في مدار نجيب محفوظ

رحل «مؤسس الرواية العربية» وتركنا مع الأسئلة

TT

لا يبدو، والعالم العربي يودع نجيب محفوظ إلى مثواه الأخير، أن الرجل يثير الكثير من الإشكاليات. فنحن أمام أديب كبير وشامخ، بإمكان كل منا أن يغدق عليه ما أحب من حميد الصفات ونبيلها. ويكاد كل من تكلم أو كتب عن محفوظ، ان يمتدح إضافة إلى عظمة أدبه، تواضعه، وحبه للعمل، ومثابرته، وسعة صدره، وصدقه، وإخلاصه، هذا عدا اعتداله وتهذيبه وحبه للنكته. ولائحة محامد نجيب محفوظ طويلة عريضه، لا يتسع لها مقال. لكن نجيب محفوظ لن يبقى كذلك طويلاً على الأرجح، مجرد أديب فذ، هادىء، تحتضنه المدائح، ويتحاشاه النقد. فهذا الأديب الكبير الذي رحل تاركاً وراءه ما يزيد على خمسين مؤلفاً وعشرات المقالات والأحاديث الصحافية، وسيرة امتدت على مدار قرن، ستثير حياته ومواقفه السياسية والفكرية، كما رواياته، ما لا يحصى من النقاشات، والحوارت، وسيشتعل حولها الجدل، ان لم يكن في القريب العاجل، ففي السنوات القليلة المقبلة. أسئلة كثيرة تستحق ان تطرح حول محفوظ، الكاتب والإنسان. لقد قيل الكثير حول محفوظ الموظف الذي غبنته الدولة حين سرقت وقته الثمين، ولم تمنحه راتباً يغنيه عن الدوام الذي كان يقضم قلمه، لكن هل كان محفوظ مهتماً فعلاً بأن يتفرغ للأدب. هو يقول الشيء وضده في مقالة (المنتدى ص 4). ثم أما كان بمقدور نجيب محفوظ أن يمتهن كتابة السيناريو ويكسب مالاً وفيراً، ويترك الوظيفة، ما دام قد بدا بالفعل يخطو باتجاه هذه المهنة منذ الأربعينات راغباً في مدخول إضافي؟ وكيف رضي هو الكاتب الذي تنتظر منه الجرأة والدفاع عن الحرية أن يتحول إلى رقيب يقص الأفلام ويحذف الأغنيات بحجة انها خليعة، وقد عانى هو نفسه ما عاناه من الرقابة؟ (ص 6) . الأسئلة التي تثيرها شخصية محفوظ كما أدبه، هي أكثر من الاجابات التي يبدو ان نقاد اليوم يفضلون الاسترخاء أمامها. فقد كان محفوظ يفضل ان لا تنبش مقالاته لا سيما تلك القديمة، خاصة وانه بدأ كتابتها وهو ما يزال تلميذاً في الجامعة، لكن هذه المقالات التي سطرها على مدى عقود من حياته هي كنز ثمين لا بد من نبشه، وعبرها بالإمكان حل كثير من ألغاز شخصية محفوظ، الذي بقي طوال حياته يدوّر الزوايا، ويتحاشى وجع الرأس، وكأنما جاء إلى هذه الدنيا بمهمة أدبية محددة يريد أن يؤديها، دون إزعاج من أحد، او ضجيج يربك مهمته.

ولربما كان نجيب محفوظ على حق في ان يتحاشى كل النقاط الخلافية، سياسية ودينية كما وإجتماعية، ليركز على انجاز مشروعه، بمداراة قلّ نظيرها بين الأدباء. ولكن الآن وقد رحل الرجل فإن نبش مقالاته القديم منها والجديد سيجعلنا أقرب منه وأقدر على قراءة دواخله وأعماقه (ص 7).

مانزال في النقد نسبح على شواطىء النتاج الأدبي المحفوظي، والكم الكبير من المؤلفات التي كتبت عنه بقيت غالبيتها بعيدة عن استكناه جوهر هذا المشروع الأدبي الكبير، فأي شخصية للمرأة رسم محفوظ، وهل هو محافظ كما يقول البعض، أم نزاع، تواق للحرية كما يقول آخرون، وكل منهم يحاول ان يدلل على صوابية رأيه بشواهد بالإمكان الاتيان بعكسها. ثم هل ان محفوظ فوتوغرافي روائي أرّخ للحارات المصرية القديمة، كما يشاع، أم تراه استلهمها فقط وأعاد بناءها حجراً وبشرا بحسه الروائي. بمقارنة بسيطة بين الأحياء التي رسمها محفوظ على انها حقيقة واقعة في رواياته، وتلك الأماكن كما هي على الأرض يتبين ان محفوظ كان خائنا للجغرافيا بقدر ما كان مخلصا لشطحات الخيال (ص 8 و9).

منذ كتب عنه سيد قطب تلك المقالات الجميلة مستشرفا مستقبله الأدبي الزاهر ( ص 5 و 6) وذاك الأديب اليانع لم يتوقف عن النحت في الشخصيات والنبش في أعماق النفوس حتى وصفته الصحف الأميركية بعد أن فارق الحياة بأنه كبير وعظيم مثل همنغواي، وكاره للسفر والترحال مثل فوكنر (ص 9). لكن محفوظ ليس ايا من اؤلئك الكبار الذين شبهته بهم، الصحف الأميركيه. انه نسيج وحده، روائي العرب في القرن العشرين الذي بات يستحق منهم أن يعرفوه بالعمق والمثابرة نفسيهما الذين صاغ بهما أدبه. رحل محفوظ المهادن ليولد على يد النقاد وفي عيون القراء أديباً أكثر إثارة للفضول والحيرة. في هذا العدد من "المنتدى الثقافي" مجموعة مقالات عن مؤسس الرواية العربية، لعلها تضيء على بعض ظلال الشخصية والأدب المحفوظيين.

المنتدى الثقافي