قراءة استثنائية لرواية «عمارة يعقوبيان» في أميركا

تتصدر قائمة الكتب العربية المترجمة إلى الانجليزية.. وتحظى باهتمام مراكز البحث في واشنطن

TT

مرت سنوات طويلة لم اطلع على «رواية» مصرية حتى وجدت بين يدي «عمارة يعقوبيان». بضعة أيام وانا اعيش حالة خدر لذيذ مع شخوص وأمكنة علاء الاسواني. «زكي الدسوقي» ابن الباشا الذي ترك تاريخه خلفه وعاش حياة الدعة والمجون وأسرف كثيراً في الحياة، لكن مع عمق انساني استثنائي ادى الى ان يكون الوحيد الذي فاز بالشابة الفاتنة الساحرة «بثينة محمد السيد» شابة الهبت المشاعر حولها . رسم لنا المؤلف صورة دقيقة عن «بثينة» جعلتنا نكتشف أن «تبرير الاخطاء او الخطايا» في حق أنفسنا، يساعد في بعض الأحيان بل ربما يقود الى الاستقامة.

لا يمكن ان نلتزم الحياد تجاه شخصية «بثينة». إن قارئاً أي قارئ لا يستطيع أن يتخذ موقفاً وسطاً إزاء هذه الفتاة. انسانة تفرض نفسها عليك إما أن تتعصب لها، وإما أن تتعصب ضدها. الرواية تفرض علينا مشاعر متناقضة تجاه كل من «بثينة» و«زكي الدسوقي» إذ هو شخص لا تملك الا ان تحبه وتتعاطف معه، تحس ان مجرد وجود امثاله في هذه الدنيا يجعل لها مذاقاً.

> «طه محمد الشاذلي» الشخصية المركبة بسبب الفقر والاوضاع الاجتماعية المزرية التي جعلته يتأرجح ويتقافز بين ست شخصيات.

ابن حارس العمارة «المتسول». و«الطالب المجتهد» والحالم بأن يصبح «رجل سلطة» عندما كان يتمنى ان يصبح ضابط شرطة، والشاب الذي يجرفه تيار «الهوس الديني» والرجل الذي تفيض فحولته على الرغم من تدينه ثم «القاتل» الطامح إلى الفردوس.

> «حاتم رشيد» الصحافي المثلي الجنسي، لا ادري ما هي الدلالات التي جعلت الاسواني يختار مهنة «صحافي» ليركب عليها شخصية كانت أحد الأسباب التي جعلت الرواية في عين العاصفة. حالة «حاتم رشيد» هي حالة «طفولة ضائعة» وسط اسر مرفهة هي التي جعلت من الصبي ينزلق نحو المثلية. استطاع المؤلف ببراعة شديدة ان يرسم خطوط لحالة «الضياع وسط النعيم». مسار هذا الصحافي المثلي يبين لنا بأنه إذا كان للفقر مشاكله فإن الثراء أيضا له مشاكله.

> «الحاج محمد عزام» شخص انتهازي بلا قيم، صعد في السلم الاجتماعي صعوداً كبيراً جعله يقفز من «ماسح أحذية» الى «برلماني ثري». الثقافة السائدة في العالم العربي وفي معظم انحاء العالم تجعل من مهنة «ماسح الاحذية» مهنة ذليلة. وهو توصيف لا معنى له. هناك أنذال يمكن ان يكونوا في قمة الهرم الوظيفي، وحسناً ان المؤلف لم يوبخ «تاريخ» الحاج عزام مع الأحذية، بل جعله شيئاً عابراً. انتهازية وانعدام القيم عنده جعلته يتزوج الأرملة «سعاد جابر» لتصبح زوجة لساعتين أو اكثر قليلاً في اليوم. وعندما حبلت منه استأجر «الحاج عزام» عصابة لإجهاضها. يبدو ان المؤلف لم يكن يريد «حياة» من صلب «الانتهازية». «الحاج عزام» هو قطعاً رجل بلا إحساس مثل كرة مطاط، لذلك الحياة عنده هي بحث مستمر عن المال.

*«كمال الفولي» نموذج للفساد السياسي في مصر. الشخصية النافذة التي تلعب دور الوسيط بين «الكبار جداً» في الدولة وبين الآخرين، الزاحفين على بطونهم تملقاً بحثاً عن «سلطة او ثروة». الى أي حد تتطابق صفات وأساليب «كمال الفولي» مع الواقع؟ هذا السؤال يحتاج إلى معرفة بخبايا السياسة المصرية.

هذه الزاوية هي بالضبط التي جعلت من رواية «عمارة يعقوبيان» تحظى باهتمام مراكز البحث في واشنطن اي ما يعرف باسم Think tank .

ووجدت الرواية صدى طيباً وسط نخبة من المهتمين بالمنطقة في هذه المراكز التي تعد «زبدة» الصفوة الاميركية. ويعتقد بعض الذين اطلعوا على الرواية في معهد «راند» مثلاً وهو من المراكز الاساسية في العاصمة الاميركية، أنها تقدم «شرحاً اجتماعياً ونفسياً» للذين يرغبون في فهم ما «حدث وما يحدث» في مصر. وستنظم في نهاية اغسطس (آب) الحالي في صالون أدبي بالعاصمة الاميركية مناقشة حول الرواية بمشاركة باحثين ومهتمين.

واللافت للانتباه ان موقعاً اميركياً مهماَ، اهتم كثيراً بهذه الرواية، وهو موقع «امازون»، حيث جعلها تتصدر قائمة الكتب العربية المترجمة وبسعر 14.63 دولار مع تخفيض بالنسبة للنسخ التي ترسل للمشاركين لقراءتها مقابل سعر رمزي ثم تعاد الى الشركة. الملاحظ ان الرواية حين وصلت الى الاسواق الاميركية في طبعتها التاسعة باللغة العربية، كانت تباع بسعر 27 دولارا، وهو سعر مرتفع حتى بالنسبة للكتب الاميركية الاكثر مبيعاً. الترجمة الانجليزية اعتمدت على النص العربي في المعنى والشكل. مما سهل ترجمتها الى حد التطابق بين النصين. وهناك الآن في الاسواق الاميركية طبعتين للرواية نفسها. يكتب علاء الاسواني بلغة وصفية سهلة. لغة تبين قدرة المؤلف على الخيال والتخيل، ولكن مع فقر في استعمال تراكيب أدبية راقية، وفي بعض الاحيان اقحام جمل اعتراضية لا مبرر لها. كما يلجأ الى «اللغة اليومية» المستمعلة في القاهرة. تشعر به يجوب الشوارع وهو يحمل كاميرا تصوير عالية الجودة، يلتقط الزوايا والتفاصيل.

اسلوب الرواية سردي. حيث خلق المؤلف علاقة وطيدة جداً بين «الاشخاص والزمان والمكان». عندما يحدثنا عن حانة شعبية مثلاً، نجد انفسنا في قلبها بضجيجها وناسها وروائحها. وعلى الرغم من انه اختار شخصيات نمطية تكررت كثيراً في «أدب الحارة» المصرية، بيد أنها استطاع ان يسبر أغوار هذه الشخصيات في وقفات كثيرة.

اعتمد الاسواني كذلك على فكرة ان يكتب قصة كل واحد من ابطال الرواية، حيث لا علاقة بينهم الا عبر «رابطة المكان». يسكن ابطال الرواية في «عمارة يعقوبيان» ولا شيء عدا ذلك يجمع بينهم. يترك المؤلف القارئ عند مشهد معين يكون محفزاً للخيال ويدفع حب الاستطلاع الى مداه لمعرفة ماذا سيحدث بعد ذلك، ثم ينتقل الى حكاية شخص آخر والأحداث التي جرت له، ولا يلبث ان يعود الى شخص ثالث، وما جرى ويجري له وحوله. هذا الاسلوب يجعل أمر القراءة المتقطعة سهلاً على القارئ. لذلك هي رواية تناسب القراء في الغرب وخاصة في مدينة مثل واشنطن يسافر الناس في قطارات أنفاقها، وهم يتأبطون صحفاً أو كتباً.. أو ينامون وهم واقفون (بالفعل) ويشخرون وهم نائمون.