الحلم الأميركي مجسداً في رجل

وول مارت.. من البيع بالتجزئة إلى تأسيس «وول مارت»

TT

«كيف نجح الجيل اللاحق من قيادة وول مارت في الحفاظ على أكثر المؤسسات نجاحاً على الرغم من وفاة مؤسسها سام والتون منذ أكثر من عقد مضى»؟ يتردد هذا السؤال بقوة في سوق العمل الأميركية، ويعتبر من أكثر الأسئلة إثارة للحيرة والتحير. فقصة نجاح «وول مارت» لم تنته بوفاة مؤسسه في اليوم الخامس من أبريل عام 1992، إذ بلغت الأرباح عام الوفاة نفسه فاقت ثلاثة وأربعين بليوناً وتسعة من عشرة دولار. أما الآن فقد أصبح اسم المؤسسة الأول على قائمة من خمسمائة مؤسسة ضخمة، وتصل أرباحها إلى مائتين وثمانية عشر بليوناً من الدولارات.

عادة ما تشهد المؤسسة متاعب واضحة عندما يموت مؤسسها. ومن أكثر التحديات التي تواجهها أية مؤسسة صعوبة النمو السريع والتغيير القيادي.

منذ وفاة سام والتون، الأسطوري، عانت المؤسسة من كلا التحديين واستطاعت أن تستمر. ومثل العديد من المؤسسين ومؤسساتهم، كان سام والتون و«وول مارت» في ارتباط دائم، ومثل أي مؤسسة تديرها عائلات، مثّل انتقال السلطة في وول مارت تحدياً كبيراً. وصل خلفاء (سام والتون) بالمؤسسة إلى آفاق واتجاهات بعيدة، وبدون الإخلال بسياسة البيع بالتجزئة التي جعلت «وول مارت» يزدهر بشدة خلال سنوات قليلة في الوقت الذي كان نموذج أعمالها متقدماً للغاية. ولم ينجح الجيل الجديد من قيادة (وول مارت) في البقاء فحسب، بل ساروا على النهج نفسه، فقد كان ذلك الجيل الجديد من القادة شديد التعصب لفلسفة سام والتون، واستطاعوا بوعي كامل لتعقيدات الحياة في القرن الحادي والعشرين تكوين أكبر معدل نمو مؤسسي في العالم.

«ألا تعتقدون أن سام كان سيبدو سعيداً إذا ما رأى ما لدينا اليوم؟» هكذا تردد على لسان واحد من رؤساء الفرق التنفيذية بـ(وول مارت) خلال كلمته بأحد الاجتماعات السنوية في السابع من يونية عام 2002. ورد عليه حشد مكون مما لا يقل عن عشرين ألفاً من المساهمين والزملاء بهتافات الموافقة وتصفيق الاستحسان. فقد كانوا يحتفلون بتصدرهم لقائمة «أكثر المؤسسات الأميركية شعبية» بمجلة (فورتشن) لأول مرة، وبوصولهم لأعلى مستويات القوة وأكبر نسبة توظيف حيث يصل عدد موظفيهم إلى 1.38 مليون موظف.

كانت لحظة لا تنسى فقد تذكر الجميع سام والتون مؤسس «وول مارت»، الذي رحل عن عالمنا منذ عقد من الزمان، وتخيله الكل يجلس في الصف الأمامي مرتدياً قبعة (وول مارت) المفضلة لديه، ويومئ برأسه علامة الموافقة والاستحسان، منتظراً بفارغ الصبر دوره للتحدث. فما هي قصة ذلك المؤسس الأسطوري؟

«لم ينجح أحد في تشخيص فكرة الحلم الأميركي في النصف الثاني من القرن العشرين مثلما فعل سام والتون. هكذا وصفت مجلة «تايمز» قصة نجاحه الاستثنائية وقد قام الرئيس الأميركي الأب (جورج بوش) بزيارة إلى المكتب الرئيسي لـ(وول مارت) في عام 1999، وقلد (سام والتون) وسام الحرية الرئاسي ممتدحاً إياه بوصفه (الأميركي الأصيل).

ولد سام والتون في التاسع والعشرين من مارس عام 1918، لعائلة بسيطة تسكن في (كينج فيشر) بـ(أوكلاهاما). واحترف بيع المجلات لفتره عندما كان في السابعة من عمره ليسهم في دخل المنزل، وقد تعلم مدى صعوبة الحصول على دولار واحد. وكانت معاناته مع الفقر والاحتياج للمال في طفولته السبب الرئيسي لأن يعد نفسه ألا يصبح فقيراً. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ عصر المستهلك يسود. وقد اغتنم والتون الفرصة وبدأ العمل في البيع بالتجزئة، وافتتح متجراً بـ(أركانساس). لم يكن (والتون) خبيراً في البيع بالتجزئة ولكنه تعلم بسرعة شديدة، فقد كان منذ الأيام الأولى مختلفاً عن أي رجل أعمال عادي ببصيرته النافذة وتفكيره الثوري، فقد كان أول من استغل حالة الكساد التي تعاني منها المدن الصغيرة في أميركا.

اعتمدت سياسات (سام والتون) على إمداد مستهلكي وسكان المدن الصغيرة والقروية بكل ما يحتاجونه من بضائع وسلع، وبنفس الأسعار الرخيصة التي لا تتوفر إلا في أماكن صعبة الوصول إليها، فقد كانت لديه معادلة بسيطة لحساب الأعمال: اشتر بثمن رخيص، وبع بثمن رخيص، وحافظ على وجود كل السلع لديك، وعامل زبائنك باحترام ودفء، واتخذ الحذر مما يفعله منافسوك. وفي خلال رحلة توسيع العمل، كان (والتون) يختار جيداً أماكن إقامة أسواقه مع تحاشي المدن الكبيرة.

كان أسلوب إدارة (سام والتون) مبنياً على مفهوم أنه كلما يقل الوقت الذي يقضيه في الفرع الرئيسي بـ(بنتونفيل)، كلما ازدهر العمل أكثر، فقد كان يقضي معظم وقته في زيارة الأفرع والاستماع إلى شكاوى الموظفين، والمديرين والزبائن، ولم يعتبر أبداً زيارة الأفرع شيئاً إضافياً.

حظي (وول مارت) على (سام والتون) الذي لم يقض في المنزل من وقت نصف ما يقضيه في الأفرع، وكنتيجة لذلك امتلكت مؤسسة (وول مارت) ثقافة شكلت نوعاً من خارطة الطرق للمؤسسة، وكانت عبارة عن مجموعة من الخطوط الإرشادية التي تشرح السلوكيات الصحيحة تجاه الموظفين والعملاء. كان (سام والتون) من النوع الهتافي الحماسي، وكان دائماً ما ينتهي هتافه بترديده: «من هو رقم واحد؟» فيرد عليه موظفوه بحماس بالغ «العميل... دائماً!». والآن هناك أكثر من 1.3 مليون موظف في جميع أنحاء العالم يهتفون بذلك الهتاف مرة على الأقل يومياًًًًًًًً، فذلك يزيد من حماستهم ويشعرهم بأنهم جزء من كينونة أكبر.

أراد (والتون) أن يشعر عملاءه وزبائنه أن أحساسهم في متجره يختلف عن مثيله في أي مكان آخر، أكثر إقناعاً ومرحاً من أي منافس لـ(وول مارت). وذلك هو السبب في اختلاف ثقافة (وول مارت) عن غيرها فقد اعتمدت على ثلاثة أركان رئيسية:

* احترام الأفراد، وخدمة عملاء متميزة، والكفاح في سبيل التميز.

وقد التزم (والتون) أيضاً بما اصطلح على تسميته بقوانين العمل:

* ارتبط بعملك؛ ويعني ذلك إضافة مسحة من العاطفة للعمل.

* تقاسم الأرباح مع رفاقك، وعاملهم كشركائك؛ لم يشعر (والتون) موظفيه أنهم كذلك، بل عاملهم كشركاء أو حاملي أسهم.

* حفّز شركاءك؛ لم يكن تحفيز الموظفين بالمال والتخفيضات كافياً، فكان يجب أن يشعروا بروح المنافسة.

* تبادل المعلومات مع زملائك؛ حيث كان من المهم للموظفين أن يعرفوا كل شيء عن العمل حتى يستطيعوا الحفاظ عليه والعناية به.

* قم بتقدير ما يفعله رفاقك من عمل؛ يجب أن يشعر الموظفون بأهميتهم، فكلمات المديح والتقدير لا تكلف شيئاً، ولكنها تترك أثراً كبيراً وإيجابياً لدى الموظفين.

* «تمتع بوقتك وانطلق واظهر الحماسة دوما؛» هذا ما قاله (والتون)... احتفل بنجاحك ولربما تكون هذه هي النقطة الأهم في قوانين العمل.

* انصت للجميع في المؤسسة؛ فقد آمن (والتون) بأن هؤلاء الناس مما يعرفون كل شيء عما يجري في المؤسسة هم من يقفون دائماً في الصفوف الأولى، وهم الموظفون.

* تخطي توقعات العملاء؛ دائماً تعطي العميل أكثر مما توقع، واظهر الاحترام والتقدير.

* تحكم في حساباتك أكثر من منافسيك؛ حيث أن انخفاض التكاليف هو من أكثر مزايا المنافسة.

* اسبح ضد التيار؛ كان (والتون) دائماً ما ينصح بعدم التمسك بالتقاليد البالية، وكان يبرهن على صحة نصائحه بقوله: «لم أسمع في حياتي كلها أكثر ممن حذروني من إنشاء متجر مدعم في مدينة لا يتجاوز تعدادها الخمسين ألفا»

وبمرور الأيام، استمر الجيل الجديد من قادة (وول مارت) في تطبيق فلسفة وثقافة (سام والتون) في آلاف من فروعهم، فهم لا يزالون مقتنعين بأن حكمة (والتون) في العمل لا تزال تحمل نفس العمق وبعد النظر حتى في القرن الحادي والعشرين. وفي نفس الوقت حاولوا التثبيت والسيطرة على عهد جديد من عهود (وول مارت)، عهد أكثر تعقيداً ووضوحاً، وإثارة للجدل.