عذبني. كان صمتي طوال هذه السنين من بين الاسباب التي جعلتني اضع هذا الكتاب. وتطوعت في ذلك الوقت للانضمام لقوة الغواصات. ولكنهم لم يقبلوني. الا ان كتائب الحماية المسلحة كانت تقبل كل المتطوعين، الصغار والكبار».

ولم يقل غراس لماذا تطوع، وما هي القضية التي يريد القتال من اجلها. وقال «اتذكر جيدا ان كتائب الحماية المسلحة لم تخفني. كانت قوة خاصة ترسل الى النقاط الساخنة».

وهو امر مثير للاهتمام، لان غراس ظل طوال عقود طويلة من الزمن ينتقد الالمان لادعائهم عدم معرفتهم بما يجري. الا انه كان في وسع غراس، في عام 1945، معرفة الطبيعة الخاصة لقوات كتائب الحماية المسلحة بالحديث مع أي شخص في مقهى او منزل، الذي كان في امكانه ابلاغه بمدى رعب كتائب الحماية المسلحة.

ومن المعروف ان غراس يشتهر برواية «الطبل الصفيح»، وهو عمل يعتبره النقاد سخرية من المانيا النازية. الا ان القراءة المتأنية تكشف عن صورة مختلفة.

تقع احداث الرواية في دانزيغ (غدانسك)، وهو ميناء بولندي كان هتلر يريد ضمه لالمانيا. ويقدم غراس سجلا بالمعارك بين البولنديين والالمان العرقيين، ملمحا الى ان الالمان يتعرضون للخطر. وهو بالضبط واحد من الاسباب التي استخدمها هتلر لغزو بولندا. وبعدما ساوى اخلاقيا بين البولنديين والالمان الغزاة صور الحرب كشر لا بد منه، وبالتالي وضع هتلر في نفس الركن كغيره من تجار الحروب في التاريخ. ويدعونا للاعتقاد بإن كل الحروب، بما فيها الحروب العادلة، هي سيئة.

والاسوأ من ذلك ان غراس يصور تقدم النازية وكأنه عمل سحري، وان تأثيرها على الالمان يقارن بالسحر. ويقدم أسلوبه المعروف باسم الواقعية السحرية، النازية وكأنها ظاهرة خارقة للطبيعة، قدمت من السماء، وليست كما هي في الواقع حركة سياسية متأصلة في التاريخ تدعمها الرومانسية الالمانية.

ويتذكر رفاقه في كتائب الحماية الخاصة، لا سيما قائده المباشر، الذي يصفه بـ«نوعية رائعة من الجاويش الالماني الذي يهتم اهتماما كبيرا بالصداقة». وحتى بعد التدمير الشامل تقريبا لوحدتهم لم يرغب غراس في التخلي عن زي قوات كتائب الحماية. ونصحه رئيسه انه من الافضل التخلى عن الزي والتنكر كمدني لتجنب الأسر.

ولا يبدو ان غراس تعلم شيئا من تجربته الخاصة ناهيكم من تجربة بلاده، فقد ظل على الدوام يبحث عن قضية ويواصل هذا العمل. وتلك القضية ظلت على الدوام مناهضة للديمقراطية ومناهضة للغرب بالمعنى الواسع. وكجندي شاب في كتائب الحماية المسلحة فانه وضع حياته على الخط دفاعا عن نظام اعتبر الديمقراطية «أسوأ من الزهري»، وهو ادعاء يبدو ان غراس يتعاطف معه حتى يومنا.

وبعد الحرب اصبح مدلل اليسار المؤيد للشيوعية، مهاجما ألمانيا الاتحادية ومدافعا عن نظام ألمانيا الشرقية. وعبر التسعينات كافح من اجل منع اعادة توحيد ألمانيا، متهما مستشار المانيا الغربية هلموت كول بخيانة الطبقات العاملة الألمانية بضم المانيا الشرقية.

وحتى في ايامنا الحالية ما يزال غراس يشعر بالحنين الى ألمانيا الشرقية.

واليكم ما قاله لصحيفة «فرانكفورتر الغماين تسايتونغ»: «بعد اعتقالي من جانب الأميركيين اطلق سراحي في الغرب. كان على ان أتكيف مع جميع الأخطاء والانعطافات على مسؤوليتي. غير ان افرادا آخرين من جيلي، مثل كريستينا وولف واريك لويست، انتهوا في الشرق (ألمانيا الشرقية) الذي كان يتمتع بآيديولوجية جديدة وموثوقة. وهناك رأوا معارضين كانوا قد شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية وعانوا في ظل حكم هتلر، ويمكن اعتبارهم نماذج. غير انه في ألمانيا الغربية لم يكن هناك شيء من ذلك. كان لدينا المستشار كونراد اديناور بكل الأكاذيب والنزعة الكاثوليكية المقيتة. وكان ذلك المجتمع يتميز بالروح البرجوازية الصغيرة الضيقة».

وكان غراس يسعى دائما الى «آيديولوجيا موثوقة»، ولم يعتبر من الممكن العيش كإنسان حر بدون أية آيديولوجيا وطائفة من المبادئ الأخلاقية الراسخة. وكشاب وجد آيديولوجيا حلمه في النازية وكرجل أكبر رآها منعكسة في جدار برلين. وخلال نصف قرن دعم الامبراطورية السوفياتية في وسط وشرق أوروبا والماويين في الصين ونظام كاسترو في كوبا والفيتكونغ في فيتنام والخمير الحمر في كمبوديان وأخيرا آية الله الخميني في ايران وسلوبودان ميلوشيفتش في يوغوسلافيا وصدام حسين في العراق.

وبعمله هذا برهن على شيء واحد: أنه تعلم الدرس الذي علموه اياه كشاب في كتائب الحماية المسلحة، وهو أن اسوأ عدو هو الديمقراطية، خصوصا في الولايات المتحدة، التي دمرت جيوشها هتلر والتي ألحقت آيديولوجيتها الهزيمة لاحقا بالشيوعية في الحرب الباردة.

وفي مقابلته مع «فرانكفورتر الغماين»، يتحدث غراس ايضا عن «الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا وفرنسا وهولندا في تاريخها الكولونيالي». ولكنه لم يتفوه بكلمة واحدة حول جرائم لينين وستالين ناهيكم من ماو وكاسترو وميلوشيفيتش.

وتنعكس كراهية غراس للولايات المتحدة في سيرته الذاتية، فهو يتذكر اللحظة التي جاء بها الجنود الأميركيون الى المعسكر، الذي كان غراس اسير حرب فيه. وقال غراس ان احد الجنود، وكان رجلا أبيض من فرجينيا، لا يتحدث مباشرة الى جندي اسود، يقود شاحنة. وفي الشاحنة التي اخذت غراس وسجناء آخرين الى المعسكر يطلب الفرجيني الأبيض، الذي يصفه غراس باعتباره «رجلا طيبا ولكنه أحمق قليلا»، من غراس أن يمرر أوامره الى السائق الأميركي الأسود».

وقد يكون هذا حقيقيا أو خلاف ذلك. ولكن استنتاج غراس لافت للانتباه. فهو يكتب قائلا: «لا استطيع القول انني صدمت، ولكنني وجدت نفسي فجأة وجها لوجه مع العنصرية».

وان عدم اعتبار غراس سلوك الجندي الفرجيني صادما ليس مفاجئا، فغراس على أية حال جندي في كتائب الحماية المسلحة.

وما هو صادم ان غراس يدعي انه حتى ذلك الوقت لم يكن قد واجه العنصرية. فقد عاش في ظل هتلر لمدة 13 عاما ولم يعرف العنصرية؟ لا بد انه كان أصم وأعمى.