سرقات إسرائيلية لإبداعات عربية بالجملة

TT

في بداية هذا العام، كانت مؤرخة الفن الإسرائيلية غانيت أنكوري تستعد لإصدار كتابها «الفن الفلسطيني» عن «دار ريكتيون» في لندن، ولكن الفنان والناقد التشكيلي الفلسطيني كمال بلاطة، الذي يعيش منذ عام 1967 في المنفى، أعلن ان الدارسة الإسرائيلية سطت على أبحاثه التي نشرها في الموسوعة الفلسطينية، وفي مراجع أخرى، وأنها استعانت به أثناء إعدادها للكتاب. وخاطب بلاطة الناشر، مبينا ما لديه من وثائق تثبت مزاعمه، فأجل الناشر نشر الكتاب، وتردد أنه طلب من المؤرخة الإسرائيلية إدخال تعديلات تأخذ بالاعتبار ما قدمه بلاطة حول السطو على أبحاثه. وصدر المؤلف أخيرا وأثار غضبة بين الكتاب الفلسطينيين، من دون أن يتمكنوا من فعل الكثير، وهو ما يذكر بسلسلة سرقات وعمليات تزوير أقل ما يقال فيها إنها تفتقر للبراءة.

بلاطة الذي نجح في تأجيل صدور كتاب المؤرخة الإسرائيلية، فوجئ بموقع قناة «الجزيرة» القطرية باللغة الإنجليزية، ينشر مقابلة معها عن كتابها، قبل صدروه، فحاول بلاطة التنويه عن ذلك، وارسل ردا للموقع، الذي تجاهل نشر الرد وفقا لما ذكر بلاطة.

وصدر كتاب المؤرخة أخيرا، وتحركت ضد الكتاب رابطة الفنانين التشكيليين في فلسطين، وأصدرت في منتصف شهر يوليو (تموز) الماضي بيانا أعلنت فيه أنها راجعت كتاب الباحثة، وان فصول الكتاب الثلاثة الأولى فيها «انتحال وتحريفات ذات تداعيات سياسية تمس بموضوعية تاريخنا الفني، وفي هذه الفصول التي تعنى بتاريخية الفن الفلسطيني تحديداً، لم تلتزم مؤلفة الكتاب بأدنى قواعد البحث العلمي، كما غضت النظر عن النزاهة الأخلاقية المتطلبة من أي باحث في موضوع اختصاصه».

أما كيف حدث ذلك، فقد ذكر البيان أن الكتاب اعتمد «التشويه المتعمد والتمويه المحكم لنتائج الأبحاث الميدانية الرائدة في هذا المجال التي وضعها زميلنا الفنان والباحث الفلسطيني كمال بلاطه والتي سبق أن نشرت له في كتب وموسوعات ودوريات أكاديمية على مدى العقود الثلاث الماضية، والتي وثق بواسطتها مختلف الثوابت التي تتعلق بحيثيات ولادة فن التصوير في فلسطين منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتحليل ما حدث لهذه الولادة إثر وقوع النكبة واقتلاع المجتمع الفلسطيني».

ورأت الرابطة التي تتخذ من مدينة رام الله مقرا لها انه «بعد المسخ والتحريف الملتوي لما ورد أصلاً في دراسات كمال بلاطة والاستشهاد الانتقائي منها بما يناسب غرض المؤلفة الإسرائيلية تارة، وتارة أخرى تزوير مصدرها الأصلي أو حجبه الكلي، قامت أنكوري في هذه الفصول الثلاثة، بتقديم أطروحة وتحاليل ومفاهيم سبق أن بلورها بلاطه في دراساته، وقدمتها كما لو أنها كانت نتيجة اجتهادها الخاص».

وختمت الرابطة بيانها بما يشبه نداء «فباسم رابطة الفنانين الفلسطينيين نطلب من الباحثين والمختصين الفنيين ومن وسائل الإعلام والعاملين في المجال الثقافي الانتباه لواقعة الانتحال الخفي هذه والتعامل مع هذا الكتاب بعين نقدية واعية تتصدى لما يبدو للوهلة الأولى وكأنه مساهمة فعلية لتوثيق الفن الفلسطيني. وعلينا أن ندرك أن عمليات تغطية الحقائق التي يقوم بها باحثون إسرائيليون وتولي الحديث بالنيابة عن الفلسطيني وتمرير روايات معدّلة للمنطق الكولونيالي تسعى اليوم لاستملاك الإنتاج الفكري في الوقت الذي تتابع فيه السلطات الإسرائيلية الاستيلاء على ما تبقى من أرض الوطن وطمر حقائقه التاريخية».

ورداً على ما ورد في مستهل الكتاب من إهدائه للفنانين الفلسطينيين، رفضت الرابطة ذلك بحسم وقالت «نحن في رابطة الفنانين الفلسطينيين نرفض هذا الإهداء ونطالب صاحبته بالاعتذار لتعديها على حقوق الملكية الفكرية للفنان والباحث كمال بلاطه».

ولا يعرف إلى أي حد صحيحة النتائج التي توصلت إليها رابطة الفنانين التشكيليين في فلسطين من تحذيرها مما يكتبه باحثون إسرائيليون، وإذا ما كان ما تحدثت عنه من «تمرير روايات معدّلة للمنطق الكولونيالي» ينطبق على الباحثة انكوري، التي تعذر الاستماع لوجهة نظرها. ولكن كلمة «تمرير» تصبح غير مناسبة أبدا، في سعي أقلام إسرائيلية، لتقديم روايات ليست «معدلة» فقط ولكن مغايرة ومختلقة، في ما يتعلق بالإبداع العربي، وهو ما يمكن أن يستشف من تحقيق صحافي نشرته صحيفة «معاريف» العبرية، وهي ثاني صحيفة إسرائيلية من حيث الانتشار، عن حياة الموسيقار العراقي صالح الكويتي، الذي شارك مع شقيقه الموسيقار داود الكويتي، في النهضة الموسيقية العربية العراقية منذ عشرينات القرن الماضي، وقدم بعضا من أهم الألحان والمقامات وغيرها من فنون عراقية، وارتبط اسمه بالمجد الذي حققته مطربون ومطربات في العراق.

ويشكل انتزاع فن صالح الكويتي من إطاره العراقي العربي، وإدراجه ضمن «الفن اليهودي» تحريفا صارخا، لا يبرره أبدا الاتهامات للأحزاب القومية العربية التي حكمت العراق، من أنها اتخذت موقفا استئصاليا تجاه ما قدمه الفنانين اليهود، وبأنه تم التخلص من ارشيفهم الفني، وحظر تقديمهم في وسائل الإعلام الرسمية، وهو اتهام إن صح فيبقى نسبيا، وإلا كيف يمكن تفسير بقاء فنانين يهود في العراق رافضين الهجرة إلى إسرائيل مثل المغنية سليمة مراد الملقبة بـ «سليمة باشا» بسبب حصولها على لقب «باشا» من نوري السعيد، آخر رئيس وزراء للعراق في العهد الملكي، وهي زوجة المطرب الشهير ناظم الغزالي، وبقيت مراد تغني في موطنها العراق، وكذلك الحال مثلا مع زميلتها في الغناء والديانة سلطانة يوسف.

وليس بعيدا عن اختلاق رواية جديدة، ما فعله اسحق هليفي الذي عمل في الإذاعة الإسرائيلية، في قسم الاستماع، في هذه الإذاعة التي كانت تخضع لتوجيه المخابرات الإسرائيلية، ثم تحول إلى مذيع يقدم نشرات أخبار موجهة للعالم العربي. واسم هليفي الحقيقي: بديع داود حسني، وهو ابن الموسيقار المصري الكبير داود حسني، أحد صانعي نهضة الموسيقى الشرقية في القرن العشرين.

وهاجر بديع داود حسني إلى إسرائيل وعمره 33 عاما واتخذ اسما عبريا، وعمره الآن 81 عاما، ومنذ هجرته إلى فلسطين التي ما زال يطلق عليها «ارض الميعاد» اصبح جزءا من المشروع الصهيوني في فلسطين، رغم انه انتقل بين عالمين، الأول حقق فيه والده مجدا موسيقيا ما زال معترفا به، وعالم جديد زج به في معسكرات الاستيعاب قبل السماح له بدخول «جنة إسرائيل».

وعمل بديع أو هليفي، ضمن فريق الإذاعة الإسرائيلية التي كانت دعائية وموجهة مع احتدام الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وحرص على تقديم نفسه كابن «للموسيقار اليهودي العظيم داود حسني» ، وكأن إبداعات حسني منفصلة عن تاريخ ومسيرة الفن العربي.

ويبدو أن هليفي كان آخر واحد يمكن أن يصدق الفصل القصري بين إبداع داود حسني وظرفه العربي، فلم يترك فرصة، بعد اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، ويزور فيها مصر إلا أن يقدم نفسه كابن للموسيقار الكبير، ومرة فاجأ الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما التقى هذا بصحافيين إسرائيليين، كاشفا عن هويته الحقيقية كابن لداود حسني رغم اسمه العبري، وكذلك فعل مع الرئيس المصري الحالي حسني مبارك، وقدم نفسه بهذه الصفة أيضا لعدد وافر من الكتاب والصحافيين المصريين.

وفي شهر مايو 2006، اصدر اسحق هليفي كتابا بالعربية عن «دار المشرق» داخل إسرائيل، بعنوان «بين زمانين ـ من أرض الكنانة إلى ارض الميعاد». وكما يلحظ من العنوان، فان هليفي يريد أن يوحي بأن هجرته من مصر، حيث ولد ونشأ، إلى فلسطين، جاءت كتطور طبيعي لشخصية يهودي نموذجي هاجر إلى «ارض الميعاد» .

واطلق هليفي على ابنه اسم دافيد تيمنا باسم والده داود، وفي كتابه لا يجد هليفي افضل من الاستعانة بأقوال لشخصيات عربية للإشادة بعبقرية والده مثل الشاعر احمد شوقي الذي قال عنه «ان داود حسني، كنز فني ثمين لا يقدّر بمال ودرّة ثمينة في الموسيقى العربية»، والموسيقار سيد درويش الذي قال «كلما لاح لي باب جديد في الموسيقى وجدت داود حسني سبقني إليه»، أما الموسيقار محمد عبد الوهاب فرأى «ان داود حسني عميد من عمداء التلحين في الشرق». وعن الموسيقار محمد القصبجي ينقل هليفي «لحّن داود حسني أعذب أدواره الغنائية لام كلثوم»، وعن الفنان محمد عثمان ينقل «استمعوا بعدي لألحان داود حسني فهو خليفتي على عرش الغناء».

وربما هذا يكفي ومن هليفي نفسه، لوضع فنان كبير مثل داود حسني، ضمن تطور فني طبيعي في مسار الفن العربي.وذكر هليفي اليهودي العربي سابقا، الإسرائيلي حاليا، يستدعي ذكر يهودي عربي آخر سابق، إسرائيلي حاليا، يحظى بنفوذ معنوي لدى الرأي العام الإسرائيلي، وله شهرة عالمية هو الروائي سامي ميخائيل، الذي رشحته بعض الأوساط العام الماضي لجائزة نوبل في الآداب، رغم اتهامه بالسطو على رواية مبدع فلسطيني معروف هو غسان كنفاني.

والحديث يدور عن رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» التي اتهم ميخائيل بالسطو عليها في روايته «حمائم في تلعفر» التي صدرت بالعبرية عن دار النشر «عام عوفيد» التي أعلنت أنها كشفت العلاقة بين الروايتين، بعد أن أثير الموضوع في الصحافة الإسرائيلية.

وأقر ميخائيل نفسه بذلك في حوار أجرته معه الصحافية داليا كاربل ونشر في صحيفة «هآرتس»، مبررا التشابه بين روايته ورواية كنفاني بالقول «أحيانا تبدأ في كتابة رواية لمجرد سماعك لحنا بالصدفة أو جملة يقولها شخص لا تعرفه، فتكون هذه هي الطلقة الأولى، واختياري لكنفاني لم أكن أدركه».

وواصل التبرير عندما سألته الصحافية الإسرائيلية: ما الذي غيّرته في رواية غسان كنفاني الأصلية؟ مجيبا «روايتي تبدأ من نظرة الأم الفلسطينية، الصراع عند كنفاني صراع رجولي لا يعرف الجانب الأمومي، فهناك رجلان يدخلان في مواجهة، في حين أن الأمهات يتصرفن بنوع من البلاهة، ولا توجد في روايته ولو بقية من الحب من جانب الأم تجاه الابن، في حين أنني كتبت روايتي عن الأمومة، والأم في الرواية هي التي تبادر بالاتصال بالابن وترعاه، وأمومتها تتفجر لحظة المواجهة بين زوجها والابن الإسرائيلي، هو أراد أن يمحوه من حياته في حين أنها لم تتنازل عنه. لقد انحزت إلى الأم في الرواية أكثر من أي شخصية أخرى».

وأعلن ميخائيل أكثر من مرة، مدافعا عن نفسه، انه تحدث بشكل علني عن تأثره برواية كنفاني، في روايته حتى قبل أن ينشرها، ولكن هذا لا يتسق مع محاولته التقليل من قيمة رواية «عائد إلى حيفا» فنيا، بعد التداعيات التي أعقبت اكتشاف علاقة روايته برواية كنفاني، وأكثر من ذلك يناقض تصريحاته في «هآرتس» من انه لم يكن يدرك التأثر بكنفاني.

وربما ذلك، تأثره برواية كنفاني ثم التقليل من سويتها الفنية، يعكس التناقض في حياته، فهو عراقي ولد عام 1926 في بغداد، ووصل إلى إسرائيل عام 1949، وأقام وسط العرب في حي النسناس في حيفا، وأحيط برعاية شخصيات عربية مثل إميل حبيبي وتوفيق طوبي وإميل توما، وكتب في صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي بالعربية، وعمل محررا بها وعرف باسمه العراقي سمير مراد، ولكنه غير اسمه إلى ما اعتبره اسما يهوديا فأصبح يعرف بسامي ميخائيل، وغير معه لغته، فأخذ يكتب بالعبرية التي تعلمها حديثا آنذاك، وهجر الكتابة بالعربية.

وفي آخر كتاب صدر باللغة العبرية تضمن مقابلات معه، أعلن انه غير صهيوني ولكنه ليس معاديا للصهيونية، وانه يعرف نفسه بأنه «وطني إسرائيلي» وانه منذ مرحلة مبكرة وهو في العراق عرّف نفسه كيهودي، وحتى تبنيه للشيوعية يعيده لنشأته، في ظرف وصفه بالصعب، كيهودي في العراق.

وهي تصريحات تناقض ما يتحدث به عادة لوسائل الإعلام العربية، وآخرها برنامج لمحطة «الجزيرة» القطرية عن «اليهود العرب»، بثته في عدة حلقات، ومن الصعب إدراجه، رغم ما صرف عليه من وقت ومال، ضمن ما يمكن أن تفخر به هذه القناة من حرصها على مهنية عالية.