سلمى الحفار الكزبري اعتبرت مي زيادة قدوة ومسارها فناً يحتذى

أديبة عجنت مداد قلمها بخميرة أيام الآخرين

TT

رحلت الأديبة السورية سلمى الحفار الكزبري في صمت، في ما كانت المدافع والطائرات الإسرائيلية تدك لبنان، البلد الذي أحبته وعاشت فيه شبابها كما سنواتها الأخيرة. الحرب لم تسمح بالتقاط الأنفاس، واستعادة شيء من سيرة هذه الأديبة التي أرادت أن تكون نموذجاً للأديبة المؤثرة والفاعلة، يوم كانت النساء ما يزلن يدافعن عن حقهن في الخروج من البيت. سيرة تستحق أن تروى وطموح كان له بعض ما أراد.

في اول ابريل (نيسان) 1991 نشرت احدى الدوريات الدمشقية خبراً موسّعاً، حول رحيل الاديبة السورية سلمى الحفار الكزبري. وسرعان ما نقلته «النهار» البيروتية وارفقت به نبذة عن الاديبة الراحلة. وفعلت الشيء نفسه احدى الدوريات العربية اللندنية، ولحظة قرأت الخبر سارعت الى كتابة كلمة عن الأديبة الارستقراطية تحت عنوان «مي تكتب سيرة مي» في عدد 16 ابريل (نيسان) لصحيفة «صوت الكويت» اللندنية. بعد وقت قليل من توزيع العدد، اتصل بي الزميل الصديق عرفان نظام الدين، فهنّأني على المقال، وارفق التهنئة بالسؤال التالي: هل انت واثق برحيل سلمى؟ وضعفت حين أعلمني ان الاديبة «الراحلة» سوف تنتقل من «ماربيا» الى لندن بعد خمسة ايام لالقاء محاضرة بدعوة من الجمعية السورية ـ البريطانية. وبعد ان استعدت وعيي وتذكّرت ان الاول من ابريل (نيسان) هو يوم الكذبة البيضاء في كل عام، سارعت الى كتابة مقال آخر، اقسمت فيه ان لا اكتب مرة ثانية عن اي أديب أو فنان راحل قبل ان اجري مجموعة اتصالات للتأكد من صحة الرحيل، على ان يكون الاتصال الاول بـ«الراحلة» نفسها.

أما لماذا كان عنوان الكلمة «مي تكتب عن مي»، فلأن سلمى الحفار الكزبري كرّست عشر سنوات لجمع ما كتبته الاديبة اللبنانية المتمصرة مي زياده وما كتب عنها، مقدمة لوضع كتابها «مي زياده او مأساة النبوغ» الذي صدر بجزءين في عام 1987. ولعمق استغراقها بميّ واعجابها بأدبها وسيرتها خلال اعدادها للكتاب، صار اولادها ينادونها بـ«مي» بدلا من ماما او سلمى. والواقع، ان هذا الكتاب يحتل رأس لائحة مؤلّفات الأديبة الراحلة الـ21. ويعود ذلك الى غناه بالمعلومات الجديدة والمهمة، و«انحياز» الكاتبة لمي خصوصاً حين اتهمها احد اقربائها المتنفذين بالجنون واودعها بالقوة، مستشفى للامراض العقلية في لبنان، طمعاً بثروتها، ثم هناك موضوعية المؤلّفة واتباعها النهج العلمي في استحضار المراجع واصدار الاحكام.

لم يكن «مي زياده ومأساة النبوغ» الكتاب الوحيد الذي خصصته سلمى لمي. فقد أصدرت في عام 1979 كتاب «الشعلة الزرقاء» الذي تضمن رسائل جبران لمي التي اكتشفتها المؤلفة في القاهرة. وغلاف هذا الكتاب حمل اسم الدكتور سهيل بشروئي الى جانب اسم سلمى الحفار الكزبري، اضافة الى تذييل المقدمة بالاسمين. وبالمناسبة، فقد سمعت من المؤلفة، حين زارتني وقدمت لي نسخة من الكتاب، كلاماً يفيد عن عدم رضاها عن تلك الشراكة التاليفية. أما الكتاب الثالث المتمحور على مي، فقد صدر عام 1986 بعنوان «مي زياده واعلام عصرها» واحتوى على مجموعة رسائل متبادلة بين مي وبعض الأدباء ما بين 1912 و1940.

لعلّ احد اسرار حماسة سلمى لمي، يعود الى انها اعتبرتها قدوة لها في خوض غمار تحرّر المرأة في مجتمع ذكوري بامتياز، ومقدمة لان تلعب دورها في النهوض بهذا المجتمع المتخلف. وكما لعب الياس زياده صاحب جريدة «المحروسة» القاهرية، دوراً كبيراً في تعليم ابنته مي وتشجيعها على الكتابة وفتح صالون منزله لاستقبال الادباء على طريقة مدام دي سيفينييه في باريس، قام والد سلمى، لطفي الحفار (1885 ـ 1968) بالدور نفسه، فأدخلها في مدرسة الفرنسيسكان الدمشقية لتتعلم الفرنسية والانكليزية. وقد اتقنت الثانية وبرعت بالاولى، لدرجة انها اصدرت بعض مؤلفاتها بلغة جان بول سارتر، من مثل ديوان «الوردة المنفردة» 1958، وديوان «نفحات الأمس» 1966 وديوان «بوح» 1993.

ونتيجة وجودها مع زوجها الثاني السفير د. نادر الكزبري ـ تزوجت لأول مرة من محمد كرامي شقيق عبد الحميد كرامي وعم رشيد وعمر ـ في الارجنتين وتشيلي حيث تولى مهمة سفير لسورية، تعلمت الاسبانية واتقنتها لدرجة انها اصدرت ديوانا بهذه اللغة عام 1994 تحت عنوان «عشية الرحيل».

ولكن لطفي الحفار الذي تولى رئاسة الحكومة في دمشق، وتميّز بعشقه للثقافة، اصرّ على ان تتقن ابنته العربية أكثر من الانكليزية والفرنسية، لذلك، طلب من صاحبة مجلة «العروس» الدمشقية الاديبة الشهيرة ماري عجمي، ان تعطي سلمى دروساً في اللغة، وان تحرضها على كتابة المقالات والروايات والسِّيَر، بلغة متينة وبعيدة عن المفردات القاموسية.

وسرعان ما صدرت بواكير الاديبة الناشئة المولودة في عام 1923 في مجلة «الاحد» عام 1940، وتكثفت حتى عام 1950 لتشمل بعض الدوريات السورية واللبنانية. وبعد 1950، استمر النشر في الصحف، ولكن على خط مواز لنشر الكتب. اصدرت «يوميات هالة» في 1950، «حرمان» وهي مجموعة قصص معربة (1952)، «زوايا»، مجموعة قصص (1955)، «نساء متفوقات» سير نساء شرقيات وغربيات (1961)، «عينان من اشبيلية»، رواية (1965). وقد اختار عنوانها الشاعر نزار قباني. كما أصدرت «الغريبة»، مجموعة قصص (1966)، «عنبر ورماد»، سيرة ذاتية (1970)، «في ظلال الاندلس» محاضرات (1971)، «البرتقال المر» رواية (1975)، «جورج صاند ـ حب نبوغ» سيرة، (1970)، «حزن الاشجار« قصص قصيرة (1986)، «الحب بعد الخمسين» مذكرات، (1989)، «بصمات عربية ودمشقية في الاندلس»، محاضرات (1993).

لم تتقاعد الاديبة بعد ان بلغت السبعين، واصدرت عشرين كتابا؟ فـ«الامانة» التي سلمها اياها والدها قبيل رحيله، والتي تحتضن مذكراته دفعتها الى تأجيل التقاعد. هكذا، صدر كتاب «لطفي الحفار ـ مذكراته، حياته، وعصره» في مطلع عام 1997، وحفل بالمخطوطات والرسوم، وذيّل بفهرس طويل للاعلام. ولم تكن صلة القربى هي العامل الوحيد الذي دفع بالكاتبة الى وضع 456 صفحة من القطع الكبير. ثمة عامل آخر تحدده الكاتبة في المقدمة بأن يوميات والدها «سجل امين لمراحل تاريخية مهمة عاشتها سورية والبلاد العربية، ومن المفيد ان تطلع عليها الاجيال الجديدة لتستنير بما فيه ـ السجل ـ من احداث ومواقف وعبر». ومن محتويات السيرة ذات الصلة بالثقافة، ان لطفي الحفار دعا الى ندوة اسبوعية كل اربعاء في منزله منذ مطلع 1960، واستمرت سبع سنوات، وكان من روادها رشدي الحكيم، وظافر القاسمي، ونصوح الايوبي، وعفيف الصلح، والشيخ بهجت البيطار، والشاعر بدوي الجبل، والشاعر شفيق جبري، والشاعر سليم الزركلي. ص 406

ورغم ان الندوة ادبية، وصاحبها قد طلّق السياسة بالثلاث، فقد اعتقل في أبريل (نيسان) 1962 لمدة اسبوعين. واثر خروجه الى رحاب الحرية، زاره العقيد مطيع السمان قائد قوى الامن الداخلي آنذاك، فأخبره لطفي الحفار انه سجن ونفي ايام الفرنسيين عدة مرات، ولكنه «لم يلقَ من أعداء البلاد الفرنسيين ما لاقاه من سوء معاملة وتجاوزات السجانين والحكام، الذين كانوا يضعون على اكتافهم النجوم ويحملون الهوية السورية». (ص 419).

يبقى أن الأديبة الراحلة التي تميّزت بالكياسة والجمال، حازت وسام الملكة ايزابيل من اسبانيا، وجائزة البحر المتوسط من جامعة باليرمو في جزيرة صقلية، وفازت عام 1995 بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي.