لعنة مترو الأنفاق تطارد «سور الأزبكية» .. أقدم سوق للكتب في القاهرة

محمود أمين العالم: السور قيمة تاريخية ونقله قضية رأي عام > محمد البساطي: حال السور الآن يعكس سمات عصر الهزائم > باعة السور: شكل السور كئيب والعودة لمكاننا القديم هي الحل

TT

في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي كان الباعة الجوالون للصحف والمجلات والكتب القديمة بالقاهرة، بعدما يهدهم تعب التجوال على المقاهي والأرصفة والشوارع يهرعون إلى سور حديقة الأزبكية، يضعون ما معهم أمامهم، ويتناولون غذاء بسيطا. لكنهم بمرور الأيام اكتشفوا أن ما يبيعونه خلال راحتهم فاق في بعض الأوقات ما يبيعونه طوال يومهم، فقرر عدد منهم «المكوث» على السور، وعرض ما معهم من مجلات وكتب. وهكذا بدأ «سور الأزبكية» أشهر وأعرق سوق للكتب القديمة في المنطقة العربية.

لكن يبدو أن هذا السور الذي يشكل أحد معالم الذاكرة الثقافية لمصر، ستظل تطارده لعنة مترو الأنفاق ومشاريع توسعته بالقاهرة، فباسم هذه التوسعة تم نقل «السور» حتى الآن ثلاث مرات، ويتهيأ حاليا لانتقال رابع، وفي كل مرة كانت تتمزق أوصال السور وتتناثر أحشاؤه ويجتهد المسؤولون في تسكين الوضع كما هو عليه، وعبثا يخبط أصحاب أكشاك الكتب رؤوسهم في الحائط. الانتقال الأول للسور كان في عام 1987 حيث وعد المسؤولون في محافظة القاهرة البائعين بالانتقال من حول السور، إلى مكان قريب أسفل كوبري الأزهر، وتم إخلاء السور من الكتب وباعتها، لكن المسؤولين لم يفوا بوعدهم وظل البائعون لأكثر من عام يسعون لإيجاد مكان مناسب يجمعهم، حتى تم نقلهم، للمرة الثانية، إلى مكان في حي الأزهر سمي «سور» الأزهر. ليظلوا هناك قرابة عشر سنوات انطفأ فيها بريق السور ودخل في متاهة النسيان، ثم استعاد السور بعضا من ذاكرته وعافيته مع الانتقال الثالث، حيث عاد على مقربة من مكانه الأصلي، في مكان محدود مقتطع من حديقة الأزبكية بجوار محطة المترو، وهو الآن مهدد بترحيل رابع، لأن الخط الثالث من مترو أنفاق العاصمة يحتاج إلى المساحة التي يشغلها. المحزن في الأمر، كما يقول بعض الباعة بالسور: «أن المسؤولين بدلا من أن يحمونا مما يحيط السور الآن من عشوائية وتشوه سمعي وبصري، نتيجة لاكتظاظه بالباعة الجوالين للملابس والأطعمة والإكسسوارات بصورة أفقدت المكان قيمته الثقافية والتاريخية، وكل هذا يفكرون في الإطاحة بنا ولا نعرف حتى الآن إلى أين». وبمرارة يقول أحد الباعة القدامى: «المدهش أن هؤلاء المسؤولين، وهم يصدعوننا يوميا بمشروع القاهرة التاريخية، لا يفكرون في استثمار هذا المكان كمنتجع ثقافي مفتوح، فبه ثلاثة مسارح بينها المسرح القومي أحد أقدم مسارح مصر، كما كان السور يطل من موقعه القديم على دار الأوبرا قبل حريقها وعلى بعد خطوات منه يقبع شارع محمد على أشهر شوارع الفن والفنانين بمصر. ويتابع البائع: «المحزن أيضا أن محطة المترو المجاورة للسور جدرانها تتزين برسوم لقناعي الوجه الضاحك والوجه الباكي»، وهما رمز فن المسرح المتعارف عليه عالميا، كما كان بها ثلاث مكتبات لبيع الصحف والمجلات والكتب لمؤسسات صحافية قومية تحولت اثنتان منها في الأشهر الأخيرة إلى محلات لبيع كروت الهواتف الجوالة. ويجمع الباعة القدامى بالسور والكثير من المثقفين المصريين على أنه يستحيل أن يكون هناك مثقف مصري لم يشتر من «سور الأزبكية» كتبا ومجلات في مرحلة من حياته.

* العالم: أين الضمير الثقافي؟

* وهو ما يؤكده الكاتب محمود أمين العالم، 84 عاما، الذي يعتبر أحد أقدم رواد السور في وقتنا الراهن. ويقول العالم إنه ظل حريصا طوال أكثر من ستين عاما، وحتى فترة قريبة على المرور بالسور مرة على الأقل في الأسبوع، لافتا إلى أن الكتب التي عثر عليها في «السور» كانت عاملا أساسيا في تشكيل وعيه وثقافته. ويصف العالم المنطقة المحيطة بالسور بأنها:«منطقة عجيبة، ساحرة، مفعمة بالحيوية والثقافة». ويستعيد العالم ذكرياته الأولى المبكرة مع السور حيث كان يفترش الباعة كتبهم على السور الحديدي وعلى الأرضية الملاصقة له: «كانت زيارتي للسور باعثا للبهجة والأمل، هناك كان وعيي يتفتح على عناوين كتب ومجالات ثقافية ومعرفية لم يكن بمستطاعي أن أتعرف عليها، لولا مصادفة المرور الدوري بالسور، الذي كان أشبه بمنجم للجواهر والكنوز غير المتوقعة». ويروي العالم أنه في فترة مبكرة من حياته الثقافية والسياسية الصاخبة، تعرف على السور بالعديد من الشخصيات المؤثرة في التاريخ الثقافي والسياسي المصري، ليس فقط من خلال كتبهم، بل بمقابلتهم والتحدث معهم وهم يتجولون حول السور. يتذكر بسعادة أنه قابل، وكان لا يزال صبيا صغيرا، محمود تيمور، أحد رواد القصة القصيرة في مصر، وكان قد قرأ له بعض كتبه فجادله حول أدبه وأفكاره فيها. وكانت أولى الكتب التي اشتراها العالم من السور في مرحلة الطفولة المبكرة القصص البوليسية، وكتب ألف ليلة وليلة. ويعتز العالم بعلاقاته الوثيقة التي توطدت عبر الزمن مع البائعين. ولكونه أصبح معروفا للجميع، ويعتبرونه ـ على حد قوله ـ «زبونا مضمونا» كان حريصا على المرور بالسور، حتى وإن كان مفلسا، يذهب لمجرد تصفح العناوين، وتقليب الكتب، وأحيانا يندمج في قراءة عابرة، وحين يلاحظ البائع اهتمامه بالكتاب الذي يتصفحه يعرض عليه البائع أن يأخذ الكتاب، ويدفع ثمنه فيما بعد «حين ميسرة». ويتساءل العالم:«من قرر نقل السور الأمر جيدا، أليس له ضمير اجتماعي أو ثقافي؟

ويضيف: «قرار نقل السور تعبير عن تجاهل الرأي العام الثقافي المصري، فقرار نقل مكان تراثي وتاريخي مثل هذا، لا بد من طرحه للرأي العام، ولا ينبغي فرض الأمر الواقع بشكل ميكانيكي على الناس القراء والباعة، فسور الأزبكية قيمة تاريخية وثقافية مهمة في حياتنا، لا ينبغي التعاطي معها بهذه السهولة».

ويصف الروائي محمد البساطي الوضع في السور حاليا بأنه: «لا يليق بمكانة الأزبكية، ذات الدور التنويري، واستمراره على هذه الشاكلة، يعد انتهاكا لكل قيم الذوق الجمالي والثقافي، فالمكان لم يعد مهيأ للثقافة والكتب، فقد سيطر عليه وتم تشويهه من الباعة الجوالين، الذين يفترشون الأرض ليبيعوا سلعا حياتية، وملابس تايوانية وصينية رخيصة الثمن».

وعن دور السور في تكوينه الثقافي يشير البساطي إلى أن كتب السور عرفته بجمال الغيطاني وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان وغيرهم، عندما كانوا في بداية مشوارهم الثقافي، قبل أن يصبحوا أسماء معروفة في الوسط الثقافي المصري والعربي.

ولا ينسى البساطي أول كتاب اشتراه من السور، وهو رواية «الأم» للكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي، اشتراه بثلاثة قروش في مطلع ستينات القرن الماضي، عندما جاء للقاهرة لإكمال دراسته الجامعية من بلدته في أعالي الدلتا. ويقول إن علاقته بالسور انقطعت الآن لقلة الكتب الأدبية المعروضة، و«طغيان» الكتب الدينية ذات التوجهات الحادة والمتطرفة. ويقول البساطي لو تأملنا حال السور الآن وما يعرض به من كتب، سنجد أنها تعكس سمات «عصر الهزائم» التي لم تنقطع منذ بداية حكم السادات في عام 1971 وحتى الآن.

* البائع عوض: أقترح نقل السور

* البائعون في السور، والذين يقدر عددهم بنحو 135 بائعا، لا يخفون حزنهم من مدى التدهور الذي وصل إليه حال السور. لكنهم مع ذلك يؤكدون تمسكهم بمهنتهم، وانهم لن يبرحوها إلى مهن أخرى.

وهو ما يشير إليه رضا عوض، أحد باعة الكتب في السور، والذي يبيع الكتب حديثة الصدور إلى جانب الكتب القديمة، وإعادة طباعة ما نفد منها. يقول عوض: شرعت في إنشاء دار نشر وتوزيع وبدأت بعدة إصدارات مهمة، منها إعادة إصدار النص الكامل من دون أي حذف لكتاب الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي»، لكن الوضع الحالي للسور يصيبني بالإحباط.

ويضيف عوض: «السور بشكله الحالي كئيب، ولا يتناسب مع قيمته، ويعبر عن انحسار الدور الثقافي في مصر، فبدلا من أن يكون سور الكتب الازبكية مزارا سياحيا وثقافيا، تحول سوق للباعة الجائلين! ويقترح عوض أن يتم نقل السور إلى ميدان التحرير، فهو أوسع، وأجمل ميادين القاهرة وأكثرها ازدحاما.

* رابطة للحفاظ على السور

*ويقول ممدوح، أحد قيادات الرابطة التي شرعوا في تكوينها للدفاع عن المهنة وتمثيل أعضائها أمام الجهات الرسمية: «مهنة بيع الكتب من أرقى المهن، ولقد قال لي واحد من المخضرمين في بداية عملي قبل ربع قرن حكمة عنها، أدركت فيما بعد قربها من الواقع، فقد قال: مهنتنا تحتاج لثلاث صفات من صفات الأنبياء: صبر أيوب، وعمر نوح، ومال قارون». ولا ينسى أنه عثر على نسخة من كتاب قديم، ونادر في اعتقاده، ضمن كتب كان قد اشتراها من أحد الأشخاص، من تأليف الرئيس المصري أنور السادات وهو بعد صاغ في الجيش بعنوان «الاستراتيجية العسكرية لغزوات الرسول»، وقد قام السادات بإهداء النسخة إلى أحد كبار الدولة ـ لا يتذكر اسمه.

ممدوح أشار إلى أن العاملين في بيع الكتب في السور يجب ألا ينظر لهم فقط باعتبارهم مسؤولين عن أسر سوف تتضرر حياتهم من أي تغيير يؤثر على دخل عائلهم، ولكن يجب أن ينظر إليهم باعتبارهم يؤدون دورا ثقافيا مهما للمجتمع، ويجب توفير الظروف المناسبة لهم.

ويقدم عدة اقتراحات أخرى لتجاوز أزمة «النقلة الرابعة» بحيث يتم تأسيس وضع دائم ومستقر و«مؤسسي» فيقترح أن تكون مسؤولية العاملين في هذا النشاط تابعة لوزارة الثقافة، وليس لمحافظة القاهرة أو الحي، فوزارة الثقافة من وجهة نظره ستكون أكثر تفهما لهم.

ويقترح كذلك أن تتم العودة إلى أكشاك حول سور الحديقة من الخارج، وهو المكان القديم للسور.

الحاج محمد، الذي بدأ العمل في بيع الكتب منذ أكثر من 45 سنة، يشير إلى انه كانت توجد في القاهرة ثلاثة أماكن لبيع الكتب القديمة هي: «سور السيدة زينب، وسور الأزبكية، وسور الجامع الأزهر»، ولكل منها مميزات وخصائص. وهو بدأ في سور الأزهر، حيث كان يقوم ببيع الكتب الدينية والتراثية، ويتذكر بفخر أن مفتى الديار المصرية الحالي الدكتور على جمعة، كان من زبائنه منذ أن كان طالبا.

المشكلة عند الحاج محمد ليست في النقل، بل في ما يمكن أن يحدث في المستقبل، فعلى الرغم من انه غير راض عن مكانهم الحالي، كونه في وسط حي العتبة، إلا أن مكان السور ـ كما يرى ـ غير واضح وضيق وله باب حديد وحيد ما يجعل المكان أشبه بـ«الزنزانة»، لكنه يخشى أن تتم إزاحة بائعي السور من هذا المكان نهائيا.

ويقول الحاج محمد: «إن الكتاب بطبعه لا يذهب لأحد، من يريده يذهب إليه، ولذلك لا بد أن يكون في مكان مكشوف، يستطيع المارة رؤيته والوقوف أمامه، وتصفحه على راحتهم، وإذا لم تتوافر هذه الظروف في المكان المقترح فلن يأتي المشترون».

سألت بعض البائعين عن عناوين الكتب الأكثر رواجا الآن بالسور، فأشاروا إلى أنه بعد أحداث لبنان، ازداد الطلب بشكل خاص على كتب الشيعة، سواء الكتب القديمة التي تتناول أفكارهم ورؤيتهم لقضايا الدين والحياة، أو الكتب الحديثة التي تتناول أفكار «حزب الله» نفسه.