في واجهة الموسم الفرنسي الأدبي الجديد.. جرح العراق و«لورانس العرب»

النساء يواصلن لعبة الكتابة ويتفوقن على المنجز الذكوري

TT

مع دخول كل خريف تحتفي فرنسا بموسم أدبي جديد، يتزامن وبدء العام الدراسي. والاحتفال يكون عبر الدفع بكم كبير من الروايات الفرنسية والأجنبية، لنجوم كما ولناشئين، إلى الأسواق، بحيث تتنافس هذه الروايات على عدد من الجوائر الكبيرة، التي تجعل من الروايات الفائزة مدخلا لصاحبها إلى عالم من الثروة التي لم يكن ينتظرها. هذه السنة وبسبب تقارب مستويات الروايات، فإن الغموض يلف مصير الجوائز، ويزيد من حماسة المترقبين، وما أكثرهم. فأي اجواء أدبية تغلي في فرنسا هذه الأيام.

في غياب أي إصدار للروائي ميشيل ويلبيك الذي يتقن جيدا التعاطي مع الميديا، يبدو الأمر أقلّ بهرجة وضجيجا، في هذا الموسم الفرنسي الأدبي الجديد، ويمكن بالتالي، لهيئات الجوائز الأدبية، أن تكون أكثر حرية في اختيار من يستحق الفوز. وهكذا سيكون الأمر أكثر تشويقا وموضوعية، في ظل تعادل المستويات الروائية المعروضة، أو على الأقل عدم وجود نص لافت وخارج عن الطوق.

كما هو الشأن كل سنة ينتظر الجمهور الفرنسي والفرانكوفوني، الموسم الأدبي، هذه التظاهرة العريقة التي لا نجد لها مثيلا في باقي الدول الغربية، بحيث تتجند كل الصفحات والملاحق والمجلات الثقافية، وتضع القارئ أمام حيرة من أمره، بسبب كثرة الخيارات، لكنها لا تمنح، للأسف الشديد، نفس الحظوظ لكل الكُتّاب. إذ يتضرر، بسبب هذه التظاهرة، الكثير من الروائيين الشباب وغير المكرسين الذين لا يجدون رفوفا ولا طاولات في مكتبات كي يعرضوا عليها منتوجهم.

هذه السنة شهدت فرنسا صدور 683 رواية بالمقارنة مع 633 العام الماضي، بينها 475 رواية فرنسية و208 روايات أجنبية. ويلاحظ أن العديد منها يترواح عدد صفحاتها ما بين 120 إلى 150 صفحة، من أجل لفت انتباه القارئ وتسهيل إجهازه على النص. وكالعادة يتصادف صدور بعض الروايات مع هذا التاريخ طمعا في نيل العديد من الجوائز التي تمنح في هذه الفترة والتي تكون قادرة على حث الفرنسيين على الشراء. بعض الكتاب تعودوا على أن يكونوا أوفياء لهذا التاريخ، ومن بينهم هذه السنة نجد كريستين أنجو Christine Angot في روايتها الجديدة «موعد» بالإضافة إلى البلجيكية أميلي نوطومبAmélie Nothomb «التي تكتب ثلاثا إلى أربع روايات في السنة تكتفي بنشر واحدة منها، على حد اعترافها»، روايتها الجديدة «الخامسة عشرة» حملت عنوان »«يوميات سنونوة»، وكلا الروائيتين تتمتعان بشعبية كبيرة وتباع أعمالهما بشكل جيّد. كما أنه من أهم الروايات الجديدة الصادرة في هذا الدخول نقرأ رواية الجزائري ياسمينة خضرا «les sirènes de Bagdad» وهو الذي منحنا، العام الماضي رواية لامعة احتفت بها الأوساط الثقافية الفرنسية وحازت جائزة المكتبات الفرنسية، وتتطرق لموضوع التفجيرات الانتحارية التي عرفتها فلسطين، ويحاول أن يفهم ما الذي يدعو فتاة فلسطينية إلى طلب الشهادة. رواية ياسمينة خضرا الجديدة تتخذ من الشجن والجرح العراقيين موضوعا لها، وترصد الفوضى القاتلة التي يعيشها المجتمع العراقي بسبب الاحتلال الأميركي وجرائمه وجشعه وتعذيبه وفضائحه وكذلك بسبب كل ما يعج به من تطرف وتشدد. ينتهي الأمر في الأخير بالبطل إلى الاحتماء ببيروت. وكأن الكاتب تنبّأ بما حدث أخيرا في لبنان. والجدير بالذكر أن ياسمينة خضرا «وهو اسم أنثوي إذ أنه استعار اسم زوجته، أثناء كتاباته الأولى، ساهم في شهرته وحماه من تهديدات الجماعات المسلحة في الجزائر». هذا الروائي اللانمطي القادم إلى الأدب من عالَم العسكر، يتمتع بتقدير كبير في الأوساط الأدبية، وينظر إليه العديد من النقاد باعتباره من أهمّ الحكّائين الذين يأتون دائما بالجديد بالنسبة للكائن الغربي الذي لا يعرف تناقضات وتشابكات المجتمع العربي، ولا يفهم اشتغال السياسة فيه. في روايته الأخيرة يبتعد ياسمينة خضرا عن التفكير التبسيطي الذي يُقزّم كل الأشياء إلى تنازع الخير والشر الأبدي. لا يقدم أجوبة بقدر ما يضع شخصياته الروائية أمام تناقضاتها وهي تحمل في ذواتها شرطها البشري. القارئ الفرنسي سيجد نفسه حتما أمام فيض هائل من الكتب، ولكنه بالتأكيد لن يتسنى له قراءتها والإطلاع عليها جميعا ولا حتى العثور عليها معروضة، في مجموعها، على رفوف وطاولات المكتبات أو كموضوع لبرامج تلفزيونية ثقافية. ولكن نفس القارئ سيصطدم نظره، أنى توجه، بأسماء مُكرَّسَة.

النجم التلفزيوني في القناة الأولى، باتريك بْوَافْر دارفور، وقّع، بمناسبة هدا الدخول الجديد، رواية مشتركة مع أخيه، أوليفيي، تتخذ من الأيام الأخيرة من حياة «لورانس العرب»، الضابط البريطاني الذي قاد الثورة العربية ضد العثمانيين، موضوعاً لها. لا يَقْبَل الكاتبان الشقيقان الرواية الرسمية التي ترى موت صاحب كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» طبيعيا بعد سقوطه من درّاجة نارية في 19 مايو من سنة 1935. «غاليمار» الدار التي طبعت الرواية تُراهن على نجاحها، وإن كانت لا تخفي طمعَهَا في جائزة ما، طابِعة منها 80000 نسخة، وهو عدد كبير. ولكن ما يمكن أنْ يغطّي على هذه الرواية ويسرق منها بعض الأضواء هو لربما صدور روايتين لِكاتبين كبيرين سبق لهما أن حَصَلا على جائزة الغونكور، وهما باتريك رامبو Patrick Rambaud ولورون غودي Laurent Gaudé.

كثير من النّساء يُواصِلن لعبة الكتابة، وقد ذكرنا من بينهن أنجو، وهيوستن، بالإضافة إلى كاميل لورونس وأَلِيس فِيرني ولوريت نوبيكورت وأنييس ديزارت وسيبيل غْرامبيرت وغيرهن، مما يكشفن عن حيوية وجدة تُضيف بالضرورة أشياء إلى المنجز الذكوري، وتمنحه نكهة قد تكون المرأة وحدَهَا من يمتلك سرّها.

لا نتحدث هنا إلا عن العمل الروائي، ولكنه ليس الوحيد، إذ أن الدخول الأدبي أيضا، وفي مثل هذه الأوقات يشهد صدور الكثير من الدراسات، ومن فروع الكتابة الأخرى، تنتهز هذه الفرصة لعرض منتوجها الكتابي، في وقت يعتبر مُناسَبَةً لكل أنواع الدخول، من مدرسي وجامعي وسياسي وغيره.

نقرأ أو نحاول أن نقرأ، كَعَرَب، هذا الجديد الجمّ واليد على القلب انتظارا متوجسا لمعرفة كم ستدفع المطابع العربية، هذه السنة، من روايات لجمهور من القراء العرب غير متجانس وتخترقه عوامل عديدة من الإحباطات والنقص.